عناصر الخطبة
1/ موقف عمر من شروط الحديبية 2/ موقف عمر في وفاة الرسول 3/ موقف عمر من قتال المرتدين 4/ أهمية الرجوع إلى رأي الأكابر 5/ التحذير من الطعن في العلماء وخطورته.اقتباس
تَأَمَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الثَّلَاثَةِ كَيْفَ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ مَنْ هُوَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَالِفْهُ الصَّوَابُ رَغْمَ حِرْصِهِ عَلَيْهِ, وَإِنَّمَا كَانَ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ فَاقَهُ عِلْمَاً وَخِبْرَةً وَسِنَّاً, فَهَكَذَا نَحْنُ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُسَلِّمَ لِكِبَارِنَا وَمَنْ هُمْ أَكْثَرُ خِبْرَةً مِنَّا, وَهُمُ الْعُلَمَاءُ وَلاسِيَّمَا فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ التِي تَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ, ثُمَّ نَتْرُكُ الاعْتِرَاضَ أَوِ التَّشْغِيبَ عَلَيْهِمْ أَوِ الاتِّهَامَ لَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ, وَقَدْ أُمِرْنَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الذِي جَعْلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى، وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الأَذَى، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللهِ الْمَوْتَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللهِ أَهْلَ الْعَمَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْه، وَكَمْ مِنْ ضَالٍ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْه، يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِين.
أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعْتَبِرُوا بِمَاضِيكُمْ وَقِيسُوا عَلَيْهِ حَاضِرَكُمْ, وَانْظُرُوا مَايُنْجِيكُمْ بَيْنَ يَدَيْ بَارِيكُمْ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذِهِ ثَلاثَةُ مَوَاقِفَ عَجِيبَةٍ حَدَثَتْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَدَّثِ الْمُلْهَمِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, وَلَنَا فِيهَا عِبْرَةٌ وَأُسْوَةٌ, فَتَعَالَوْا نَتَأَمَّلُ فِيهَا, وَنَأَخُذُ مِنْهَا الْعِبْرَةَ فِي حَاضِرِنَا.
الْمَوْقِفُ الْأَوَّلُ: حَصَلَ فِي كِتَابَةِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ, حِينَ مَنَعَتْ قُرَيْشٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنَ الْعُمْرَةِ, وَقَالُوا: وَاللهِ لا يَدْخُلُهَا مُحَمَّدٌ عَلَيْنَا عُنْوَةً, ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَاسَلَهُمْ وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِيُفَاوِضَهُمْ وَانْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى كِتَابَةِ الصُّلْحِ, وَكَانَ مِنْ شُرُوطِهِ وَضَعُ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ, وَأَنْ يَرْجِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ مَعَهُ لا يَعْتَمِرُونَ هَذَا الْعَامَ وَإِنَّمَا الْعَامَ الْقَادِمَ, وَكَانَ مِنَ الشُّرُوطِ الْقَاسِيَةِ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ, وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا.
وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَاضِرَاً كِتَابَةَ الصُّلْحِ, فَأَغَاظَهُ هَذَا الشَّرْطُ أَشَدَّ مِنْ غَيْرِهِ, وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَا نَصُّهُ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا، قَالَ: "بَلَى", قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ، قَالَ: "بَلَى", قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي", قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ "بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ", قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ", قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟, قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: انْظُرُوا كَيْفَ تَوَافَقَ كَلَامُ أَبِي بَكْرٍ مَعَ كَلَامِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرِ الصُّلْحَ, وَعُمَرُ عَلَى جَلَالَتِهِ وَقَدْرِهِ لَمْ يَكَدْ يَتَحَمَّلُ تِلْكَ الشُّرُوطِ , ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدُ تَبَيَّنَ لِعُمَرَ أَنَّ الصَّوَابَ كَانَ مَعَ النَبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, حَتَّى إِنَّهُ نَدِمَ نَدَمَاً شَدِيدَاً وَعَمِلَ أَعْمَالاً صَالِحَةً يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ؛ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ اعْتَرَاضَهُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَأَمَّا الْمَوْقِفُ الثَّانِي: فَهُوَ حَادِثَةُ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَإِنَّ كَثِيرَاً مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لِفَرْطِ حُبِّهِمْ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكَدْ يُصَدِّقُ أَنَّهُ تُوُفِي, وَمِنْهُمْ عُمُرُ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا تُوِفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، فَقَالَ: "إِنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ تُوُفِّيَ, وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا مَاتَ, وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ ، فَقَدَ غَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبِعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ قِيلَ: قَدْ مَاتَ, وَواللهِ لَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا رَجَعَ مُوسَى، فَلَيُقَطِّعَنَّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ زَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاتَ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذَا مَوْقِفُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَسِعَةِ عِلْمِهِ, فَتَعَالَوْا نَنْظُرُ مَوْقِفَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَأَقْبَلَ أبَوُ بَكْرٍ حَتَّى نَزَلَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-, ورَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسَجَّىً فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ عَلَيْهِ بُرْدَةٌ حَبِرَةٌ.
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ حَتَّى كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ قَالَ: "بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَمَّا الْمَوْتَةُ التِي كَتَبَهَا اللهُ عَلَيْكَ فَقَدْ ذُقْتَهَا، ثُمَّ لَنْ تُصِيبَكَ بَعْدَهَا مَوْتَةٌ أَبَدَاً", ثُمَّ خَرَجَ وَعُمَرُ يَكُلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ: "عَلَى رِسْلِكَ يَا عُمَرُ أَنْصَتْ!", فَأَبَّى إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ, فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ لا يُنْصِتُ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدَاً فَإِنَّ مُحَمَّدَاً قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].
قَالَ: فَوَ اللهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ حَتَّى تَلاهَا أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ, قَالَ أَبُو هُرَيْرَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلاهَا، فَعَقِرْتُ حَتَّى وَقَعْتُ إِلَى الْأَرْضِ مَا تَحْمِلُنِي رِجْلَايَ, وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ مَاتَ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَأَمَّا الْمَوْقِفُ الثَّالِثُ: فَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، قَالَ عُمَرُ: "يَا أَبَا بَكْرٍ! كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ", قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا", قَالَ عُمَرُ: "فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَأَمَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الثَّلَاثَةِ كَيْفَ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ مَنْ هُوَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَالِفْهُ الصَّوَابُ رَغْمَ حِرْصِهِ عَلَيْهِ, وَإِنَّمَا كَانَ الصَّوَابُ مَعَ مَنْ فَاقَهُ عِلْمَاً وَخِبْرَةً وَسِنَّاً.
فَهَكَذَا نَحْنُ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُسَلِّمَ لِكِبَارِنَا وَمَنْ هُمْ أَكْثَرُ خِبْرَةً مِنَّا, وَهُمُ الْعُلَمَاءُ وَلاسِيَّمَا فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ التِي تَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ, ثُمَّ نَتْرُكُ الاعْتِرَاضَ أَوِ التَّشْغِيبَ عَلَيْهِمْ أَوِ الاتِّهَامَ لَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ, وَقَدْ أُمِرْنَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ, ثُمَّ لِتَكُنْ مَوَاقِفُ عُمَرَ الثَّلَاثَةُ مِنْكَ عَلَى بَالٍ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ العَظِيمِ, وَنَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ, أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ الذَي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ, وَالصَّلاةُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ وَأَفْضَلِ أَنْبِيَائِهِ, وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِه,ِ وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ لِقَائِهِ, وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيراً.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ مِمَّا يَنْدَى لَهُ الْجَبِينُ وَيَحْزَنُ لَهُ الْقَلْبُ هَذِهِ الْحَمْلَةُ الشَّعْوَاءُ مِنْ دَاخِلِ صُفُوفِنَا عَلَى الْعُلَمَاءِ, فَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ مُدَاهِنُونَ لِلدَّوْلَةِ, وَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ لا يَدْرُونَ عَنِ الْأَحْدَاثِ, أَوْ أَنَّهُمْ لا يَقُولُونَ الْحَقَّ, أَوْ أَنَّهُمْ خَانُوا الْأَمَانَةَ وَأَفْتَوْا لِلْحَاكِمِ بِمَا يُرِيدُ, أَوْ أَنَّهُمْ لا يُنْكِرُونَ عَلَى الدَّوْلَةِ... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سِلْسِلَةِ الاتِّهَامَاتِ التِي جَاءَتْ مِنْ أُنَاسٍ لا نَتَّهِمُ نِيَّاتِهِمْ وَلا يُرْمَوْنَ بِنِفَاقٍ أَوْ عَلْمَانِيَّةٍ, وَلَكِنَّهُمْ قَدْ زَلُّوا وَأَخْطَأُوا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْخَيْرَ.
وَلِذَلِكَ فَإِنِّي أُحَذِّرُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي أَعْرَاضِ الْعُلَمَاءِ, أَوِ اتِّهَامِهِمْ بِالْقُصُورِ أَوِ التَّقْصِيرِ, فَإِنَّ هَذَا -فِي الْوَاقِعِ- هَدْمٌ لِلدِّينِ وَالْعِلْمِ الذِي يَحْمِلُونَهُ, بَلْ إِنَّهُ طَرِيقٌ لِلْهَلَاكِ لِمَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ فِيهِمْ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ أَهْلُ الْخَشْيَةِ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ), وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ-: "اعْلَمْ -يَا أَخِي وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ لِمَرْضَاتِهِ، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ يَخْشَاهُ وَيَتَّقِيهِ حَقَّ تُقَاتَهِ-، أَنَّ لُحُومَ الْعُلَمَاءِ مَسْمُومَةً، وَعَادَةُ اللهِ فِي هَتْكِ أَسْتَارِ مُنْتَقِصِيهِمْ مَعْلَومَةً، فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ فِي الْعُلَمَاءِ بِالثَّلْبِ، ابْتَلَاهُ اللهُ -تَعَالَى- قَبْلَ مَوْتِهِ بِمَوْتِ الْقَلْبِ", وَقَالَ شَيْخُنَا ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "إِنَّنَا إِذَا احْتَرَمْنَا أُمَراءَنَا حَفِظْنَا أَمْنَنَا, وَإِذَا احْتَرَمْنَا عُلُمَاءَنَا حَفِظْنَاَ شَرْعَنَا".
فالَّلهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا وَانْفَعْ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ وَأَكْثِرْهُمْ بَيْنَنَا, الَّلهُمَّ اجْعَلْنَا مِمنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ وَاتَّبَعَ رِضَاكَ, الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم