عناصر الخطبة
1/ افتقار الخلق إلى الله تعالى 2/ استغلال العشر الأواخر في الدعاء 3/ علاقة الدعاء بالصيام 4/ من آداب الدعاء 5/ أسباب رد الدعاء 6/ ترك الدعاء لعدم إجابة اللهاقتباس
هذا غنى الله، وهذا عطاؤه، وهذه خزائنه، يعطي العطاء الكثير، ويجود في هذا الشهر العظيم، لكن أين السائلون؟! وأين من يحولون حاجاتهم من المخلوقين إلى الخالق؟! أين من طرقوا الأبواب فأوصدت دونهم؟! وأين من سألوا المخلوقين فرُدوا؟! أين هم؟! دونكم أبواب الخالق مفتوحة، يحب السائلين فلماذا لا تسألون؟!
أما بعد: فعندما تنزل الحاجة بالعبد فإنه ينزلها بأهلها الذين يقضونها، وحاجات العباد لا تنتهي، يسألون قضاءها المخلوقين؛ فيجابون تارة ويردون أخرى، وقد يعجز من أنزلت به الحاجة عن قضائها، لكن العباد يغفلون عن سؤال من يقضي الحاجات كلها؛ بل لا تقضى حاجة دونه، ولا يعجزه شيء، غني عن العالمين وهم مفتقرون إليه، إليه ترفع الشكوى، وهو منتهى كل نجوى، خزائنه ملأى، لا تغيضها نفقة، يقول لعباده: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل:40].
كل الخزائن عنده، والملك بيده: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الملك:1]، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر:21]، يخاطب عباده في حديث قدسي فيقول: "يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر". أخرجه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) [فاطر:15].
لا تنقص خزائنه من كثرة العطايا، ولا ينفد ما عنده، وهو يعطي العطاء الجزيل: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ) [النحل: 96]، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "يدُ الله ملأى لا تغيضها نفقه، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض؟! فإنه لم يَغِض ما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع". أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري.
أيها الإخوة: هذا غنى الله، وهذا عطاؤه، وهذه خزائنه، يعطي العطاء الكثير، ويجود في هذا الشهر العظيم، لكن أين السائلون؟! وأين من يحولون حاجاتهم من المخلوقين إلى الخالق؟! أين من طرقوا الأبواب فأوصدت دونهم؟! وأين من سألوا المخلوقين فرُدوا؟! أين هم؟! دونكم أبواب الخالق مفتوحة، يحب السائلين فلماذا لا تسألون؟! ينزل كل ليلة حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، ينادي في عباده: "من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفرَ له؟! من يدعوني فأستجيب له؟!".
ونحن نعيش أفضل الليالي، ليالٍ تَعْظُم فيها الهبات، وتنزل الرحمات، وتقال العثرات، وترفع الدرجات، فهل يعقل أن تقضى تلك الليالي في مجالس الجهل والزور، وربُ العالمين ينزل فيها ليقضي الحوائج، يطلع على المصلين في محاريبهم، قانتين خاشعين، مستغفرين سائلين، داعين مخلصين، يُلحُّون في المسألة، ويرددون دعاءَهم: ربنا ربنا.
لانت قلوبهم مع سماع القرآن، واشرأبت نفوسهم إلى لقاء الملك العلام، واغرورقت عيونهم من خشية الرحمن، فهل هؤلاء أقرب إلى رحمة الله تعالى وأجدر بعطاياه، أم قوم قضوا ليلهم فيما حرم الله، وغفلوا عن دعائه وسؤاله؟! كم يخسرون زمن الأرباح!! وساء ما عملوا، ما أضعف هممهم، وما أحط نفوسَهم، لا يستطيعون الصبر لياليَ معدودات!!
أيها الإخوة المؤمنون: هذا زمن الربح، وفي تلك الليالي تقضى الحوائج، فعلِّقوا حوائجكم بالله العظيم، فالدعاء من أجلِّ العبادات وأشرفها، والله لا يخيب من دعاه: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]، (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ) [الأعراف: 55، 56].
وآيات الصيام جاء عقبها ذكرُ الدعاء: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]؛ قال بعض المفسرين: "وفي هذه الآية إيماءٌ إلى أن الصائم مرجو الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان".
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء" أخرجه الترمذي وحسنه.
بل إن الله تعالى يغضب إذا لم يُسأل؛ كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "من لم يسأل الله يغضب عليه". أخرجه أحمد.
ومهما سأل العبد فالله يعطيه أكثر، عن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها". قالوا: إذًا نكثر، قال: "الله أكثر". أخرجه أحمد.
وإذا دعا العبد استحيا الله منه، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إن ربكم تبارك وتعالى حييٌ كريم؛ يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا".
والدعاء يرد القضاء كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر". أخرجه الترمذي وحسنه.
وفي حديث آخر قال: "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم -عباد الله- بالدعاء" أخرجه أحمد والحاكم.
إن الدعاء فيه ذلٌ وخضوع لله تعالى، وانكسارٌ وانطراح بين يديه، قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكنًا مطرقًا برأسه، ويمد يديه كحالِ السائل". وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار، ومن افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله -عز وجل-، واستشعاره شدة الفاقةِ إليه، والحاجة لديه.
وعلى قدر الحرقةِ والفاقةِ تكون إجابةُ الدعاء؛ قال الأوزاعي: "كان يقال: أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه".
أيها الإخوة: من سأل الله تعالى وفي قلبه كبرٌ وعُجْبٌ؛ إما بكثرة ما يرى من طاعته وعبادته، أو بماله وجاهه وقوته، فهو حريٌ بالرد لمنافاته كمال الذل.
ومن أسباب رد الدعاء: أكلُ الحرام، وعدمُ التحري في كسب المال، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أيها الناس: إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام فأنَّى يُستجاب لذلك". أخرجه مسلم.
وفي مقابل هذا قد يوجد من لا يؤبه به لفقره وضعفه وذلته، لكنه عزيز على الله تعالى، لا يرد له سؤالاً، ولا يخيب له دعوة، كالمذكور في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب أشعث مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره". أخرجه مسلم.
فاتقوا الله ربكم، وطيّبوا مكاسبكم، وألحّوا في الدعاء على الله تعالى؛ فإن الله تعالى يحب الملحّين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن من الخطأ أن يترك المرء الدعاء لأنه يرى أنه لم يستجب له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي". متفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قال مُورِّقٌ العجلي: "ما امتلأت غضبًا قط، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة فما شفعني فيها، وما سئمت من الدعاء".
وكان السلف يحبون الإطالة في الدعاء؛ قال مالك: "ربما انصرف عامر بنُ عبد الله بن الزبير من العتمة، فيعرض له الدعاء، فلا يزال يدعو إلى الفجر".
ودخل موسى بنُ جعفر بن محمد مسجد رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-، فسجد سجدة في أول الليل، فسُمِعَ وهو يقول في سجوده: "عظمُ الذنبُ عندي، فليحسنِ العفوُ عندك، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة". فما زال يرددها حتى أصبح.
وينبغي -أيها المسلم- أن تقتفي أثر الأنبياء في الدعاء، سئل مالك عن الداعي يقول: يا سيدي، فقال: "يعجبني دعاء الأنبياء: ربنا ربنا".
واجتنابُ المعاصي والذنوب سبب لإجابة الدعاء، قال يحيى بن معاذ: "لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طريقها بالذنوب".
أيها الإخوة: هذا بعض ما يقال في الدعاء، ونحن في أيام الدعاء، وإن كان الدعاء في كل وقت؛ لكنه في هذه الأيام آكد؛ لشرف الزمان، وكثرة القيام، فاجتهدوا في هذه الأيام الفاضلة؛ فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشد فيها مئزره، ويُحيي ليله، ويوقظ أهله، كان يقضيها في طاعة الله تعالى؛ إذ فيها ليلة القدر، لو أحيا العبد السنة كلها من أجل إدراكها لما كان ذلك غريبًا أو كثيرًا؛ لشرفها وفضلها، فكيف لا يُصبِّر العبد نفسه لياليَ معدودة؟!
فاحرصوا على اغتنام هذه العشر، وأروا الله تعالى من أنفسكم خيرًا، فلربما جاهد العبدُ نفسه في هذه الأيام القلائل، فقبل الله تعالى منه، وكتب له سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وهي تمرُّ على المجتهدين واللاهين سواءً بسواء؛ لكن أعمالهم تختلف، كما أن المدون في صحائفهم يختلف، فلا يغرنكم الشيطان فتضيع هذه الأيام كما ضاعت مثيلاتها من قبل.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المقبولين، ومن عباده الصالحين، وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم