العطاء للدين في حياتنا

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ أهمية العمل والبذل لدين الله تعالى 2/ أمثلة رائعة لأعمال عظيمة لخدمة الدين 3/ تضحيات السلف في سبيل الدفاع عن الإسلام 4/ عظم دور ضمام بن ثعلبة 5/ جهود عبد الرحمن السميط في خدمة الإسلام 6/ أين العطاءُ للدين في حياتنا؟ وما حجمه؟ 7/ خطورة التدين السلبي الجامد.

اقتباس

أسلم على يديه أكثر من أحد عشر مليون إنسان من أربعين دولة خلال ثلاثين عامًا قضاها في إفريقيا داعيًا إلى الله، لما رأى ملايين البشر يقتلهم الجوع والفقر والجهل والتخلف والمرض، وشاهد وقوع المسلمين تحت وطأة المنصِّرين الذين يقدمون إليهم الفتات والتعليم لأبنائهم في مدارسهم التنصيرية. كان أكثر ما يؤثر في السميط إلى حد البكاء حينما يذهب إلى منطقة ويدخل بعض أبنائها في الإسلام، ثم يصرخون ويبكون على آبائهم وأمهاتهم الذين ماتوا على غير الإسلام، وهم يسألون: أين أنتم يا مسلمون؟ ولماذا تأخرتم عنا كل هذه السنين؟ كانت هذه الكلمات تجعله يبكي بمرارة، ويشعر بجزء من المسئولية تجاه هؤلاء الذين ماتوا على الكفر.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، لا ربَ غيرُه ولا معبودَ بحقٍ سواه. وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.

 

أما بعد أيها الإخوة: حقٌ علينا أن نتقى الله حق التقوى، ونحمده أن تفضل علينا بأن هدانا لهذا الدين القويم؛ دين الإسلام.

 

ونشكر الله أن اختاره لنا وهو أثمنُ هبةٍ وهبنا إياها، وأعظمُ منةٍ منَّ بها علينا.. فهو النعمةُ التامةُ.. والفضلُ المبين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) [المائدة:3].

 

إن هذا العطاءَ الإلهيَ، والهبةَ الربانيةَ منه –سبحانه- تُشعرُ المؤمنين بكِبرِ نعمةِ الله عليهم، فتتضاءلُ النفسُ أن تكونَ ثمناً لهذه النعمة.

 

يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ"، وذكر منها "وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" (رواه البخاري).

ولذا حفلت مسيرة المؤمنين في التاريخ بصور من العطاء للدين بسخاوة نفس.

ثمنًا لعطاء الله من الهداية... ثمنا لنعمة الله بالنور المبين... حتى الحياة أعطتها بسخاوة نفس يوم كان ثمنها هذه العقيدة وهذه الرسالة...

 

استمع إلى سحرة فرعون يَتَقَبَلُون وعيدَه وهو يقول: (فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) [طـه:71] فماذا كان الجواب على هذا التهديد..؟ بل كيف استقبلوا هذا الوعيد وقد وصل فيه فرعونُ إلى كل ما يستطيعه من تنكيل..؟

 

استمع إلى ثبات المؤمن المستشعر لعِظم المنة بالهداية، المنتظرِ من الله فضلا تُحْتَقَرُ له الحياةُ كلُها، استمع إلى جواب السحرة وهم يقدمون للدين أرواحَهم بسخاوة نفس: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه: 72، 73].

 

أيها الأحبة: إنه الإيمان.. إنه الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوب استحكَم الولاءُ له.. وكان العطاءُ للدينِ سخياً غايةَ السخاء لأنه معاملةٌ مع كريمٍ، وتلقٍ لمننٍ من إله عظيم..

 

أيها الإخوة: إذا كانت الحياةُ تُقدمُ فداءً للدين، وثمناً للدين فهيَ كذلك تُسخرُ لخدمةِ الدين، تُسخرُ للعطاءِ للدين، إذاً كلُ ما فيها لله، وإذاً هيَ حياةُ أوقفت كلُّها لله.

 

ثم سرح طرفك في مسيرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترى العجب: هذه أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ -رضي الله عنها- لما جهزت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكرٍ جهازهما للهجرة. جمعت سفرةَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- التي فيها طعامُه، والسقاءَ الذي فيه شرابُه، ثم جاءت لتحملَهما فلم تجد ما تربطُ به السفرةَ والسقاء، فعمدَت إلى نطاقِها فشقته نصفين فربطت بأحدهما السفرةَ وبالأخرِ السقاء. والنطاق قماش يشد به الظهر.

 

امرأةُ تأبى إلا أن تقدم للدين، وتُعطيَ للدين ولو كانت لا تملكُ إلا نطاقها فليكن عطاؤُها هذا النطاق، وإذا لم يكن النطاقُ كافيا فليشقَ النطاقُ نصفين.

 

أخي المبارك: ثم انظر إلى نماذج فذة من أصحاب رسول الله -رضي الله عنهم- بذلوا وضحوا، فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- "كَانَ فَتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالًا, وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَلِيئَةً كَثِيرَةَ الْمَالِ، تَكْسُوهُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ وَأَرَقَّهُ, وَكَانَ أَعْطَرَ أَهْلِ مَكَّةَ يَلْبَسُ الْحَضْرَمِيَّ مِنَ النِّعَالِ, فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُهُ وَيَقُولُ: "مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحَدًا أَحْسَنَ لِمَّةً، وَلَا أَرَقَّ حُلَّةً، وَلَا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ" فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِهِ، فلما علمت أُمُّهُ بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية. ثم خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى".

 

ولما عاد بعثه وبايع رسول الله الأنصار بعثه معهم معلماً فأسلم على يديه خلق كثير.. نعم لقد هجر النعيم والدعة وهاجر داعية إلى الإسلام في المدينة..

 

وهذا عليّ -رضي الله عنه- يعرِّض نفسه للهلاك بنومه في فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- عشية الهجرة.. ويرمي البراء نفسه بين الأعداء في حديقة الموت، فيفتح الله للمسلمين بسببه، ويُعرِض أبو الدرداء عن التجارة تفرغاً لمجالسة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقبِّل عبدالله بن حذافة السهمي رأس زعيم الروم المشرك ليعتق له أسرى المسلمين..

 

وهذا ضمام أبن ثعلبة -رضي الله عنه- يأتي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن أركان الإسلام الخمسة فيخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا عرفها آمن بها ثم رفع أصابعه الخمس قائلا: "يا رسول الله! والله لا أزيد على هذه ولا أنقص".

 

ورأى -رضي الله عنه- أن عليه أن ينقلب إلى قومه داعيا إلى الله يقول لهم: "يا قوم بئست اللات، بئست العزى".

 

فظل يدعوهم حتى لم يبقَ بيتٌ من بيوتهم إلا دخله الإسلام، فقال عمر -رضي الله عنه-: "ما رأينا قادمًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أيمن من ضمام بن ثعلبة".

 

صور متنوعة من العطاء للدين والبذل له يسطرها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطول سردها، لكنها في الأخير هي عطاء للدين.

 

إن وضوح هذا المعنى للصحابة والتابعين هو الذي دفع كتائبهم في عرض الأرض وطولها، فإذا مائة سنة تشهد أعظم إنجاز يتحقق على الأرض يوم طوي بساط المشرق إلى الصين، وبساط المغرب إلى المحيط الأطلسي تفتحه كتائبهم.

 

ما كان هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي الرجال الذين يعلنون في كل موقعة قائلين: "أن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد".

 

إن معنى العطاء لهذا الدين كان أمراً تُشْرَبُ به نفوس الصحابة منذ أن بسطوا أيديهم إلى كفِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مبايعين على الإسلام.

 

أحبتي: لم يزل رحم هذه الأمة معطاء -ولله الحمد- ولودا بالرجال والنساء الواحد منهم كالألف فهذا د. عبد الرحمن السميط -رحمه الله-، أسلم على يديه أكثر من أحد عشر مليون إنسان من أربعين دولة خلال ثلاثين عامًا قضاها في إفريقيا داعيًا إلى الله، لما رأى ملايين البشر يقتلهم الجوع والفقر والجهل والتخلف والمرض، وشاهد وقوع المسلمين تحت وطأة المنصِّرين الذين يقدمون إليهم الفتات والتعليم لأبنائهم في مدارسهم التنصيرية.

 

كان أكثر ما يؤثر في السميط إلى حد البكاء حينما يذهب إلى منطقة ويدخل بعض أبنائها في الإسلام، ثم يصرخون ويبكون على آبائهم وأمهاتهم الذين ماتوا على غير الإسلام، وهم يسألون: أين أنتم يا مسلمون؟ ولماذا تأخرتم عنا كل هذه السنين؟ كانت هذه الكلمات تجعله يبكي بمرارة، ويشعر بجزء من المسئولية تجاه هؤلاء الذين ماتوا على الكفر.

 

يقول الدكتور -رحمه الله-: "أمشي مئات الكيلومترات.. تتعطل سيارتي.. تتقطع نعالي.. لكي أصل إلي قرية من القرى، وأجد في نفس الوقت النصراني المبشِّر يأتي إلي هذه القرية بالطائرة".

 

 لم تقعده الحياة الرغيدة ولا العيش الهنيء في الكويت عن التقديم للدين... ولم يمنعه كبر سنه ولا مرضه، ولم تمنعه وحوش إفريقيا؛ فقد حاصرته أفعى الكوبرا في موزمبيق وكينيا وملاوي غير مرة، لكن الله نجاه، ولم تثنه محاولة اغتياله عدة مرات من قبل المليشيات المسلحة بسبب حضوره الطاغي في أوساط الفقراء والمحتاجين.

 

والنماذج كثيرة.. جعلنا الله جميعا ممن يوفقون للتقديم لدينهم إنه جواد كريم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الأحبة: إن هذا المعنى العظيم معنى العطاء للدين، والبذل له، وتسخير الحياة من أجله حتى إذا الحياةُ كلُها، بليلِها ونهارِها، وإذا النفسُ بمشاعِرها ووجدانها وبكلِ طاقاتِها مسخرة لهذا الدين.

 

هذا المعنى قد توارى أو خفتَ في نفوسِ كثيرٍ من المسلمين مع الأسف.. ولو أن كل نفس مسلمة أُشربت هذا المعنى وسُخرت للدين هذا التسخير، لرأينا العجب.

 

إن هذا المعنى أمر ينبغي أن يُذكى في القلوب، ويُوقدَ في النفوس، وتُشحذ له العزائم وتُسخر له الطاقات.

 

أيها المؤمنون بالله رباً وبمحمد رسولاً: ليسأل كل واحد منا نفسه هذا السؤال: أين العطاءُ للدين في حياته، وما مساحة هذا الهم في نفسه..؟ .. وهل حاول جهده أن يكون مؤثرا ولو في مجتمعه الصغير..؟ هل العطاءُ للدين همّ جاثمٌ في القلوب يحركُها إلا أن تعطي...؟ يبعثُها إلا أن تُقدم..؟

 

لنتساءل بالتفصيل: هل اشتريت مصحفاً وبعثته لبلاد يمكثون الأيام لانتظار دورهم في قراءته..؟ هل استثمرت مقدرتك على استخدام الحاسب الآلي ومهارتك الفائقة في التعامل معه، ومع الإنترنت لإيجاد فرص للدعوة إلى الله، ونشر العلم الصحيح على منهج السلف الصالح..؟

 

هل وجدت نفسك تتطلع لدفع الصدقة للدعوة إلى الله، ومساعدة الأنشطة الإسلامية، والجهد الهادف، والدعوة الخيرة داخل بلادنا مثل دعوة الجاليات، أو خارجها عبر المؤسسات الإسلامية الموثوقة والمرخصة من الدولة من كفالة للدعاة ومحفظي القرآن وإنشاء المعاهد الإسلامية..؟

 

أيها الأثرياء هل فكرتم بتخصيص أوقافٍ للدعوة إلى الله تعالى فقط..؟

وأخيرا هل فكر كل واحد منا كبر أو صغر ماذا قدم زكاةً لهدايته..؟ أسئلة أخشى أن تكون إجابتنا عليها ضعيفة..

 

أيها الأحباب: إن الطاقة موجودة، ولكن تحتاج إلى توظيف... وهي كامنة ولكن تحتاج إلى تشغيل... وصدق النية موجود، ولكن نحتاج إلى عزيمة وهم ليخرج للوجود.

 

ولو قام كل مسلم يعلم أنه يتحمل مسئولية بلاغ رسالات الله بدعوة فرد واحد فقط فأي نتيجة سنحصل عليها..؟ إنها بالملايين.. إذاً فأي طاقة نملكها في نشر دين الله..؟ وأي جهد يقدم للدعوة من خلال ذلك..؟

 

إننا سنجد أنفسنا أمام عملية إصلاح واسعة لا نظير لها تُوقظ الأمة من رقاد.. وتُفيقها من غفلة... بل تبعثها من ممات وتحركها من همود..

 

أيها الأحبة: إن واجبنا أن نتفقد أنفسنا لنعرف ما مقدار الهم للعمل للدين في قلوبنا..؟ ثم نحول ذلك الهم إلى برنامج عملي يومي نعيشه في حياتنا... لقد مرِضَ بعضُ المسلمين اليومَ بالتدينِ السلبيِ الجامدِ الهامد الذي لا يقدمُ ولا ينفعُ ولا يحرك..

 

إننا اليوم أمام خيرٍ لا خيار لنا غيره؛ وهو أن نقدم لديننا، وأن نعيش له حتى نلقى الله وقد قدمنا شيئا لهذا الدين. (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل: 20].

 

 

 

المرفقات

للدين في حياتنا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات