العز بن عبد السلام (سلطان العلماء وبائع الملوك والأمراء)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

قال ابن السبكي: وحكا قاضي القضاة بدر ابن جماعة أن الشيخ لما كان بدمشق وقع مرة غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل, فأعطته زوجته مصاغا ً لها, وقالت اشتر لنا به بستانا نصيف فيه, فأخذ ذلك المصاغ وباعه, وتصدق بثمنه, فقالت: يا سيدي, اشتريت لنا ؟ قال: نعم بستانا ً في الجنة إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه. فقالت له...

 

 

 

 

التعريف به:

 

اسمه: عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد ابن مهذب ، وكنيته: أبو محمد.

 

مولده: قيل سنة سبع وسبعين وخمسمائة للهجرة.  وقيل سنة ثمان وسبعين وخمسمائة, والأول أرجح ؛ لأنه توفي عن ثلاث وثمانين سنة, وكانت وفاته بالاتفاق سنة ستين وستمائة.

وكان مولده بدمشق باتفاق المصادر.

 

أما لقبه: فهو عز الدين جريا ً على عادة ذلك العصر الذي انتشر فيه الألقاب عامة للخلفاء والملوك والأمراء والعلماء, والنسبة إلى الدين خاصة تقربا ً إلى دين الله, وحبا ً وانتماء إليه, وطمعا ً في فضله ورغبة في خدمته واعتزازا ً به لمكانة الدين في نفوس الناس, فلقب الشيخ بعز الدين, ويختصر بالعز؛ وهو التسمية الشائعة في الاستعمال عند الناس, وفي كتب التاريخ, والتراجم, والفقه, كما اشتهر بلقبه الثاني ( سلطان العلماء ) وقد لقبه به تلميذه الأول ابن دقيق العيد, ووجه هذه التسمية أنه أكد مكانة العلماء, ورفع ذكرهم في عصره, وجسد ذلك في مواقفه كما سنرى في الإنكار على الحكام والسلاطين والأمراء, لبعض تصرفاتهم المخالفة, وقارعهم بالحجة والبيان فغلبهم, وكان على رأس العلماء في هذا الموقف الصلب؛ مما عرضه لكثير من المتاعب.

 

مكانته العلمية:

 

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة ( 665 هـ ) أحد تلامذة الشيخ:

 

( وكان أحق الناس بالخطابة والإمامة, وأزال كثيرا ً من البدع التي كان الخطباء يفعلونها: من دق السيف على المنبر, وغير ذلك, وأبطل صلاتي الرغائب ونصف شعبان ومنع منهما ).

 

وقال عز الدين الحسيني: كان علم عصره في العلم, جامعا ً لفنون متعددة, مضافا ً إلى ما جبل عليه من ترك التكلف, مع الصلابة في الدين, وشهرته تغني عن الإطناب في وصفه.

 

وقال الذهبي عن العز: " بلغ رتبته الاجتهاد, وانتهت إليه رياسة المذهب, مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والصلابة في الدين ".  

 

وقال تاج الدين السبكي: " شيخ الإسلام والمسلمين, وأحد الأئمة الأعلام, سلطان العلماء, إمام عصره بلا مدافعة, القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه, المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها, العارف بمقاصدها, ولم ير مثل نفسه, ولا رأى من رآه مثله علما وورعا وقياما ً في الحق, وشجاعة, وقوة جنان, وسلاطة لسان ".

 

وقال العلامة ابن كثير: شيخ المذهب, ومفيد أهله, وله مصنفات حسان, وبرع في المذهب, وجمع علوما كثيرة, وأفاد الطلبة, ودرس بعدة مدارس, وانتهت إليه رئاسة الشافعية, وقصد بالفتاوى من الآفاق, وكان لطيفا ً ظريفا ً يستشهد بالأشعار.

 

وقال العلامة جلال الدين السيوطي: الشيخ عز الدين أبو محمد شيخ الإسلام, سلطان العلماء, وأخذ الأصول, وسمع الحديث, وبرع في الفقه, والأصول العربية, وقدم مصر فأقام بها أكثر من عشرين سنة, ناشرا ً للعلم, آمرا ً بالمعروف, ناهيا ً عن المنكر, يغلظ على الملوك فمن دونهم, وألقى التفسير بمصر دروسا, وهو أول من فعل ذلك, وله من المصنفات, وله كرامات كثيرة, ثم كان في آخر عمره لا يتقيد بالمذهب, بل اتسع نطاقه, وأفتى بما أدى إليه اجتهاده.

 

وقال العلامة فخر الدين محمد بن شاكر الكتبي: " شيخ الإسلام, وبقية الأعلام, الشيخ عز الدين, سمع وتفقه ودرس وأفتى وبرع في المذهب وبلغ رتبة الاجتهاد, وقصده الطلبة من البلاد, وتخرج به أئمة, وله الفتاوى السديدة, وكان ناسكا ً ورعا ً أمارا ً بالمعروف نهاءا ً عن المنكر, لا يخاف في الله لومة لائم.

 

وقال العلامة ابن دقيق العيد: كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء.

 

وقال العلامة جلال الدين الإسنوي: الشيخ عز الدين سيخ الإسلام علما ً وعملا ً وورعا, وتصانيف وتلاميذ, آمرا ً بالمعروف, ناهيا ً عن المنكر, يهين الملوك فمن دونهم, ويغلظ القول, وكان فيه مع ذلك حسن محاضرة بالنوادر والأشعار.

 

وقال العلامة اليافعي اليمني: سلطان العلماء, وفحل النجباء, المقدم في عصره على سائر الأقران, بحر العلوم والمعارف, والمعظم في البلدان, ذو التحقيق  والإتقان والعرفان والإيقان, وهو من الذين قيل فيهم علمهم أكثر من تصانيفهم, لا من الذين عبارتهم دون درايتهم, ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول.

 

أخلاقه السامية:

 

أولا: زهده وورعه :

 

قال الداودي: كان كل أحد يضرب به المثل في الزهد والعلم.

 

فمن أمثلة زهده أن الملك الأشرف لما اعتذر إليه عما حدث بينهما وقال: نحن نستغفر الله مما جرى ونستدرك الفارط في حقه, وقال والله لأجعلنه أغنى العلماء.  لم ينتهز العز هذه الفرصة ليصير أغنى العلماء, ولم يقبل منه درهما ً.  

 

ولما أرسل إليه السلطان موسى بن الملك العادل أبي بكر في مرض وفاته, وطلب منه أن ينصحه وأن يجعله في حل مما كان منه, فقال أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق, وأبيت وليس لي عند أحد مظلمة, وأرى أن يكون أجري على الله, ولا يكون على الناس عملا ً بقوله – تعالى -: ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) [الشورى: 40], وأن يكون أجري على الله ولا يكون على خلقه أحب إلى, وأما دعائي للسلطان, فإني أدعو له في كثير من الأحيان, لما في صلاحه من صلاح المسلمين والإسلام, والله يبصر السلطان فيما يبيض به وجهه عنده يوم يلقاه, وأما وصيتي ونصيحتي للسلطان, فقد وجبت وتعينت, لقبوله وتقاضيه, وكان قبيل مرضه قد وقع بينه وبين أخيه السلطان ( الملك ) الكامل واقع ووحشة, وأمر وهو في ذلك المرض بنصب دهليزه إلى صوب مصر, وكان في ذلك الزمان قد ظهر التتار بالشرق.  

 

فقال الشيخ للسلطان الملك الكامل: أخوك الكبير, ورحمك, وأنت مشهور بالفتوحات, والنصر على الأعداء, والتتار قد خاضوا بلاد المسلمين, تترك ضرب دهليزك إلى أعداء الله وأعداء المسلمين وتضربه إلى جهة أخيك, فينقل السلطان دهليزه إلى جهة التتار, لا تقطع رحمك في هذه الحالة, وتنوي مع الله نصر دينه وإعزاز كلمته؛ فإن من الله بعافية السلطان رجونا من الله إدالته على الكفار, وكانت في ميزانه هذه الحسنة العظيمة؛ فإن قضى الله بانتقاله إليه كان السلطان في خفارة نيته.

 

فقال له: جزاك الله خيرا ً عن إرشادك ونصيحتك, وأمر والشيخ حاضر الوقت بنقل دهليزه إلى الشرق إلى منزلة يقال لها: القصير فنقل في ذلك اليوم, ثم قال له: زدني من نصائحك ووصاياك.

 

فقال له: السلطان في مثل هذا المرض, وهو على خطر, ونوابه يبيحون فروج النساء, ويدمنون الخمور, ويرتكبون الفجور, ويتنوعون في تمكيس المسلمين, ومن أفضل ما نلقى الله به أن تتقدم بإبطال هذه القاذورات, وبإبطال كل مكس, ودفع كل مظلمة, فتقدم للوقت بإبطال ذلك كله.

 

وقال له: جزاك الله على دينك وعن نصائحك وعن المسلمين خيرا, وجمع بيني وبينك في الجنة بمنة وكرمه, وأطلق له ألف دينار مصرية, فردها عليه وقال: هذه اجتماعية لله لا أكدرها بشيء من الدنيا.

 

ولما استقال العز من القضاء عند فتواه ببيع الأمراء ورفض السلطان؛ لذلك خرج من القاهرة, وكل أمتعته في الحياة مع أسرته حمل حمار واحد, مما يدل على قناعته بالقليل, وزهده في المال والمتاع.

 

أما ورعه: فقد قال الدكتور محمد الزحيلي: واتفقت كلمة معاصري العز وتلاميذه ومن بعدهم من العلماء والمصنفين اتفقوا على وصف العز بهذه الصفة, وأنه كان ورعا ً نقيا ً بل شديد الورع بالالتزام بالحلال, والبعد عن الحرام, واجتناب الشبهات في أعماله وتصرفاته, في مناصبه ومواقفه, وفي كسبه ورزقه وإنفاقه, وفي عبادته ومعاملاته, ومما يدل على ورعه كثير من التصرفات؛ منها: ما ذكرناه سابقا ً في قصة طلبه للعلم, ونومه في الكلاسة واغتساله في ليلة باردة ثلاث مرات ليحافظ على الطهارة, ويؤدي قيام الليل وصلاة الفجر جماعة في المسجد, ومنها وقوفه عند أحكام الشرع في نفسه, وكسبه, وإنفاقه, وفي وظائفه وأعماله, وفي مواقفه وزهده.

 

ثانيا: كرمه:

 

قال ابن السبكي: وحكا قاضي القضاة بدر ابن جماعة أن الشيخ لما كان بدمشق وقع مرة غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل, فأعطته زوجته مصاغا ً لها, وقالت اشتر لنا به بستانا نصيف فيه, فأخذ ذلك المصاغ وباعه, وتصدق بثمنه, فقالت: يا سيدي, اشتريت لنا ؟ قال: نعم بستانا ً في الجنة إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه.  فقالت له: جزاك الله خيرا.

 

وحكا أنه كان – مع فقره – كثير الصدقات, وأنه ربما قطع من عمامته وأعطى فقيرا, إذا لم يجد معه غير عمامته.

 

 ثالثا: قوته في الحق ومواقفه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

مواقفه في الجهر بكلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة شهيرة، وهي التي رفعت قدره عند الناس وعند العلماء، وخلدت ذكره في التاريخ، بحيث صار بها وبأمثالها سلطانا لعلماء الزمان وكل زمان.  

 

نذكر شيئا ً منها لبركتها, وحسن عائدتها, وعظيم فائدتها.  

 

فمن ذلك ما ذكره ابن السبكي عن والده أنه سمع شيخه الباجي ( تلميذ العز ) يقول: طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان ( نجم الدين أيوب ) في يوم عيد إلى القلعة, فشاهد العساكر مصطفين بين يديه, ومجلس المملكة, وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة, وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية, وأخذ الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان.  فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه يا أيوب ما حجتك عند الله إذ قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور ؟ فقال: هل جرى هذا ؟ قال: نعم, الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة, ينادي كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون, فقال: يا سيدي, هذا أنا ما علمته, هذا من زمان أبي, فقال: أنت من الذين يقولون: ( إنا وجدنا آباءنا على أمة ) [الزخرف: 22], فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة.

 

قال الباجي: " سألت الشيخ لما جاء من عند السلطان وقد شاع الخبر: يا سيدي كيف الحال ؟ فقال: يا بني, رأيته في تلك العظمة, فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر نفسه فتؤذيه, فقلت: يا سيدي, أما خفته ؟

 

فقال: والله يا بني, استحضرت هيبة الله, فصار السلطان قدامي كالقط.

 

ولما أراد الظاهر بيبرس أن يستلم السلطة والحكم استدعى الأمراء والعلماء, لمبايعته, وكان بينهم الشيخ العز الذي فاجأ الظاهر بيبرس بكل جرأة وشجاعة وقال له: يا ركن الدين, أنا أعرفك مملوك البندقار – أي لا يصلح مبايعة المملوك في استلام السلطة – فأحضر بيبرس مما يثبت أن البندقار قد وهبه للملك الصالح أيوب, وأن الصالح قد أعتقه, وهنا تقدم الشيخ العز وبايعه على الملك, ليكون من أعظم ملوك العالم في هزيمة الصليبين ومطاردة التتار.  

 

ومن ذلك قصة بيعه للأمراء، وهي قصة شهيرة:  

 

قال ابن السبكي: وهم جماعة ذكر أن الشيخ لم يثبت عنده أنهم أحرار, وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين, فبلغهم ذلك فعظم الخطب عندهم منه, وأحترم الأمر والشيخ مصمم لا يصح بيعا ً ولا شراء ً ولا نكاحا, وتعطلت مصالحهم بذلك, وكان في جملتهم نائب السلطنة, فاستشاط غضباً, فاجتمعوا وأرسلوا إليه, فقال: نعقد لكم مجلسا ً وينادي عليكم لبيت مال المسلمين, ويحصل عتقكم بطريق شرعي, فرفعوا الأمر إلى السلطان, فبعث إليه فلم يرجع, فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر, وانه أمر لا يتعلق به, فغضب الشيخ, وحمل حوائجه على حمار, وأركب عائلته على حمار آخر, ومشى خلفهم خارجا ً من القاهرة قاصدا ً نحو الشام فلم يصل إلى نحو نصف بريد إلا وقد لحقه غالب المسلمين, لم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم, فبلغ السلطان الخبر وقيل له: متى راح ذهب ملكك, فركب السلطان بنفسه, ولحقه واسترضاه وطيب قلبه فرجع, واتفقوا معهم على أن ينادي على الأمراء, فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه, فانزعج النائب, وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض والله لأضربنه بسيفي هذا, فركب بنفسه في جماعته, وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده, فطرق الباب فخرج ولد الشيخ أظنه عبد اللطيف فرأى من نائب السلطنة ما رأى, فعاد إلى أبيه وشرح له الحال, فما اكترث لذلك ولا تغير, وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله, ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة, فين وقع بصره على النائب يبست يد النائب, وسقط السيف منها وأرعدت مفاصلة فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له.  وقال: يا سيدي, خير إيش تعمل.  قال: أنادي عليكم, وأبيعكم.  قال: ففيم تصرف ثمننا ؟ قال: في مصالح المسلمين.  قال: من يقبضه ؟ قال: أنا, فتم ما أراد, ونادى على الأمراء واحدا ً واحدا ً, وغالى في ثمنهم وقبضه, وصرفه في وجوه الخير, وهذا ما لم يسمع بمثله عن أحد.  

 

ومن ذلك موقفه مع كبير أمناء الملك وابن شيخ الشيوخ وقائد الجيوش:

 

قال ابن السبكي: استمر الشيخ عز الدين بدمشق إلى أثناء أيام الصالح إسماعيل المعروف بأبي الجيش, فاستعان أبو الجيش بالفرنج وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشقيف, فأنكر عليه الشيخ عز الدين, وترك الدعاء له في الخطبة, وساعده في ذلك أبو عمرو بن الحاجب المالكي , فغضب السلطان منهما, فخرجا إلى الديار المصرية في حدود سنة تسع وثلاثين وستمائة, فلما مر الشيخ عز الدين بالكرك تلقاه صاحبها, وسأله الإقامة عنده فقال له: بلدك صغير على علمي, ثم توجه إلى القاهرة فتلقاه صاحبها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل وأكرمه وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر والقضاء بها وبالوجه القبلي مدة, فاتفق أن أستاذ داره فخر الدين عثمان بن شيخ شيوخ ؛ وهو الذي كان إليه أمر المملكة عمد إلى مسجد بمصر, فعمل على ظهره بناء لطبل خانات, وبقيت تضرب هنالك, فلما ثبت هذا عند الشيخ عز الدين حكم بهدم ذلك البناء, وأسقط فخر الدين بن الشيخ, وعزل نفسه عن القضاء, ولم تسقط بذلك منزلة الشيخ عند السلطان, ولكنه لم يعده إلى الولابة وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم لا يتأثر به فخر الدين في الخارج فاتفق أن جهز السلطان الملك الصالح رسولا ً من عنده إلى الخليفة المستعصم ببغداد, فلما وصل الرسول إلى الديوان ووقف بين يدي الخليفة, وأدى الرسالة خرج إليه وسأله: هل سمعت هذه الرسالة من السلطان ؟ فقال: لا, ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين بن شيخ الشيوخ أستاذ داره.  فقال الخليفة: إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام, فنحن لا نقبل روايته, فرجع الرسول إلى السلطان حتى شافهه بالرسالة, ثم عاد إلى بغداد وأداها.

 

ومن ذلك ما حدث بينه وبين الملك الصالح إسماعيل, وقد تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبين, فأنكر عليه العز, وعزله عن الخطابة والإفتاء, وأمر باعتقاله, ثم أراد مساومته, فأرسل إليه بعض خواصه بمنديله, وقال له تدفع منديلي إلى الشيخ وتتلطف به غاية التلطف, وتستنزله وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال, فإن وافقك فتدخل به علي, وإن خالفك فاعتقله في خيمة إلي جانب خيمتي .

 

فلما اجتمع الرسول بالشيخ, شرع في مسايسته وملاينته, ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان, وتقبل يده لا غير.

 

فقال له: يا مسكين: ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا ً أن أقبل يده, يا قوم, أنتم في واد وأنا في واد, والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.

 

فقال له: قد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك فقال: افعلوا ما بدا لكم فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان.

 

وكان الشيخ يقرأ القرآن والسلطان يسمعه.  فقال يوما ً لملوك الفرنج: تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن ؟ قالوا: نعم, قال: هذا أكبر قسيس المسلمين, وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين, وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه ثم أخرجته, فجاء إلى القدس, وقد ججت حبسه واعتقاله لأجلكم, فقالت له ملوك الفرنج: لو كان قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.

 

مصنفاته:

 

من تصانيف عز الدين: القواعد الكبرى, وكتاب ( مجاز القرآن )؛ وهذان الكتابان شاهدان بإمامته وعظيم منزلته في علوم الشريعة, واختصر القواعد الكبرى في ( قواعد صغرى ) والمجاز في آخر.

 

وله كتابي ( شجرة المعارف )؛ حسن جدا ً.

 

وكتاب ( الدلائل المتعلقة بالملائكة والنبيين ) – عليهم السلام والخلق أجمعين – ( بديع جدا ً ).

 

و( التفسير ), مجلد مختصر, و ( الغاية في اختصار النهاية ), دلت على قدره, و ( مختصر صحيح مسلم), و( مختصر رعاية المحاسبي ), و( الإمام في أدلة الأحكام ), و( بيان أحوال الناس يوم القيامة ), و( بداية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم ), ( الفرق بين الإيمان والإسلام ), و ( فوائد البلوى والمحن ), و ( الجمع بين الحاوي والنهاية ), وما أظنه كمل, و( الفتاوي الموصلية ), و ( الفتاوي المصرية ) مجموع مشتمل على فنون من المسائل والفوائد.

 

وفاته:

 

توفي الشيخ العز في جمادى الأولى سنة 660 هـ - 1262 م, باتفاق المؤرخين, وحكي أن شخصا ً جاء إليه وقال له: رأيتك في النوم تنشد:

 

وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة  ورجل رمى فيها الزمان فشلت.

 

فسكت ساعة ثم قال: أعيش من العمر ثلاثا ً وثمانين سنة, فإن هذا الشعر لكثير عزة ولا نسبة بيني وبينه غير السن " أنا سني وهو شيعي, وأنا لست بقصير وهو قصير, ولست بشاعر وهو شاعر, وأنا سلمي وهو ليس بسلمي, لكنه عاش هذا القدر وقلت (ابن السبكي ) فكان الأمر كما قال ".

 

وقال الحافظ الدمياطي: وتوفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى, واشتهرت وفاته في اليوم العاشر؛ لأنه دفن فيه قبيل الظهر في آخر أقرافة بسفح المقطم من ناحية البركة, وكان يوم دفنه مشهودا, وحضر جنازته الخاص والعام من أهل مصر والقاهرة, وشارك في الجنازة خلائق لا تحصى, وصلى عليه ملك مصر والشام الظاهر بيبرس.  وقد تأثر بيبرس على وفاة العز, وتأسف على موته أثناء دولته, فقال: لا إله إلا الله ما اتفقت وفاة الشيخ إلا في دولتي, وشيع أمراءه وخاصته وأجناده لتشييع جنازته, وحمل نعشه, وحضر دفنه.

 

فرحمه الله رحمة واسعة, وأدخلنا وإياه جنة عالية, قطوفها دانية.  

 

 

 

المراجع والمصادر:

 

طبقات الشافعية

البداية والنهاية

وفيات الأعيان

تاريخ ابن الجزري

شذرات الذهب

من أعلام السلف

سلطان العلماء لمحمد الزحيلي

تذكرة الحفاظ

تهذيب التهذيب

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات