الطفل الذي لم يغرق

سلطان بن عبد الله العمري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/قرار الطاغية بقتل الأطفال وخوف أم موسى -عليه السلام- عليه 2/إلقاء أم موسى -عليه السلام- له في البحر وحفظ الله له 3/خروج موسى -عليه السلام- من البحر ورعاية زوجة الطاغية له 4/قتل موسى-عليه السلام- لرجل وخروجه من مصر إلى الشام 5/تكليف الله لموسى -عليه السلام- بدعوة فرعون وقيامه بذلك 6/بعض اتهامات فرعون لموسى –عليه السلام- 7/إيمان سحرة فرعون وتهديد فرعون لهم 8/ثقة موسى -عليه السلام- بربه وتثبيته للمؤمنين 9/إهلاك الله لفرعون ونصره لموسى -عليه السلام- 10/بعض الدروس والعبر من قصة موسى -عليه السلام-11/فضل صيام عاشوراء

اقتباس

إنه الإيمان الذي ينتصر على كل شيء!.إنه التوحيد الذي يطهر القلب من الأصنام والمعبودات الكافرة!. ولكن يا ترى هل سيسكت فرعون الطاغية أم أن لديه فكرة أخرى؟ إن فرعون طاغية من الدرجة الأولى، يعلن للسحرة أمام الملأ: كيف...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، والصلاة والسلام على النبي المختار.

وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وعلى آله وصحبه الأبرار الأخيار.

 

أما بعد:

 

في ذلك اليوم يتم الإعلان في المدينة بأخذ الأطفال من بيوتِهم ثم قتلهم.

 

نعم، هكذا قرر ذلك الطاغية.

 

وهناك في ذلك البيت طفلٌ صغير تخشى عليه أمه من دخول الجنود، فتضعه في صندوق صغير ثم ترمي به في النهر.

 

ألقت بولدها، وكُلُها خوف وحزن عليه، لا غرابة فهي أم وقلب الأم لا يماثله قلب!.

 

ويجري الصندوق في ذلك النهر، وتلعب به المياه، حتى يقترب من قصرِ ذلك الطاغية الذي أمر بقتل الأطفال!.

 

ثم يأخذ الجنود ذلك الصندوق ويفتحونه، فيجدون طفلاً صغيراً.

 

ثم يذهبون به إلى ذلك الطاغية، فيشتد غضبه، ويأمر بقتله، ولكن زوجَته كانت بالقرب منه، فقالت: (لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[القصص:9].

 

ثم يكون ذلك الطفل تحت رعاية تلك الملكة، وتأمر بالبحث له عن مرضعة، فتأتي الأولى والثانية، ولكن يرفض ذلك الطفل أن يرضع منهم.

 

فتقرر السيدة أن تنزل به للسوق لعل هناك مرضعة تناسب ذلك الطفل.

 

وفي ذلك يوم كانت تلك الفتاة التي هي أخت ذلك الطفل تقوم بالبحث عنه، وإذ بها تجد النساء يعرضن طفلاً، ويبحثون له عن مرضعة، فقالت تلك الفتاة: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)[القصص: 12].

 

وتوافق السيدة لطلب تلك الأخت، ثم يعطونها ذلك الطفل ويذهبون به لذلك البيت.

 

إنه بيت والدته التي رمته في النهر قبل أيام، فيا ترى ما شعورها وهي ترى طفلها قد رجع إليها ولم يمسه سوء، بل عاد إليها من قصر ذلك الطاغية؟

 

وصدق الله الذي قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[القصص: 7].

 

سبحانك يا رب كيف كانت رعايتك لموسى -عليه السلام-منذ طفولته؟!.

 

لقد قامت أمه بالرضاعة، فلما خافت عليه من الجنود ألقته في النهر، ولك أن تتخيل مشاعرها وهي تضع طفلها الرضيع يتقلب في المياه!.

 

ولكنها الثقة بالله -تعالى- التي تجعل القلب يطمئن ويأنس ويرضى بهذا الرب العظيم.

 

ثم قال تعالى: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)[القصص: 7].

 

وفعلاً رجع لها لكي ترضعه أمه فقط.

 

وتأمل كيف حّرم الله عليه النساء، لكي لا يرضعنه؛ قال الله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ)[القصص: 12].

 

فأعاد الله موسى -عليه السلام- ليرضع من والدته الغذاء والحنان!.

 

سبحانك! يا رب ما أعظمك!.

 

وتجري الأيام لموسى -عليه السلام- وهو في حضن أمه ويتردد على قصر الطاغية فرعون؛ لأن زوجة فرعون تريده أن يبقى معها.

 

ثم تجري الشهور والسنوات، وينمو موسى -عليه السلام- ويصبح رجلاً، وهو لا يدري عن الاختيار الرباني الذي ينتظره!.

 

وفي ذات يوم وبينما كان يمشي في إحدى الطرق، وجد رجلا من قبيلته، يتخاصم مع رجل آخر أجنبي عنهم، فبدأ موسى -عليه السلام- يدافع عن قريبه، وقام بضرب ذلك الرجل الآخر.

 

ثم في اليوم التالي تحصل خصومة أخرى، وأراد موسى -عليه السلام- الدفاع عن صاحبه، ولكن ينكشف أمره، ويصيح الرجل بما جرى أمس من موسى -عليه السلام- مع خصمه.

 

فيقلق موسى -عليه السلام- ويغلب عليه الخوف، ويأتيه الناصح، ويقول: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)[القصص: 20].

 

ثم يقرر موسى -عليه السلام- الهرب من تلك المدينة: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[القصص: 21].

 

ويمكث عشر سنوات في الغربة، ويسكن في بلاد الشام، ويتزوج هناك.

 

ويعمل أجيراً عند والد زوجته ليكون هذا العمل مهراً لزواجه!.

 

وبعد ذلك يقرر الرجوع إلى مصر، إلى موطنه وبلده الأصلي.

 

وفي الطريق يرى ناراً أمامه فأراد أن يطلَّع ويشاهدها من قرب لعلهم أناس يستأنس بهم، ويأخذ من أخبارهم.

 

ولما وصل عند النار إذ سمع صوتاً غريباً وجديداً، إنه صوت الله! ويكون هناك النور الجديد والميلاد الكبير في قصة الرسالة: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[القصص: 30].

 

وفي الآية الأخرى: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى)[طه: 13].

 

ثم تبدأ الرسالة: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)[طه: 24].

 

إن هذا الاسم ليس غريباً على موسى، فلقد نشأ في قصر فرعون!.

 

يا موسى -عليه السلام- لقد اخترتك لتكون داعيةً لديني!.

 

هيا يا موسى -عليه السلام- انطلق لتبلغ الرسالة، وتنقذ الناس من عبادة غير الله إلى عبادة الله الواحد الأحد.

 

ثم يتوجه موسى -عليه السلام- لربه بطلبات تعينه في طريق الدعوة: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي)[طه: 25-26].

 

ثم ينطلق موسى -عليه السلام- إلى قصر فرعون ليبلغه الرسالة.

 

ويدخل القصر وتبدأ الحوارات بين موسى -عليه السلام- وفرعون.

 

إنه حوار عن الدعوة لتوحيد الله وإفراده بالعبادة: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)[الشعراء: 23- 26].

 

ثم تأتي الاتهامات لموسى -عليه السلام-: (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)[الشعراء: 27].

 

ويستمر موسى -عليه السلام- في دعوته ومناصحته، وتقرير عظمة الله، ووجوب توحيده: (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)[الشعراء: 28].

 

فيتوعده فرعون قائلاً: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)[الشعراء: 29].

 

ثم يقترح عليه موسى -عليه السلام- أن يتأنى قليلاً حتى يريه معجزةً من الله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ)[الشعراء: 30-33].

 

وحينها يقرر فرعون ويقول: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)[الشعراء: 34-35].

 

إنها الاتهامات الكاذبة لموسى -عليه السلام- كليم الرحمن، وهل كان موسى -عليه السلام- ساحراً أو جاء ليصحح عقائد الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور؟

 

ثم يقول السحرة: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)[الشعراء: 36-37].

 

ثم يكون القرار باللقاء في مكان ليجتمع الناس ليشاهدوا السحرة وموسى -عليه السلام- وأيهم يغلب.

 

ويكون الموعد ضحى لكي يكون المشهد واضحاً نيراً للناس!.

 

ويأتي السحرة لفرعون ويلتمسون منه الهدايا والهبات في حال فوزهم على موسى: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)[الشعراء: 41-42].

 

ثم يقولون لموسى: (إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى)[طه: 65].

 

ثم ألقوا بعصيهم، وتأثر الناس بما شاهدوه من السحرة من تلاعب العصي، وكأنها ثعابين.

 

وبعدها يلقي موسى -عليه السلام-عصاه، فإذا هي تلقف ما يأفكون، فتكون الصدمة كبيرة لفرعون وللسحرة: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى موسى -عليه السلام-أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)[الأعراف: 117-120].

 

ما هذا؟!

 

فما كان من السحرة إلا أن خروا ساجدين بين يدي الله معترفين من قلوبهم بأن "لا إله إلا الله" قائلين: (آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)[طه: 70].

 

إنه الإيمان الذي ينتصر على كل شيء!.

 

إنه التوحيد الذي يطهر القلب من الأصنام والمعبودات الكافرة!.

 

ولكن يا ترى هل سيسكت فرعون الطاغية أم أن لديه فكرة أخرى؟

 

إن فرعون طاغية من الدرجة الأولى، يعلن للسحرة أمام الملأ: "كيف تؤمنون لموسى -عليه السلام-بدون أن أسمح لكم؟! إن موسى -عليه السلام- ساحر وهو الذي علمكم السحر؟!.

 

ويأتي الجنود الكفرة للطاغية فرعون ويقنعونه بفكرة الانتقام من موسى -عليه السلام- ومن معه: (أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)[الأعراف: 127].

 

فيجيب فرعون لهم: (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)[الأعراف: 127].

 

إنها سياسة القتل والتعذيب والاضطهاد!.

 

ولكن فرعون لم يدرك أن السحرة قد رحلت قلوبهم لربهم، وقد وجدوا في تلك اللحظة حلاوة الإيمان! ولذة اليقين برب العالمين!.

 

لقد نطقوا وقالوا لفرعون: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذه الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)[طه: 72].

 

يا الله! ما لذي يجري هنا؟!.

 

كانوا قبل لحظات من حزب الكفر والطاغوت ومن السحرة والشياطين.

 

وفي لحظات تنقلب القلوب لتحولهم إلى أبطال صامدين أمام تهديدات فرعون.

 

عجباً للإيمان ماذا يفعل بالنفوس!.

 

يا فرعون! افعل ما تشاء بأجسادنا، لقد آمنا بالله واتخذناه رباً وإلهاً ونصيراً!.

 

يا فرعون: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 73].

 

وفرعون يستمع وهو لا يكاد يصدق أن هذا من كلام سحرته الذين عاشوا عبيداً له فترةً من الزمن!.

 

وهنا تبدأ معركة الثبات على العقيدة والانتصار على شهوات النفس!.

 

ويأتي موسى -عليه السلام- ليلقي على تلك الفئة المؤمنة تلك الكلمات: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الأعراف: 128].

 

وبعد ليال يقرر موسى -عليه السلام- أن يرحل بتلك الفئة من مصر ويتجه للبحر.

 

ويأتي الموعد ويجتمع أهل الإيمان ليرحلوا بدينهم ويهاجروا من بلد الفتن والتعذيب: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ)[الدخان: 23].

 

وبعد لحظات يتسامع جنود الطاغية ويخبروا فرعون بقصة الرحيل.

 

فيقرر فرعون بدء المطاردة لكي يقتلهم قبل خروجهم.

 

وتنطلق جنود فرعون عند الصباح: (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ)[الشعراء: 60] أي عند شروق الشمس.

 

وهناك وأمام البحر الهائج بأمواجه يكون الملتقى، بين موسى -عليه السلام- ومن معه وبين فرعون وجنوده.

 

فيصيح أهل الإيمان لموسى: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء: 61].

 

يا موسى -عليه السلام- ألا ترى البحر أمامك وفرعون وراءك ونحن لا نملك شيء؟!

 

فقال موسى -عليه السلام- الواثق بمعية الله ونصره وتأييده: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62].

 

يا قوم لن يدركنا فرعون.

 

إن الله معنا؛ لأننا آمنا به، ولن يتخلى عنا.

 

ولك أن تتخيل الحوار بين موسى -عليه السلام-وقومه، وهم لا يشاهدون أمامهم إلا بحراً متلاطماً ويرون وراءهم جنوداً قادمين يتقدمهم الطاغية فرعون بكل حقد وكراهية.

 

وهنا وفي تلك اللحظات يتنزل الوحي من فوق سبع سماوات لموسى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى موسى -عليه السلام-أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ)[الشعراء: 63].

 

يا موسى! لا تستمع لكلام الناس الضعفاء الذين علت أصواتهم!.

 

يا موسى! أنا القوي العزيز، وأنا الجبار المتكبر!.

 

يا موسى -عليه السلام-اضرب البحر بتلك العصا لأريك قوتي!.

 

وفجأة! وإذا بالبحر الهائل يتفرق لاثنا عشر طريقاً! ويقف البحر وكأنه جبل! وتكون الممرات يابسة لكي يمشي عليها موسى -عليه السلام- ومن معه!.

 

يا الله! ما هذا؟ ماذا أرى؟

 

لقد توقف البحر بضربة عصا!.

 

(فَأَوْحَيْنَا إِلَى موسى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء: 63].

 

يا الله! لقد انشق البحر لعدة مسارات بضربة عصا!.

 

يا الله! لقد اختفى العمق البحري، واختفت الأمواج، وغابت معالم البحار في ثوان!.

 

ثم ينطلق موسى -عليه السلام- ومن معه في السير في تلك المسارات قبل أن يدركهم فرعون!.

 

وفي لحظات يخرج موسى -عليه السلام- ومن معه من تلك المسارات، ثم يقترب فرعون وجنوده من البحر الذي وقف لموسى!.

 

وهناك لا تسأل عن هول الموقف الذي يشاهده الطغاة وجنودهم!.

 

ثم ينطلق فرعون وجنوده ليسلكوا في تلك المسارات.

 

ولكنهم لا يعلمون بأن الذي أوقف البحر هو الله، وأن الذي سيعيد البحر لطبيعته هو الله!.

 

ولما اكتمل الجنود الكفرة، يأمر الله البحر أن يعود كما كان، فيستجيب البحر!.

 

ثم تتلاعب الأمواج بالجنود، وتكون المياه فوق الجنود ومن تحتهم، وتضطرب الأمواج لتعلن نهاية التاريخ المظلم لتلك الفئة الطاغية!.

 

وحينما رأى فرعون تلك الآية العظيمة أراد أن يدخل في دين موسى -عليه السلام- ولكن هيهات: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)[يونس: 91-92].

 

وتكون النهاية: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)[الأعراف: 137].

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

وبعد:

 

معاشر الكرام: إن في قصة موسى -عليه السلام- دروس وعبر: أن الحرب بين الإيمان والكفر قديمة، وليست هي من نتاج هذا العصر، قال الله: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)[البقرة: 217].

 

ومن الدروس في قصة موسى -عليه السلام-وفرعون: أن الله ناصرٌ أنبياءه وعباده الصالحين، حتى ولو بعد حين.

 

فتأمل النصر الذي جرى لموسى -عليه السلام-لم يكن في ذات اللحظة، بل كان بعد فترةٍ من الزمن من طغيان فرعون وأذيته للناس وتعبيدهم له.

 

ومن العبر في قصة موسى -عليه السلام- وفرعون: الصبر والثبات على البلاء الذي يحيط بأهل الإيمان.

 

فانظر في السحرة الذين توعدهم فرعون بالقتل بسبب إيمانهم، ومع ذلك لم يتراجعوا عن دينهم، بل قالوا: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا)[طه: 73].

 

وقالوا: (أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)[الأعراف: 126].

 

ومن الدروس في قصة موسى -عليه السلام-وفرعون: اليقين بقوة الله، وانتقامه من الطغاة، وأنه يمهل ولا يهمل.

 

فانظر في فرعون الذي كان يقول عن الأنهار: (وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف: 51].

 

لقد مضت الأيام وأجراها الله من فوقه!.

 

فاصبروا -يا عباد الله-، وأيقنوا بالعذاب الذي سيحيط بالكافرين، ولو بعد حين!.

 

ومن العبر في قصة موسى -عليه السلام-وفرعون: استشعار معية الله ورعايته في وقت الفتن والشدائد.

 

وهذا ظاهر من موقف موسى -عليه السلام-الذي قال للناس: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62].

 

فيا عباد الله: كونوا على يقين بأن الله مع المؤمنين، ولكن متى؟

 

حينما يكونون معه بصحة الإيمان والعمل الصالح.

 

اللهم انصر دينك وعبادك الصالحين، وأرنا قوتك في الكافرين.

 

أيها الكرام: نحن في شهر الله المحرم، وهو شهر يستحب فيه الصيام، وفيه يوم عاشوراء وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى -عليه السلام- من فرعون، فصامه النبي -صلى الله عليه وسلم- شكراً لله -تعالى-.

 

وفضل صيام عاشوراء أنه يكفر ذنوب سنة كاملة.

 

ولا بد أن تنوي من الليل لصيامه.

 

ويجوز صومه بنية القضاء وبنية عاشوارء.

 

والأفضل صيام اليوم التاسع مع العاشر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عزم على ذلك، وقال: لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع".

 

ويقصد بذلك مخالفة اليهود؛ لأنهم يصومون العاشر فقط.

 

ولا يستحب فعل شيء فيه غير الصيام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرشدنا إلى فعل شيء غير الصيام.

 

وأما تفعله بعض الفرق الضالة من اللطم والضرب والبكاء والعويل، بل والشركيات ودعاء غير الله، فلا شك أنه ضلال وانحراف عن المنهج السوي.

 

اللهم ارزقنا الاتباع، وجنبنا الابتداع.

 

اللهم انصر دينك وسنة نبيك، وعبادك الموحدين.

 

اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

اللهم اشف مرضانا، وفرج همومنا، واقض ديوننا.

 

اللهم انتقم من أعدائك عاجلاً غير آجل.

 

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى.

 

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

المرفقات

الذي لم يغرق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات