الطمع طبع

زيد بن مسفر البحري

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات:
عناصر الخطبة
1/ ذمُّ الطمع 2/ منشؤه 3/ نتائجه وآثاره 4/ استعاذة النبي الكريم منه 5/ تحذير النبي الكريم أصحابه منه 6/ حالُ الطمّاعين 7/ تفشـّي ظاهرة الطمع 8/ التحذير من الطمع

اقتباس

1/ ذمُّ الطمع 2/ منشؤه 3/ نتائجه وآثاره 4/ استعاذة النبي الكريم منه 5/ تحذير النبي الكريم أصحابه منه 6/ حالُ الطمّاعين 7/ تفشـّي ظاهرة الطمع 8/ التحذير من الطمع فمَن كان طامعا فليعتبر نفسه من الفقراء، يقول عمر -رضي الله عنه-: "الطمع فقر"، نعم، الطمع فقر، بل -والله- إنه لعذاب! قال -عز وجل- عن المنافقين: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55].

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: فيا عباد الله، (الطُمع طُبَع)، هذه مقولة شهيرة كثيرا ما سمعتها وأنا صغير من آبائنا وأجدادنا، فحفظت هذه الكلمة، فلما كبرت وقرأت في كتب اللغة وجدت هذه اللفظة أمام ناظري، كنت فيما مضى لا أعرف معنى الكلمة الثانية ولا مغزاها ولا مرماها، فلما اطلعت عليها وجدت أن لهذه الكلمة التي نطق بها أجدادنا وقدماؤنا أن لها امتدادا باللغة العربية، فإذا بالكلمة تُضبط: (الطَّمَع طَبَع).

 

ما معناها؟ معناها أن الطمع خلقٌ دنيء سيء مُدَنسٌ صاحبه، نعم؛ لم؟ لأن الطمع -عباد الله- ينشأ من الحرص على هذه الدنيا، وينشأ من الجهل بحكمة الله -عز وجل- الخالق المتفضل الرزاق الوَّهاب المنعم، فمن طمع فإنه جهل حكمة الله -عز وجل- إذ قدَّر المقادير، فلا يزيده حرصه هذا إلا شرا.

 

والطمع -عباد الله- لا يُحمد بتاتا، إلا إذا كان في حق الله -عز وجل-، بمعنى أن المخلوق يطمع فيما عند الله، ويؤمِّل فيما عند الله، فيكون بهذا الاعتبار محمودا، قال إبراهيم -عليه السلام-: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء:82]، عبادُ اللهِ الذين يقومون الليل (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة:16]، طمعا فيما عند الله -عز وجل-.

 

أما إذا كان الطمع في هذه الدنيا ومن أجل الدنيا لأموالها ومناصبها وشرفها فإنه يكون مذموماً، وهذا -عباد الله- لا يتعارض مع السعي في الرزق، كلا! إنما المقصود أن من وجد ما يكفيه وزيادة، فإنه لا يقتصر على ما لديه بل يطمع ويحرص على أن يتناول أكثر منه، وهكذا دواليك.

 

يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- كما في مكارم الأخلاق، يقول: "العبودية في الحقيقة هي رق القلب، فما استرق قلبك واستعبده فهو عبده"، نعم، استرق القلبَ المالُ فأنت عبد لهذا المال، استرق قلبَك الشهوةُ أنت عبد لهذه الشهوة، استرق قلبك اللهُ -عز وجل- أنت عبدٌ لله -عز وجل-، يقول الشاعر:

أطعت مطامعي فاستعبدتني *** ولو أني قنعتُ لكنت حرا

 

ثم قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إن الخليل -عليه السلام- قال: (فابتغوا عند الله الرزق)، فالعبد لا بد له من رزق وهو محتاج إليه، فإذا طلب رزقه من الله كان عبدا لله، فقيرا إلى الله، وإن طلب الرزق من المخلوق كان عبدا لذلك المخلوق، فقيرا إليه".

 

الطمع -عباد الله- قد يضيع العلم الشرعي من عالمه، الطمع قد يضيع المال الحلال من التاجر بسبب طمعه إذا خلطه بالحرام، الموظف قد يضيع وظيفته من أجل الطمع، ذو المهنة الشريفة التي لها مبادئ من طب أو هندسة أو نحو ذلك، قد يضيع عمله من أجل طمع، فالواجب علينا أن نَنفر وأن نُنفّر من الطمع، فالناس بحاجة ماسة إلى التنفير من هذا الخلق، لأن الطمع لابد أن يودي بصحابه إلى أن يخون، يخون في علمه الشرعي، يخون في طبه، في هندسته، في وظيفته، في تعامله مع الآخرين، نعم، وإذا خان، فالنار مأوىً له، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار -رضي الله عنه- قال: "أهل النار خمسة"، فذكر منها: "والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق شيء إلا خانه".

 

ولذلك؛ استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم من الطمع ومن توابعه ومن نتائجه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وأعوذ بك من نفس لا تشبع"، النفس إذا لم تشبع فلا تسأل عن هلاكها! نعم، ما نحن فيه من غلاء، ولا ننكر أن هناك مؤثرات اقتصادية عالمية أثرت على الأسعار، لكن زِد على ذلك الطمع، الغلاء في المأكولات والمشروبات سببه الغلاء من بعض التجار، نقصان الميزان والمكيال، حتى أصبح الكيس ينقص عن قدره الأول ويبقى على سعره الزائد بسبب الطمع، بيوت خربة لا تساوي شيئا أصبحت "إجاراتها" بالأسعار الخيالية، عقارات نائية تبعد عن المدن ثمانين أو مائة كيلو تضاعفت أسعارها.

 

ولكن، كما قيل: "الطمع يُذهب ما جمع"، "دوام الحال من المحال"، فلا يمكن أن تدوم هذه الأحوال أبدا، والنماذج واضحة، أناس فيما مضى دخلوا في الأسهم بثلاثمائة ألف ريال وصلوا إلى مليون، قال لا، أنتظر ربما تزيد، يصل المليون إلى ثلاثة وهلم جرا، ثم ماذا؟ لم يبق لا المليون ولا الثلاثمائة ولا ما دونها، وهذا هو الطمع، (يذهب ما جمع)، وليتنبه العبد إلى تلك الصفة الذميمة.

 

ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر أصحابه، جاء في الصحيحين من حديث عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعطيني العطاء، فأقول: يا رسول الله، أعطه من هو أفقر مني، فقلت له ذات يوم لما أعطاني: أعطه أفقر مني، فقال -عليه الصلاة والسلام-: يا عمر، ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف -يعني: من غير تطلع- ولا سؤال فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك"، نعم، لأن النفس إذا ما رُبيت على القناعة والاقتصاد والاقتصار فإنها لا تشبع، ولذلك يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ما طمحت نفس لشيء من هذه الدنيا فبلغته إلا طمحت إلى ما هو أعلى منه".

 

والأدلة واضحة، كما جاء في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة، لكن هناك لفظ غريب أردت أن آتي به لأن هناك ألفاظا تعرفونها وسمعتموها، في الصحيحين، واللفظ للبخاري، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن لابن آدم ملء وادٍ مالا لأحب أن له مثله، ولا يملأ عيني ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".

 

تنشأ على صفة القناعة تقنع, بينما لو تربيت على الطمع والجشع منذ الصغر واستمرت معك هذه الخصلة الذميمة، فإنها تزداد أكثر فأكثر، لم؟ لأن ابن آدم كلما كبر كلما تعلق بهذه الدنيا إلا من وفقه الله -عز وجل-، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لا يزال قلب الكبير شابا في حُب اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل"، وفي حديث آخر في الصحيحين: "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر".

 

فحدثوني بربكم، لو كان منذ الصغر قد تربى على حب المال ووصل إلى هذه المرحلة الكبيرة من السن، ماذا ستكون حاله؟ كما هي النماذج في واقعنا وبين أيدينا، والله إني لأعجب! بعض الناس يملك من الملايين ما يملك، قد يملك عشرين مليونا، نقول له: يا فلان، لماذا هذا الحرص؟ قال: فلان أكثر مني بأربعة ملايين، لا بد أن أصل إليه! فإذا وصل إليه أحب أن يفوقه، وهكذا! دون أن ينتفع بهذا المال أو يستفيد منه.

 

ولذلك ابتلينا في هذا العصر، وابتليت قلوبنا، ونسأل الله -عز وجل- أن يلطف بنا وأن يحمينا وأن يعيذنا من شرور فتن هذا الزمن، أصبح الناس يتسارعون ويتكالبون ويتحاثون على المال وعلى المناصب، حتى لو كان لديه منصب جيد أراد أن يكون له منصب أعلى من ذلك.

 

لا شك أن للإنسان أن يحرص على أن ينفع نفسه وأن ينفع بلدته، ولكن ليس على حساب دينه، كما نرى بعض الناس، نسأل الله العافية.

 

ولذلك؛ اسمع إلى خطورة الحرص الشديد على المال وعلى المنصب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها".

 

لأن الإنسان إذا حرص على أن يصل إلى منصب ما أحب ألا يفوته ذلك المنصب إذا وصل إليه، ربما بعد ذلك يضيع شيئا من دينه لئلا يفوته ذلك المنصب، ماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند الترمذي من حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه-؟ قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه".

 

سبحان الله! تصور لو أن ذئبين جائعين أطلقا في قطيع غنم، ماذا سيفعل هذان الذئبان بهذا القطيع من الغنم؟ سيأتيان عليه كله، إذاً، كما سيأتي هذان الذئبان الجائعان على الغنم، سيأتي الحرص على المال والشرف فيتلفان دين الإنسان! "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه".

 

والنبي -صلى الله عليه وسلم- فصل في الموضوع، قال، كما عند الحاكم وصححه الألباني: "منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال".

 

أعرف بعض الناس وأدركته، كان يسأل الناس، حتى إنه ليسأل الخبزة له ولزوجته حتى يفطر عليها، وكان الكل يرحمه، فلما توفي ظل الناس أسابيع، بل شهورا، يحصون تَرِكَتَهُ وما لديه من الأموال! سبحان الله! صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال، كما في المسند وعند الترمذي: "لا يفتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر". نسأل الله العافية! إلى هذه الدرجة بسبب الطمع؟!.

 

ولذلك، حكيم بن حزام -رضي الله عنه- كما في الصحيحين، قال: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، فقال: "يا حكيم، إن هذا المال خَضِرة حُلْو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى"، يعني اليد التي تنفق خير من اليد التي تأخذ. ثم قال حكيم بن حزام: "فوالذي نفسي بيده! لا أرزأ -أي: لا أنقص- أحدا بعدك شيئا"، فكان أبو بكر يأتيه ويقول: "خذ هذا العطاء"، فيرفض، ويأتيه به عمر ويرفض، فمات حكيم بن حزام فما رزأ أحدا شيئا من ماله.

 

فمَن كان طامعا فليعتبر نفسه من الفقراء، يقول عمر -رضي الله عنه-: "الطمع فقر"، نعم، الطمع فقر، بل -والله- إنه لعذاب! قال -عز وجل- عن المنافقين: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55].

 

يقول ابن القيم -رحمه الله-: إن العذاب يتناول هؤلاء ثلاث مرات، يعذبهم الله -عز وجل- بهذا المال ثلاث مرات، كيف؟ قال: يتعذب في تحصيله وجمعه، ثم يتعذب في تنميته وإكثاره، ثم يتعذب: كيف يحافظ عليه؟.

 

فنسأل الله -عز وجل- أن يقنع نفوسنا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فيا عباد الله، حذارِ حذارِ من الطمع! فإن الإنسان إذا طمع يكون أعظم من شارب الخمر إذا ذهب عقله! اسمع إلى ما قاله علي -رضي الله عنه-، قال: "وما الخمر الصرف بأذهب لعقول الرجال من الطمع".

 

ولا أحد يزكي نفسه أو يرى نفسه أنه في منأى من خطورة هذا الأمر، لا والله! بل على الإنسان أن يلتجئ إلى الله أن يُحفظ، عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- سئل ذات يوم فقيل له: ما الذي أذهب العلم من قلوب العلماء بعد أن علموه؟ قال: "الطمع، وشره النفس، وطلب الحوائج عند الناس".

 

بعض الشعراء يصف صاحب الطمع -أعزكم الله- بكلب الصيد، يصيد ويعطي المصيد لصاحبه وهو جائع، يقول:

وذي حـرصٍ تـراه يـلـم وَفــرا *** لوارثـه ويدفعُ عـــن حِمـاه

ككلب الصيد يُمسك وهو طاوٍ *** فريســــتـه ليـأكــلـها ســواه

 

ومن طمع ذل، أصبح ذليلا، كما قال القائل:

حسبي بعلمي إن نفع *** ما الذلّ إلا في الطمــع

مــَـن راقـب الله نــزع *** عن سوء ما كان صنع

 

ويقول آخر:

تعالى الله يا سلم بن عمرو *** أذل الحرص أعنــــاق الرجال

هب الدنيا تقاد إليك عفوا *** أليس مصــيـــر ذلـك للزوال

 

وقال عبد العزيز الجرجاني -رحمه الله-، يبعث برسالة للعلماء، قال:

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عَظَّموه في النفوس لعُظِّما

ولكن أهانـوه فهـــان ودنــســوا *** محيـاه بالأطمـاع حتـى تجهما

 

وقال آخر مبينا أن الطامع ليس سعيدا بماله، لم؟ لأنه يرى ما في أيدي الآخرين، ويتطلع إلى أن يأخذ ما في أيديهم وما في أيدي غيرهم، فلا يكون مسرورا فرحا بهذا المال ولو كان عنده مليارات، ولذا نرى على وجه بعضهم الكآبة من الضيق والهم والقلق، سبحان الله! لديه أموال، يمكن يسعد بها، يُسعد بها نفسه ومن حوله ويُسعد بها الفقراء، ويبقى المال الكثير الوفير له ولأحفاده ومن جاء بعدهم، لكن الموفق من وفقه الله -عز وجل-.

 

يقول القائل:

لا تغبطن أخا حرص على سعة *** وانظر إليه بعين الماقت القالي

إن الحريـص لمشـغــول بثـــروتــه *** عن السـرور بما يحويه من مال

 

نسأل الله -عز وجل- أن يقنعنا برزقه، وأن يشبع نفوسنا.

 

 

المرفقات

طبع

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات