العاصي واحتجاجه بالقدر

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضلا له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: إن التوبة هي الطريق إلى سعادة الدنيا والآخرة وما خلق الله الخلق إلا لعبادته؛ فيا ترى كيف يعبده أحد وهو لم يرجع إليه وهو لم يتب إليه ولم يستغفر من ذنبه.

 

إن بعض المغرقين في المعاصي يحتجون بالقضاء والقدر فيقول بعضهم: الله -عز وجل- قدر علينا أن نكون من العصاة، ويقول الآخر: لم يشأ الله إلى الآن أن يهديني. وهذا مع كونه عذرا قبيحا فهو دليل على عدم صحة عقيدة القضاء والقدر عند هؤلاء، ومن المعلوم بداهة عند كل مسلم أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان كما جاء في حديث جبريل المشهور

 

عباد الله: إن الذين يرددون هذه العبارة سواء علموا أم لم يعلموا هم متبعون لفرقة فاسدة منحرفة عن الصراط المستقيم يسميها العلماء فرقة الجبرية؛ فهم يرون أن العبد لا اختيار له فهو إنما يتصرف بأمر الله -عز وجل- فقط؛ فلا اختيار له؛ يزني بغير اختيار، ويكفر بغير اختيار! وهذا القول فيه فساد الشرع وفساد العقل؛ إذ كيف يتصور أن الله -عز وجل- العدل الذي لا يظلم أحدا الذي أرسل المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- والذي فتح أبواب الخير لعباده كيف يظن به أنه يلزم عباده بفعل المعاصي سبحان الله يقول: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)[الْقَلَمِ:35] ، ويقول: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ)[السجدة:18] ويقال بعد ذلك من قبل بعض هؤلاء الجهلة إننا نعصي الله؛ لأنه أرادنا أن كون عصاة! أعوذ بالله هذا سوء ظن بالله، وجهل في عقيدة المسلم، ويجب على من تراوده نفسه أن يعتقد مثل هذا الاعتقاد أن يتوب منه؛ فإنه قد يخسر كل شيء بمثل هذا الاعتقاد الفاسد عياذا بالله.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين؛ فإن هذا لو كان مقبولا لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس، وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض ويحتج بالقدر".

 

إذن ليس لنا أن نعترض على اليهود التي تبجحت بفسادها في طول الأرض وعرضها ونقول: هذا قدر الله ويقولوا لنا" هذا قدر الله فيكم.

 

إذن -يا عباد الله- الاحتجاج بالقدر في المعاصي خلل في العقول إن الذي يحتج بالقدر في فعل المعاصي ويترك الطاعات إنما يتشبه بالمشركين الذين قال الله عنهم: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)[الأنعام:148].

 

الله -عز وجل- من رحمته بعباده لم يكلفهم ما لا يستطيعون، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن:16]، وقال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة:286] ثم يقال لهؤلاء من المعلوم بداهة لكل مسلم أن الله -عز وجل- لا يظلم مثقال ذرة؛ فكيف يتوعد العصاة بالعقاب وهم لم يختاروا المعصية، ولو فكر هؤلاء المحتجون في مخالفة كلامهم للعقل لاستحيوا من الله ومن خلقه؛ فهم في أمور الدنيا لماذا يختارون ما ينفعهم من جلب الأرزاق وتحصيل المصالح؟! لماذا لم يجلسوا في بيوتهم ويقولون إن رزقنا مكتوب؟! لأنه يعلم أنه إذا جلس في بيته لن يأتيه الرزق؛ فلماذا يقول هذا هنا ولا يقوله عندما يفعل المعاصي! هذا دليل على الهوى.

 

إذا قيل للعاصي لم عصيت الله لم أنت مسرف في المعاصي تب إلى ربك لقال: إنما أنا أعصي بقدر الله. فلو صفعته على وجهه صفعة سيقول لك: لم صفعتني؟ فقل له: صفعتك بقدر الله فإن الله قدر عليك هذه الصفعة فلا بد أن ترضى بها. لن يرضى وسيطالبك بالقصاص.

 

يقدم الناس بعضهم على قتل الآخر ويقول: قتلته بقدر الله فلم تحاسبونني هذا باب لا يقبل أبدا عند العقلاء بل حتى الحيوانات وهي ليست لها عقول إذا اعتدى حيوان على آخر ربما اجتمعت بعض الحيوانات وعاقبت ذلك المعتدي.

 

عباد الله: إن كثيرا من هؤلاء المقصرين -هداهم الله- إذا قالوا -مثلا-: لم يشأ الله إلى الآن أن نصلي! مسلم وتعرف أن الحد الفاصل بين الإسلام والكفر الصلاة ولا تصلي، ثم يقال لك: صلِّ فتقول: لم يشأ الله أن أصلي! الذي يقول هذا ومن كان على شاكلته هم في الحقيقة لا يقولون هذا -في الغالب- عن قناعة شرعية أبدا ولا عن قناعة عقلية لكنهم يقولونه تخلصا من الحرج، يقولونه هوى واعتذارا ولكن الله -عز وجل- مطلع على ما في القلوب.

 

نسأل الله عز وجل أن يهدي جميع المسلمين اللهم اهد قلوبنا وأصلح أعمالنا وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: ومن المعوقات التي تصد بعض المسلمين عن المسارعة إلى التوبة إلى الله -عز وجل- أن بعض المسلمين -وفقهم الله لكل خير- يتركون التوبة من بعض المعاصي خوفا من الرجوع إلى الذنب؛ فهم لا يثقون في أنفسهم، كما أن هذا فيه عدم إحسان للظن بالله -عز وجل- الذي يحب التوابين ويفرح بتوبة عباده.

 

إن التائب الصادق في توبته سيجد -إن شاء الله- التثبيت والسداد من الله -عز وجل- على قدر حسن ظنه بالله وعلى قدر عزيمته وصدقه يروي أبو هريرة -رضي الله عنه- عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قال الله -عز وجل- أنا عند ظن عبدي وأنا معه حين يذكرني"(رواه مسلم).

 

ثم -أيضا- لا مانع من تكرار التوبة ولو حصل تكرار في الذنب؛ بل هذا هو الواجب مهما رجع الإنسان إلى الذنب يجب عليه أن يتوب منه وهذا -أيها الإخوة- من أسرار كثرة الاستغفار لماذا أمرنا الله -عز وجل- بالإكثار من الاستغفار والتوبة؛ لكثرة الذنوب وكثرة الخطأ، ولأن الإنسان ينسى فهو ضعيف إلا أن يثبته الله -عز وجل-، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكي عن ربه -جل وعلا- قال: "أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك"(رواه مسلم) ما أعظم هذا الحديث لمن يفقهه ما أعظم هذا الحديث لمن لا يحسن الظن في الله -عز وجل- فيظن أنه إذا تاب لا بد أن يرجع إلى الذنب من قال لك هذا إنه الشيطان يقول النووي رحمه الله تعالى في فهم هذا الحديث: "قوله عز وجل للذي تكرر ذنبه اعمل ما شئت فقد غفرت لك معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك".

 

التوبة -يا عباد الله- هي سبب المغفرة وليس تكرار الذنب هو سبب المغفرة الذي جعل الله -تبارك وتعالى- يقول له: "اعمل ما شئت فقد غفرت لك"؛ لأنه يعلم أنه من التوابين.

 

أيها الإخوة: إن الذي يكثر من التوبة والندم والمحاسبة يستبعد أن يكون مصرا على الذنوب، والموفق من وفقه الله -عز وجل-.

 

اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت خلقتنا ونحن عبيدك ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا نعوذ بك من شر ما صنعنا ونبوء لك بنعمتك علينا ونبوء بذنوبنا فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

 

لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.

 

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا يا رب العالمين.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة:201].

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم عليك بأعداء الدين اللهم عليك بأعداء الدين.

 

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ولاة أمورنا.

 

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف:23].

 

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.