العصبية وأثرها في سقوط الأمم - الأندلس نموذجا

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: دروس التاريخ

اقتباس

إن صنم العصبية القبلية وتقديم الولاء للقبيلة على الولاء للإسلام من أخطر الأصنام التي يجب على الخطباء والدعاة والعلماء التحذير منها؛ فلا يخلو عصر ولا جيل من وجود دعاة فتنة ومثيري فتنة العصبية، ولو...

عندما أشرقت دعوة الإسلام على ربوع جزيرة العرب، كانت هناك أصنام يعبدها الناس من دون الله -تعالى-، نصبوها في مجالسهم وبيوتهم ونواديهم، وطوقوا بها بيت الله الحرام، وكانت هناك أصنام من نوع آخر وأخطر؛ وهي أصنام العقول والقلوب والنفوس، والتي ترسخت عبر العصور، وتناقلتها الأجيال بكل احترام وتقديس يفوق التقديس الآخر للأصنام المادية المصنوعة من الحجارة، أصنام موروثات الآباء والأجداد، من التقليد والاتباع والتعصب للقبيلة والعرق والتفاخر بالأحساب والأنساب. وتلك الأصنام المادية والمعنوية مثلت في مجملها أهم ركائز وسمات الجاهلية الأولى، لذلك كانت أشد خطراً وأعظم ضرراً.

 

فتلك الأصنام الفكرية كانت تمثل سمات ودعائم الحياة الاجتماعية والفكرية التي اعتمد عليها مشركو العرب في بناء هويتهم وتميزهم وسط الحضارات القائمة وقتها، والتي كانت تفوق حضارة العرب ببون شاسع، عوضه العرب بعصبية قبيلة عضدت مكانة العرب وهويتهم بين أكبر قوتين على وجه الأرض وقتها؛ الروم في الشام وما بعدها، والفرس في العراق وما بعدها.

 

العصبية القبلية كان لها حضور قوي وكبير قبل الإسلام، بها وعليها وتحت رايتها تقاتلت القبائل العربية وتنافرت وتفاخرت وتشرذمت وذهبت في كل واد من أودية الشقاق والشتات والتمزق، ولم تقف بهم العصبية القبلية عند حدّ من حدود العقل أو العرف أو الشرف، حتى رأينا حرباً اشترك فيها معظم القبائل العربية، استمرت لأكثر من أربعين سنة بسبب سباق بين فرسين؛ داحس والغبراء!! ورأينا حرباً استمرت هي الأخرى لأكثر من أربعين سنة بسبب مقتل ناقة!! وهي حرب البسوس. وهكذا كان حال العرب وعصبتهم القبلية المقيتة قبل ظهور الإسلام.

 

وحتى ندرك أثر العصبية القبلية في نفوس العرب، انظر لردّ فعل أبي جهل -لعنه الله- بعد أن استبان له صدق دعوة الإسلام، عندما قال للأخنس بن شريق: " تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا (أو تحاذينا) على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه". فالعصبية عطلت حواسه، وحجبت عقله، وأظلمت قلبه، فلم يسمح لنفسه بالإذعان والإيمان رغم الاعتراف والإقرار بالصحة والصدق!!

 

بل إن العصبية القبلية كانت سبباً في إسلام حمزة بن عبد المطلب بادئ الأمر، ثم ما لبث أن أسلم وآمن وصار عزاً للدين وأهله. والعصبية القبلية دفعت بني هاشم؛ مؤمنهم وكافرهم، لئن يدخل شعب أبي طالب في الحصار الشهير الذي طال لثلاث سنوات، حمية وعصبية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

إجمالاً كانت العصبية القبلية من أكبر وأرسخ وأعمق معتقدات الجاهلية، وأهم سماتها ودعائمها، وكانت من أخطر وأقوى خصوم الدعوة الإسلامية، وأصلب موانعها، فقد نزلت في جذر القلوب والنفوس، ورسختها الأحداث والوقائع والأشعار والآباء والأجداد.

 

موقف الإسلام من العصبية القبلية

وكما كان الإسلام حريصاً على هدم الأصنام الأولى وتكسيرها أمام أعين الناس، كان أحرص وأشد اعتناءً بهدم الثانية في النفوس، واقتلاع آثارها من القلوب، لما كان لها من دور محوري وبالغ الأثر في تعويق انتشار الدعوة الإسلامية؛ خاصة صنم العصبية القبلية والذي كان يتنافى جملة وتفصيلاً مع شريعة الإسلام القائمة على المساواة، ومع عقيدة الولاء والبراء التي ترفض بمنتهى حسم أي ولاء وبراء على غير لا إله إلا الله.

 

فالإسلام منذ الوهلة الأولى أعلن رفضه لأي وشيجة غير وشيجة الإسلام، ليست وشيجة الدم والنسب، وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة ولا الجنس والعنصر، ولا الحرفة والطبقة إنها وشيجة العقيدة فقط، ولا وشائج غيرها.

 

وقد تضافرت نصوص الوحيين في التأكيد على نبذ العصبية القبلية ومجاهدة النفس لاقتلاع جذورها الراسخة من النفوس والقلوب، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات:11]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات:13]، وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آلعمران:103].

 

وقصة ولد نوح -عليه السلام- من أوضح أمثال القرآن على بطلان العصبية وقطع وشائجها، قال -تعالى-: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِين *قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[هود:45-46]، وقال -تعالى-: (لا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ واليَومِ الآخِرِ يُوَادٌّونَ مَن حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم)[المجادلة:30].

 

وسبب نزول هذه الآية وحدها يكفي لحسم قضية العصبية من جذورها، حيث نزلت في المثال الأروع الذي ضربه الصحابة -رضوان الله عليهم- لعقيدة الولاء والبراء مهما كانت تبعاتها وعواقبها؛ فقد قال أهل التفسير في الآية أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم أحد، وفي أبي بكر الصديق حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وفي عمر بن الخطاب حيث قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر، وفي علي وحمزة حين قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغ أحد على أحد"، وقال: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى"، وقال: "من قاتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب لعصَبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتل فقِتلةٌ جاهليةٌ"، وقال -بأبي هو وأمي-: "إن الله -عز وجل- قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن".

 

ولعلم الشارع الحكيم أن العصبية من طبائع البشر الراسخة داخل قلوبهم، وأن جذورها باقية في القلوب -لا محالة- فإن الإسلام استفاد من العصبية وأخذ في تطويعها لصالح قضايا الإسلام الكلية، ونزع أشواكها الضارة مثل التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب والتأييد الأعمى، بحيث تصبح العصبية جنداً من جنود الحق وخدمة الدين؛ فقد مرّ بنا كيف حاطت عصبية بني هاشم الدعوة في مراحلها الصعبة، وكيف أدت العصبية لإسلام بعض كبار الصحابة مثل أسد الله؛ حمزة بن عبد المطلب.

 

فالعصبية كانت تشعل الحمية والحماسة في القلوب، لذلك عمد الخلفاء وقادة الجيوش في حملات الفتح الإسلامي الأولى على استخدام لُحمة القبيلة لصالح حركة الفتح، ففي معركة اليمامة ضد مسيلمة الكذاب اختلطت صفوف المسلمين، فصاح بهم خالد بن الوليد -رضي الله عنه-: "أيها الناس تمايزوا حتى نعرف من أين نؤتى". فتميزت كل قبيلة في صفوفها وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن شماس. والأمر نفسه استخدمه يوم اليرموك وفي فتوح العراق.

 

معركة الإسلام والعصبية

ظلت العصبية القبلية الجاهلية من أشد خصوم الدعوة الإسلامية، ظلت تناوئ الإسلام وعقيدته وشريعته، واستمرت المعركة بين الإسلام والعصبية من عهد النبوة إلى وقتنا الحاضر تاركة ورائها الكثير من الضحايا والآثار السلبية والسيئة في تاريخ الأمة بعد أن ذرّت قرنها الحاد في جسد الأمة وأثخنته بالكثير من الجراحات، وتسبب في سقوط ممالك ودول إسلامية كبيرة وعريقة، وكانت واحد من أثقل معاول الهدم لجسد الأمة.

 

فالعصبية حاولت التفريق بين الأنصار والمهاجرين تارة، وحاولت التفريق بين جناحي الأنصار؛ الأوس والخرج تارة، وكان لوجود النبي -صلى الله عليه وسلم- دور حاسم في حسم مادة العصبية الخبيثة، ثم ظهرت العصبية في حرب الردة عندما انحاز عدة قبائل لمدعيّ النبوة بدافع العصبية مع إقرارهم بكذب هؤلاء الدجالين، ويتضح ذلك في قول طلحة النمري لمسيلمة الكذاب عندما سأله عن آية نبوته: "أشهد أنك الكاذب وأن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر".

 

وتعتبر معركة "مرج راهط" بين مروان بن الحكم -الذي بايعه أهل الشام بعد وفاة يزيد بن معاوية واعتزال ابنه معاوية الثاني الأمر- والضحاك بن قيس -الذي بايعه أهل دمشق وكان يدعو لبيعة ابن الزبير-، وقد استغرقت المعركة 20 يوماً وانتهت بنصر مروان بن الحكم في عام 64 هـ (683م).

 

كان لهذه المعركة دور هام في استتباب أمور الدولة الأموية لمروان بن الحكم وأولاده من بعده. تعتبر هذه المعركة مفجرة العصبية القبلية وباعثتها من جديد بكل قوة، إذ فتحت الباب على مصراعيه لعداوة وحرب لا تنتهي بين عرب الشام -القيسية- وعرب اليمن -اليمانية- وهي العداوة التي ظلت في تنامي وإحن وضغائن وصراعات طويلة، وظلت العصبية القبلية تسدد ضرباتها إلى جسد الدولة الأموية، والدولة تقاوم وتستخدم الشدة والعنف مع خصومها وتستعمل أشد الولاة وأغلظهم لوأد العصبية، ولكن هيهات هيهات، اشتعلت نيران العصبية في خراسان واستغلت الدعوة العباسية هذا الاشتعال ونفخت في أوره حتى تمكنت في النهاية من الاستيلاء على خراسان من ثم بدأ التداعي الكبير للدولة الأموية الكبيرة والقوية والتي انهارت تحت ضربات العصبية القبلية.

 

العصبية وسقوط الأندلس

فتح المسلمون الأندلس سنة 92ه في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وكان فتحها من أعظم الفتوحات ودرة إنجازات الدولة الأموية. وقد تم فتحها على مرحلتين: الأولى بقيادة طارق بن زياد البربري، والثانية بقيادة موسى بن نصير العربي.

 

وهذه المشاركة في الفتح الإسلامي كانت دليلاً على اتساع مظلة الإسلام وعدالته ومساواته بين جميع أبنائه، ولكن ذلك الأمر كان من مداخل شيطان العصبية بين المسلمين!! وهو الشيطان الذي يستغل فترات الضعف والغفلة والخلاف بين المسلمين حتى يحضر ويوسوس في صدور الناس ويملئها بالأحقاد والضغائن القديمة.

 

فقد ظلت الأندلس ولاية تابعة للدولة الأموية من سنة 92ه حتى سنة 138ه، تناوب على ولايتها 23 والياً ال15والياً الأوائل انشغلوا بالجهاد ضد الإسبان والتوسع في أوروبا حتى سنة 114ه وهي السنة التي شهدت معركة بلاط الشهداء الملحمية والتي استشهد فيها معظم قادة وأنجاد وأبطال وعقلاء المسلمين، ولم يبق إلا دعاة الفتنة والمحترقون بفكر العصبية القبلية.

 

شاع فكر الخوارج بين قبائل البربر بعد أن تعرضوا لضربات قاصمة في المشرق، فانتقلوا للمغرب وبلاد الأندلس، واستغل الخوارج نقمة البربر من استئثار العرب بالمناصب القيادية في إشعال فتيل حروب طاحنة بين جند الفتح من عرب وبربر. وفي سنة 121ه وقعت مقتلة عظيمة بين العرب والبربر في أحواز طنجة سميته بواقعة الأشراف لكثرة من قتل من أشراف القبائل العربية. فتذامر العرب فيما بينهم بعد أن استطال البربر عليهم وقضوا على ثورة البربر والخوارج، وأُجبرت قبائل البربر على الخروج من الأندلس وعادوا إلى المغرب، وخسر المسلمون بسبب اختلافهم واستجابتهم لشيطان العصبية ربع بلاد الأندلس؛ خسروه بلا قتال مع عدوهم، والله ورسوله بريئان من هذه الجاهلية المنتنة.

 

ثم ما لبثت أن اندلعت العصبية القبلية بين العرب أنفسهم؛ قيسية ويمانية، بسبب سياسات الولاة وأغلبهم كان من القيسية، ورغم محاولات بعضهم رأب الصدع إلا إن العصبية الجاهلية قد زادت قوة واستفحلت حتى أعمل المسلمون سيوفهم في أنفسهم ووقعت مقتلة رهيبة في معركة شقندة سنة 130ه - 747ميلادية، بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري وحلفائه القيسية بقيادة الصميل بن حاتم، واليمانية بقيادة أبو الخطار الكلبي وانتهت بانتصار القيسية على اليمانية ومقتل أبو الخطار الكلبي.

 

وكما قامت الدولة الأموية في المشرق إثر معركة "مرج راهط" التي فجرت العصبية القبلية، فقد قامت الدولة الأموية في الأندلس سنة 138ه إثر معركة "المصارة" ولولا فطنة وذكاء صقر قريش عبد الرحمن الداخل الذي استطاع أن يوازن بين القيسية واليمانية لسقطت الأندلس إثر معركة المصارة وانتهت للأبد مبكراً جداً.

 

ومن كثرة ما كانت تثيره العصبية القبلية من مشاكل في الأندلس أقدم بعض أمراء الأندلس مثل عبد الرحمن الناصر(277 ه-350ه) على عدم الاعتماد على القبائل العربية في جهاد الإسبان بعد خذلانهم له في معركة الخندق سنة 327ه، وعلى دربه سار الحاجب المنصور والذي تشدد مع القبائل العربية من أجل القضاء على العصبية القبلية، حتى أنه شردهم داخل الأندلس وفكك عصبية كل قبيلة في كور الأندلس، ومنعهم من الجهاد، وألزمهم دفع الأموال لتمويل الجيوش على قدر إمكانهم مثل عموم الناس، فصارت العرب رعية بعد أن كانوا القادة والساسة، وفي المقابل توسع في استخدام البربر والصقالبة لسدّ الفراغ العربي، وهي الخطوة التي ستؤدي في النهاية لانهيار وحدة الأندلس، وظهور عصر ملوك الطوائف.

 

وفي سنة 399ه كانت الأندلس على موعد مع جولة جديدة للعصبية القبلية ولكنها هذه المرة كانت القاضية؛ فقد تولى حكم الأندلس محمد المهدي (366ه-400ه) وفي عهده دخلت العصبية القبلية منعطفاً خطيراً حيث أظهر كراهيته الشديدة للبربر، وجرأ العامة عليهم، وأهان زعماءهم، واغتال رؤساءهم، ونهب ديارهم، وسبى حريمهم، كأنهم على غير الملّة! ثم تعداهم إلى الصقالبة موالي عبد الرحمن الناصر والحاجب المنصور، فأجبرهم على الفرار إلى شرق الأندلس.

 

وهكذا تفككت مكونات المجتمع الأندلس ودخلت كلها في صراعات داخلية عنيفة، حتى وصفه كبير مؤرخي الأندلس ابن حيان بقوله: "مفرق الجماعة بقرطبة، ومبتعث تلك الفتنة المبيرة".

 

والعجيب أن عامة الناس ممن لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الصراع السياسي انساقوا وراء دعاة الفتنة، فصار لا يجرؤ عالم ولا فقيه ولا كبير على الحديث عن المصالحة بين العرب والبربر، حتى إن من يذكر الصلح أو يدعو إليه يقتل من فوره، ولو كان في الجامع أو على المنبر، كما ذكر مؤرخو الأندلس وقتها.

 

استغل الإسبان اشتعال النزعات العصبية الجاهلية بين المسلمين؛ عرب وبربر، للثأر من المسلمين واستعادة ما فتحه المسلمون خاصة في عهد الناصر والمنصور، فأمدّ كلا الجانبين المتصارعين بالسلاح والرجال لصبّ الزيت على النار، ولأول مرة يتقاتل المسلمون بجانب الصليبيين ضد إخوانهم المسلمين، وفُتح باب شر تطاول بعد ذلك لما هو أبعد وأخبث من ذلك في عهد ملوك الطوائف، وسُنت سنة من أسوأ السنن، بحيث صار الاستعانة بالصليبيين على المسلمين من أمور السياسة المعتادة لدى أمراء الأندلس فيما بعد، وكل ذلك بسبب العصبية القبلية الجاهلية المقيتة.

 

إن صنم العصبية القبلية وتقديم الولاء للقبيلة على الولاء للإسلام من أخطر الأصنام التي يجب على الخطباء والدعاة والعلماء التحذير منها؛ فلا يخلو عصر ولا جيل من وجود دعاة فتنة ومثيري فتنة العصبية، ولو غفل الخطباء والدعاة عن التحذير منهم والتصدي لخطرهم، فستستيقظ الأمة يوماً على أندلس جديد مضرج بالدم وإنا له وإنا إليه راجعون.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات