العدل (1)

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ أمْر الإسلام بالعدل في كل آنٍ وشأن 2/ العدل مع النفس 3/ العدل بين الأزواج 4/ من صور العدل التجاوز عن المسيء الذي أصلح من قبل

اقتباس

وأولُ عدل طالَبَ به الأنبياءُ واحداً تلو الآخر على مَرِّ العصور توحيدُ الله بالعبادة، وخلافُه الشركُ الذي هو أكبر ظلم؛ ولذلك جاء في القرآن كلام العبد الصالح لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

يقول الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135].

ألا تحسون بمنهج العدل والوسط في ثنايا هذه الآية (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)؟ ألا تحسون بوضوح التحذير من الحيف والجور والظلم واتباع الهوى حين تتلونها أو تسمعونها؟ (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)؟.

إن الله -تعالى- هو الذي يحذر، يقول القرطبي في تفسيره للآية: "(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) أي: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، أي العدل، عند شهادتكم ولو على أنفسكم، أي: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم أو على والديكم أو أقربيكم فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحقّ، ولا تميلوا فيها لغنيّ لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غنيّ فتجوروا، فإن الله الذي سوّى بين الناس في الحكم".

قال: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)، أي: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها، ولكن قوموا فيها بالقسط.

قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم؛ بل استعملوا العدل في كل أحد، صديق كان او عدو؛ (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)، أي: ولو كان الحق على مثل قرابتكم.

ويقول -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، هناك أوامر ربانية واضحة ومتكررة بالعدل والقسط، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)، (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف:29]، (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25]، (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26].

بل الأمر بالعدل حتى في العقوبة، يقول -جل وعلا-: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل:126]، يقول -سبحانه-: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) [الإسراء:33].

معاشر الإخوة: لو تأملنا فيما تقدم من آيات لوجدنا أن كلاً منها أمر بالعدل ونهى عن الحيف والجور، ولوجدنا أيضا -وهو موضوعنا اليوم- أن كل آية اختصت بمعنى ليس بالضرورة في الأخرى، فآية تنهى عن الجور في حق العدو، وأن عداوته أو بغضه لا يجوز أن يكون حائلا دون العدل في حقه شهادة أو حكماً؛ وأخرى تحذر من الميل مع القريب مما يكون سببا لعدم ثبوت الحق عليه، كما تنهى عن التفريط في حق خصمه بسبب تلك القرابة، وأخرى تحذر الوالي أو الخليفة من أثر الهوى والشهوة في حكمه بين الناس بالعدل.

وهكذا يستمر الأمر بالعدل في كل شأن؛ فإحقاق الحق، وإقامة العدل الذي يأمر به الإسلام يتخذ أشكالا متعددة في كل صورة من صور حياة البشر، الفردية الخاصة الصغيرة، والجمعية المشتركة الواسعة، والسياسية التشريعية، والاجتماعية المدنية، والاقتصادية المالية.

بل إن إحقاق الحق وإقامة العدل قائمان حتى في عالم الحيوانات والجمادات في هذه الخليقة بعضها ظاهر للعيان، وبعضها مستتر؛ ولذلك تتساءل الملائكة عن خلق قد يفسد هذا العدل المحكم في خلق الله، فقالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ َ) [البقرة:30]، فالحق والعدل والقسط هو ما قامت عليه السماوات والأرض بنص القرآن؛ يقول -سبحانه-: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر:35]، وقال -تعالى-: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف:3]، وقال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم:8]، وقال أيضا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الدخان:38-39].

ولما خلق الله السماء بالحق ورفعها وضع الميزان، (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) [الرحمن:7]، قال مجاهد وقتادة والسدي "أي وضع العدل في الأرض كي يقام"، هذا خبر ثم ألحقه بالأوامر فقال: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن:8-9].

ولا يقف الحد في تأكيد العدل والقسط على خلق السماوات والأرض، بل أتبع ذلك -سبحانه- بشهادته وشهادة الملائكة وأولي العلم بأنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط، فقال -تعالى-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) [آل عمران:18].

فالقسط أو العدل أمر مؤكد في كتاب الله -تعالى- وما أوضحه في آيات الدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282].

فالعدل في الآية ذكر مرتين، والحق ذكر مرتين، ثم قال: (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ)؛ فلقسط والعدل والقوام هو العدل؛ بل إن القرآن يرشد للعدل في كل شيء.

يقول -سبحانه-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]؛ أقوم في ماذا؟ لم يفصح؛ بل أبهم؛ دلالة على الاستغراق في كل شيء، أي: أقوم في كل أمر؛ فهو يهدي للعدل في كل شيء.

وأول عدل طالب به الأنبياءُ واحداً تلو الآخر على مَرِّ العصور توحيدُ الله بالعبادة، وخلافُه الشركُ الذي هو أكبر ظلم؛ ولذلك جاء في القرآن كلام العبد الصالح لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13].

أيها الإخوة: قد ينصرف الذهن حين الكلام عن العدل إلى الوالي أو القاضي أو النظام، ولا بأس؛ لكن المحذور أن يقف عند هذه الأشياء ويختفي عن سائر الحياة؛ فالعدل -كما تقدم- مطلوب في كل شيء، بدءا بنفسك التي بين جنبيك، أن تعدل معها، فقد نهى الله عن ظلمها فقال -تعالى-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة:36]، فالعدل مع النفس يقتضي تهذيبها ومنعها من المنكر، فمن لم ينهها عن الحرام والمنكر فقد ظلمها.

والعدل يكون مع الزوج ومع الزوجة: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:228]، ولا مجال لسرد حقوق الزوجين، فالموضوع واسع يستدعي أن يفرد؛ لكن، أقول باختصار: يتقي اللهَ الرجلُ حينما يتعامل مع امرأته، ولتتقي الله المرأة حين تتعامل مع زوجها، وخيرهما الذي يحسن ويصفح ويحلم ويرحم ويعطي ويصبر.

فمن وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا قوله " استوصوا بالنساء خيرا " متفق عليه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي" رواه ابن حبان.

فمن العدل أن يأمر الرجل امرأته بالمعروف وينهاها عن المنكر، فالرجل مسؤول عن امرأته وسوف يسأل عنها وعن حجابها وعن خروجها ودخولها، فلقد أمر الله -تعالى- كل ولي بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6].

وقال -صلى الله عليه وسلم- "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته".

ومن العدل أن ينظر الزوج إلى زوجته كما يريده الله -تعالى-، على أنها سكن له تركن إليه نفسه؛ فهي ليست أداة للزينة، ولا مطية للشهوة، ولا غرضا للنسل فحسب؛ بل هي شريكة حياته، وأم أولاده، وحافظة سره؛ يقول -تعالى- (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم:21].

ومن العدل أن يقدر أنوثتها وعاطفتها، فهي امرأة وليست رجلا، في مسند الإمام بسند صحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عند بعض نسائه، قال: أظنها عائشة -رضي الله- عنها، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، قال: فضربت الأخرى بيد الخادم فكسرت القصعة نصفين، قال: فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "غارت أمكم، غارت أمكم"، قال: وأخذ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل فيها الطعام ثم قال: "كلوا"، فأكلوا، وحبس الرسول القصعة حتى فرغوا، فدفع إلى الرسول قصعة أخرى وترك المكسورة مكانها.

هكذا بكل هدوء راعى النبي -صلى الله عليه وسلم- طبيعة المرأة في غيرتها فلم يقسُ عليها، وعدل في شأن القصعة.

أسأل الله -تعالى- أن يرزقنا العدل في أمرنا كله.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى مَن سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد: فمِن العدل مع الزوجة؛ بل ومع الناس جميعا، ألا تنسى المحاسن والفضائل، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَفْركْ مؤمنٌ مؤمنة، إنْ كَرِه منها خُلُقًا، رَضِي منها خُلُقًا آخَرَ"، كأن تكون غضوبة لكنها ديِّنةً وعفيفة، أو تكون متسرعة لكنها رحيمة بك وبأولادك، وهكذا.

وعلى الزوجة مثل ذلك؛ فإن من أسوأ ما تقع فيه المرأة كفران العشير، ففي حديث ابن عباس في الموطأ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال بعد صلاة الخسوف يوماً ما: "إني رأيت الجنة ‏ -‏أو أُريتُ الجنة- ‏ ‏فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا؛ ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط، ورأيت أكثر أهلها النساء"، قالوا: لِمَهْ، يا رسول الله؟ قال "بكفرهن"، قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يكفرن ‏ ‏العشير، ‏ويكفرن الإحسان، لو أحسنْتَ إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط‏."

كفران الجميل ونسيان الفضل من أسوأ البخس، ولما نادى نبي الله يونس -عليه السلام- ربه وهو في بطن الحوت استجاب له ربه، وهو مليم، أي: إنه من قبلُ قد أتى بما يُلَامُ عليه -عليه السلام-، قال -تعالى- (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات:143-144].

قال الربيع بن أنس: "لولا أنه كان له قبل ذلك عمل صالحٌ للبث في بطنه إلى يوم ببعثون"، وقال الحسن: "قدم عملاً صالحا في حال الرخاء فذكره الله به في حال البلاء"، قال القرطبي: "ولذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر".

فالعدل يقتضي إحضار الفضائل وعدم نسيانها، أساءت إليك يوما ما فلا تنسى محاسنها في يوم قبل ذلك، أخطأ صديقك إليك اليوم فلا تنسى فضله عليك بالأمس القريب.

حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أخطأ خطأ شنيعا، فقبْل أن يقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- لفتح مكة أرسل هذا الرجل رسالة مع امرأة ليبلغ قريشاً بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قادم إليهم، وفي ذلك كشْف لخطة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكشفه الله -تعالى- قبل أن تصل رسالته، فإذا به ماثلاً أمام النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما حمَلَكَ على هذا يا حاطب؟"، قال: يا رسول الله، أما والله إني لناصحٌ لله ولرسوله، ولكني كنت غريبا في أهل مكة، وكان أهلي بين ظهرانيهم وخشيت عليهم، فكتبت كتابا لا يضر اللهَ ورسولَه شيئا، وعسى أن يكون منفعة لأهلي، فقال عمر -رضي الله عنه-: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين! فدعني أضرب عنقه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " تقتل رجلاً من أهل بدر؟ وما يدريك يا ابن الخطاب؟ لعل الله اطَّلَع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم". إنه العدل، والنظر إلى الفضائل والمحاسن!.

وللحديث بقية إن شاء الله...
 

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات