عناصر الخطبة
1/ غرام البشر بالسياحة والسفر 2/ تصحيح مفهوم السياحة 3/ مخاطر الأسفار لبلاد الكفار 4/ بدائل سياحية مقترحةاقتباس
لقد جاء الإسلام إلى الأعرابي الذي ينتقل ويسافر قطعاً للطريق، وسلباً للقوافل والأموال؛ ليجعلَه مجاهداً في سبيل الله، وليجعله سائحاً مسافراً يدعو إلى دين الله، كان يبحث عن منابع الماء ومواقع القطر ليشرب منها، فإذ به يبحث عن منابع العلم لينهل منها.
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأمرنا بالتمسك به حتى نصل إلى دار السلام، له الحمد يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، لا تواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا جبلٌ ما في وعره، ولا بحرٌ ما في قعره. له الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، ما خاب مَن رجاه، ولا أفلح من قلاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين؛ فأغنى به بعد عيْلَة، وكثَّر به بعد قلة، وأعَزَّ به بعد ذلة، واستقامت ببعثته الملة. نبيٌ شرح الله صدره، ورفع ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-، فهي وصيته للأولين والآخرين، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [البقرة:131].
عباد الله: مع شدة حر الصيف اللافح، ولأواء الشمس وهجيرها، وسخونة الأجواء التي يتقاطر منها الجبين عرقاً، يستعد كثير من الناس لقضاء الصيف والإجازة؛ فحجوزات تؤكَّد، وتذاكر تقطع، وحقائب تجهز، وأحزمة تربط، وأموال ترصد، حيث ييمِّمون وجوههم قِبَلَ المصايف والمناطق المعتدلة الباردة، وترحل نجائبهم للبلاد الخارجية.
وزيارةٌ واحدةٌ للصالات الخارجية بالمطارات ووكالات السفر والسياحة تؤكد واقع الناس، وما هم فيه، حيث أجلبوا بخيلهم ورجلهم، وانطلقوا زرافات ووحدانا للسفر والسياحة؛ ذلك أن بعض المسلمين يجدون في شدة حر الصيف ولهيب سمومه عذراً ومسوِّغاً للسفر للبلاد الخارجية، سفراً بلا حدود، وانطلاقاً بلا غاية، وسعياً بلا هدف، ووجِهة بلا مهمة، حتى لو كان في ذلك ما فيه من الوقوع في المحرمات، وإهمال الواجبات.
وهذه الكلمات هي رسالةٌ إلى كل من يعنيهم الأمر من هواة السفر والترحال والسياحة، إنها وقفة سؤال وعتاب لهؤلاء الذين حملوا الصغير قبل الكبير، والعاجز قبل القادر، واصطحبوا النساء ومَنْ تحت ولايتهم إلى بلاد الكفر والنصرانية ومراتع الإلحاد والإباحية، رسالةٌ إلى الذين يريدون قضاء الإجازة والصيف بداعي اللهو والترفيه والراحة والاستجمام؛ ولكنهم جنوا على أنفسهم، وضيعوا أولادهم، وأهملوا محارمهم، وغفلوا عن أعراضهم.
عباد الله: إن السفر والترحال والسياحة أمر ذو بال في واقع كل امرئ حي، فالإنسان مجبول على حب التنقل والضرب في الأرض، والناس لهم في السفر والإجازة والسياحة مقاصد شتى، ومآرب متنوعة، فهذا يريد أن يعلل ويرفه جسده، وذاك يريد أن يمتع عينيه بالمناظر الخلابة، وآخرون بدعوى الدراسة والعمل والتجارة.
ونحن أبناءُ أمة كانت مطبوعةً على الرحلة، ومولعة بالسفر والسياحة، فالعرب في الجاهلية كانوا يسافرون ويسيحون في الأرض؛ إما سداً للفاقة، أو طلباً للراحة، أو للقتال والغارة، فجاء الإسلام العظيم مشرقاً بنوره الوضاء، فزكى مبدأ السياحة، وقوَّاه، وسما به.
وامتَنَّ الله تعالى على قريش حين ذكرهم بأنه هيأ لهم أسباب رحلتين عظيمتين منتظمتين: إلى اليمن تارةً، وإلى الشام أخرى؛ فقال -سبحانه-: (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) [قريش:2].
لقد جاء الإسلام إلى الأعرابي الذي ينتقل ويسافر قطعاً للطريق، وسلباً للقوافل والأموال؛ ليجعلَه مجاهداً في سبيل الله، وليجعله سائحاً مسافراً يدعو إلى دين الله، كان يبحث عن منابع الماء ومواقع القطر ليشرب منها، فإذ به يبحث عن منابع العلم لينهل منها.
لقد جاء الإسلام لعادة العرب فجعلها عبادةً وسياحةً تعود بالأجر والثواب فهذا سفرُ الحج والعمرة والهجرة والجهاد أكبرُ دليل على ذلك، جاء ليجعلها سياحةً وسفراً ورحلةً تعتبر بملكوت الله -جل وعلا-، وتنظر في آياته الباهرة، فقال -سبحانه-: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت:20]، (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران:137].
ولقد أنكر الله -جل وعلا- ونعى على أناس يسافرون ويسيحون ولا يتأملون في خلقه، فقال -سبحانه-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون) [يوسف:105].
وهذا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- سافر وانتقل وساح في الأرض مراتٍ وكَرَّات إبان شبابه قبل البعثة، وبعد نبوته، ما بين حجٍ وعمرةٍ وهجرةٍ وجهادٍ وتجارةٍ.
وليس يخفى على الجميع أن السفر والسياحة وحب الاطّلاع أصبحت في هذا الزمن من الأمور الترفيهية المطلوبة لدى عامة الناس، خاصة بعد مواسم الدراسة، وجهد العمل.
والسياحة -معاشر الإخوة- مصطلحٌ وموضوعٌ نجد الناس أمامه على طرفي نقيض، فمنهم الرافض رفضاً قاطعاً، مستدلاً بالسلبيات والأضرار الناتجة عنها؛ ومنهم المرحب، فرِحاً بالإيجابيات، وكُلٌّ مُحِقٌّ! ولكنْ: كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الأُمُورِ ذَمِيمُ.
ونحن، بوصفنا أمة إسلامية، لابد أن نتعامل مع المستجدات العصرية والأحدوثات الجديدة بروح الواقع والاحتواء، لا الرفض والانزواء، ولابد أن نسخِّر هذه المصطلحات والأمور فيما ينفعنا ويعود بالخير علينا ديناً ودنيا.
ولا ريب -عباد الله- أن الوسطية هي شعار الأمة الإسلامية، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة:143].
والسياحة لها مفاهيمُ عدة، وقوالبُ شتى، ومناظيرُ متعددة، غير أن للمسلمين، خاصة في بلاد الحرمين، منظوراً ومفهوماً في السياحة يختلف عن غيرهم، فلا يمكن أن نستورد مفاهيم غيرنا فيها، فهم يفهمونها على ليلاهم، ونحن نفهمها على قرآننا وسنة رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
وبلادنا هذه حباها الله -جل وعلا- بمميزات كثيرة قلما يوجد نظيرها، كاحتضانها للمقدسات الإسلامية والبقاع الطاهرة، فهي بلاد التوحيد بلاد الحرمين وقبلة المسلمين ومهوى أفئدة المسلمين جميعاً، وما تتمتع به من الإيمان والأمن والاستقرار، وحفظ الأعراض والأموال؛ لذا فلابد من مراعاة خصوصية هذا البلد الدينية قبل الخوض في شأن السياحة.
ولئن كانت السياحة عند القوم سفوراً وتعرياً ولهواً ومتعة جسدية، فهي في الإسلام عبادةٌ يؤجر المرء عليها، ولها في القرآن والسنة الثناء الجميل والذكر النبيل، فلقد وردت السياحةُ في كتابِ اللهِ وسنةِ رسوله -صلى الله عليه وسلم- تحملُ معانيَ ساميةً، وارتبطَ وصفُ السائحينَ بنماذجَ عاليةٍ من البشر، يقولُ -تعالى- في وصفِ الذين اشترى اللهُ منهُم أنفسَهم وأموالهم بأنَّ لهُم الجنة: (التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) [التوبة:122].
والسائحون هم: الصائمون في قول أكثر المفسرين، واستُدِلَّ لهُ بقولهِ تعالى في وصفِ نساءِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- (عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ) [التحريم:5]، وبما وردَ في الحديثِ عن عائشةَ -رضي الله عنها- مرفوعاً: "سِيَاحَةُ هَذهِ الأَمةُ الصِيَامُ"، وكذا فسرَ السياحةَ بالصيام؛ أَبو هريرةَ، وابن مسعودٍ، وابن عباسٍ، وعائشة، وغيرهم -رضي الله عنهم-.
وقال عطاء: السائحون: هُمُ الغزاةُ المُجاهِدُونَ في سبيلِ الله، وقيل السائحون: المُهاجِرون. وقيل: السفر في طلب العلم، قال عِكرِمةَ السائحونَ: هم طلبةُ العلمِ، وقيل: سياحة القلب في معرفة الله ومحبته.
قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-: والصحيح أن المراد بالسياحة السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك.
هذا هو مفهوم السياحة في الإسلام، سياحةٌ تُظهر دين الله، وتحميه، وتنصره، قال -صلى الله عليه والسلام-: "إن سياحة أمتي الجهادُ في سبيل الله" رواه أبو داود بإسناد صحيح.
سياحةٌ للنظر والتدبر والتأمل والتفكر في ملكوت الله، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت:20].
سياحةٌ لطلب الرزق وتأمين الأمة معيشياً، سياحةٌ لطلب العلم والفكر والخير والدعوة إلى الله تعالى. هذا مفهوم السياحة في الإسلام.
وقد دُنِّسَ هذا اللفظُ حيثُ أصبحَ مُصطلحاً مُعاصِراً تُشَمُّ منهُ رائحةَ التلوثِ العقدي، والفسادَ الأخلاقي، والتحللَ من الضوابطِ والقيمِ، فإلى اللهِ المُشتكي، وحسبُنا اللهُ ونعم الوكيل!.
والسياحة مفهومها الحالي يخالف مفهوم الإسلام طريقة وهدفاً، فلماذا كان أسلافنا يسافرون؟! كانوا يسافرون دعوة إلى الله وجهاداً، والآن أصبح السفر والسياحة عند البعض للجنس والشهوة والعبث واللهو!ِ.
لماذا سافر مصعب بن عمير -رضي الله عنه-؟ سافر داعيةً ومعلماً للقرآن؟! لا ولياً للكفر، ولا مهادناً ولا لاعباً ولا لاهياً.
لقد وطئ سلفنا الصالح بلاد أوربا وآسيا وغيرها لا جلوساً على الحانات، ولا ارتياداً للخمارات، ولا تصدراً لموائد القمار والمسارح، ولا جلوساً في مدرجات الكرة، ولا معانقة للباغيات والمومسات، كلا! بل وطئوها ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلم وجور الأديان إلى نور وعدل الإسلام.
إنه لمن المحزن المـُبْكِي أن أصبحت السياحة والسفر إلى بلاد الكفار موضع افتخار بعض المخدوعين من المسلمين، فهذا يفتخر أن ابتعث للدراسة هناك، أو أن له ولداً يدرس في الدول الغربية، وهذا يتبجح بقضائه الإجازة كُل عام متنقلاً بين شواطئ أوربا وسهولها، دون تفكير في النتائج أو تقدير للعواقب.
ثم إن هؤلاء إذا ذهبوا ذابت شخصياتهم مع الكفار؛ فلبسوا لباسهم، واقتدوا بآثارهم، حتى النساء المسلمات يخلعن ثياب الستر والعفاف ليلبسن لباس الكافرات والداعرات! فلماذا نعطي الدنية في ديننا؟! وكيف يستبدل المسلم الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وكيف يتنازل من علياء إيمانه إلى حضيض الشهوات، ومزبلة الكفر؟!.
إن من أعجب العجب أن الكفار إذا جاؤوا إلى بلادنا لا يغيرون أزياءَهم ولا يتحولون عنها! وبعض المسلمين على العكس من ذلك إذا ذهب إليهم تحول إلى عاداتهم، وجال في حاناتهم، وجاس في ملاهيهم ومسارحهم.
يا عجباً لهؤلاء الذين ركبوا دابة السفر وامتطوا ثبج السياحة! يفرون من ديارهم ديار التوحيد إلي ديار الكفر والطغيان، يهربون من ديار ملؤها الأمن والأمان إلى بلاد تتزايد فيها نسب الجرائم والقتل تزايد الثواني، يتولون عن سوح طاهرة مباركة يدوي فيها الآذان وتعج بالتكبير إلى ديار خواء تصلصل فيها أجراس الكنائس! كل ذلك في رحلات عابثة كلها إسراف وتبذير!.
وليت هؤلاء حين رحلوا، رحلوا دعوة إلى الله تعالى وتبليغ دينه، وليت هؤلاء يوم أن أنفقوا أنفقوا نصرةً للمستضعفين أو سداً لحاجة المعوزين أو إغاثةً للاجئين؛ ولكنهم -وللأسف- وأقولها بمرارة رحلوا وسافروا وساحوا للهوى والشيطان، إن أنفقوا فعلى لذة رخيصة، وشهوة وضيعة، وإن جلسوا وساحوا فعلى شواطئ وأندية العراة.
بل إن السائح المسلم يساوي عند الغرب وزنه ذهباً، فهو مثال للبذخ، يسكن في أرقي الفنادق، ويبذل المال في الحلال والحرام، ويتصدر موائد الخمر والقمار.
يا هؤلاء! لئن كان السفر جبلاً يعبق بالهواء العليل فذلك موجود في بلادنا المحافظة، ولئن كانت السياحة سهولاً وبحراً عباباً فذلك موجود في ديارنا المسلمة، ولئن كانت السياحة علوماً تجتنى، ومعارف تقتنى؛ فالعالم الإسلامي هو ابن بجدتها، وهو منبع العلوم وموئلها؛ فلماذا الإصرار على السياحة في ديار الكفر والتثليث والإلحاد والإباحية دونما حاجة أو مصلحة أو ضرورة؟.
ولقد قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أنا بريء من امرئٍ يقيم بين ظهراني المشركين " رواه أبو داود والنسائي؛ وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهدَ في سبيل الله، والداعيةَ إلى الله، والمسافرَ للعلاج أو لدراسة ما ينفع المسلمين أو للتجارة، كلُ ذلك مشروطٌ بأن يكون مُظهراً لدينه، قادراً على إقامة شعائره، قوي الإيمان، وللضرورة حينئذ أحكامها.
وأنت، يا مَن تَهْوَى السياحة والسفر والترحال لا تَنْسَ حينما تدعوك المصلحة للسفر إلى ديار الكفار أنك سفير فوق العادة، تمثل دينك وأخلاق مجتمعك، فأنت تحمل مسؤولية عظيمة وهي أمانة تمثيل الإسلام، فبعض الناس كان سبباً في إعراض ونكسة أقوام عن هذا الدين، شعر أم لم يشعر، فاحمل دينك بقوة، وأظهره بشجاعة، (يَا يَحْيَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم:12]، (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) [الزخرف:43].
عباد الله: إن طائفة ممن يسافرون، وللأسف الشديد! يشوهون صورة الإسلام بسوء فعالهم وتصرفاتهم، يشوهونه عند مَن لا يعرف حقيقته، ويصدون عنه من يتطلع إليه، ويريد الدخول فيه؛ ونتيجة لذلك خرج غير المسلمين والغربُ بوجه أخص خرجوا بصورة قاتمة عن الإسلام والمسلمين، وأن الإسلام قمارٌ وخمرٌ وغانيةٌ ولهو وإسراف وبربرية! لأنه ظن أن هؤلاء -وللأسف- يمثلون الإسلام وهم سفراؤه، فيا هؤلاء، كونوا خير السفراء.
وبماذا يرجع إلينا هؤلاء المسافرون والسائحون؟ هل يرجع الواحد منهم لوطنه بالعلم والمال وأسرار السلاح والتكنولوجيا، وبما ينفع الأمة في صراعها مع أعدائها؟ كلا! بل يرجع محملاً بالإيدز والأدواء التي لا دواء لها! يرجع مغسول العقل، ممسوخ الديانة، خائرَ القوى، وبجيوب فارغة! وبعضهم يرجع إلينا في التوابيت ميتاً!.
وإن من المنكرات العظيمة التي تحدث بدعوى السياحة زيارة النصب والأصنام والأوثان بدعوى أنها آثار تاريخية وإرث حضاري، وكذلك مشاهدة الألعاب السحرية كالسيرك وإتيان السحرة والكهنة والعرافين ومدعي علم الغيب من قارئي الكف والفنجان، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أتى عَرَّافاً فسأله فَصَدَّقَهُ بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " رواه مسلم.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" رواه أبو داود.
ومن المنكرات التي تحدث في الإجازة والصيف إهمال الأولاد والبنين والبنات، خاصة في السفر إلى المصايف وعند المنتزهات، وتبدو صور الإهمال بجلاء في عدم أمرهم بالصلاة، وسهرهم المفرط، وإهمال أمر الستر والحجاب، فتجد المرأة تلبس العباءة الفاتنة أو غير ساترة مما يجعلها فتنةً للناظرين، وكذلك عدم تجنيبهم مواطن الفتنة والبلاء؛ فيزج بهم في أماكن يحدث فيها التبرج والسفور والاختلاط.
وقد نشرت منظمةَ الصحةِ العالميةِ في عامِ (2001) أنَّ عددَ الإصاباتِ بمرضِ الإيدز في السعوديةِ ألف ومائةُ حالة، ووُجِدَ في عيادةٍ واحدةٍ خاصَّةٍ للأمراضِ التناسليةِ في السعوديةِ ما يُقارِبُ من مائةِ حالةٍ لمرضِ الهربس الجنسي، في سنةٍ ماضيةٍ، مُعظَمُها لشبابٍ سافروا في الإجازةِ إلى أوربا وأمريكا وجنوب شرقِ آسيا، وعادُوا منها بمرضِ الهِربس، كما صرحَ بذلكَ أحدُ الأطباءِ السُعوديين لمجلةِ اليمامة!.
وقد أثبتتِ الدراساتُ الاجتماعيةُ أنَّ معظمَ مُتعاطي المُخدراتِ في السعوديةِ قد وقعُوا في تجربتِهم الأولى، في رحلاتِهم السياحيةِ خارجَ السعودية!.
وإذا سألتم عن أبي، فأبي لهُ *** رسمٌ على بوابةِ السفـراتِ
أرخى زمامي ثُمَّ راحَ يلُومني *** ويُهينني بقوارعِ الكلمـاتِ
أنا يا أبي الغالي ضحيةُ ثروةٍ *** فَتحت لقلبي أسوأَ الصفحاتِ
أغرقْتَنِي فيها وما راقبتَني *** وتركتنِي كالصيدِ في الفلواتِ
كم كُنتُ أبحثُ عنكَ يا أبتي فما *** ألقاكَ إلاَّ تائهَ النظـراتِ
هلاَّ أبيتَ عليَّ أن أمشي إلى *** حتفي وأن أسعى إلى صبواتي؟
أرسلتَنِي للغربِ يا أبتي ولم *** تُشفِق على عقلِي من السَّكَراتِ
أنسِيتَ أنَّ الغربَ سرُّ شقائنا *** وإليهِ تُنسَبُ أبشعُ الآفـاتِ
يقولُ العلامةُ ابن باز -رحمهُ الله تعالى-: "السفَرُ إلى البلادِ التي فيها الكُفر والضلال والحرية، وانتشار الفسادِ من الزنا وشُربِ الخمرِ وأنواعِ الكُفرِ والضلالِ فيهِ خطرٌ عظيمٌ على الرجلِ والمرأة، وكم من صالحٍ سافرَ ورجعَ فاسداً، وكم من مُسلمٍ رجعَ كافراً، فخطرُ السفرِ عظيمٌ، والواجبُ الحذرُ من السفرِ لبلادِهم، لا في شهرِ العسلِ ولا في غيره". أهـ.
فيا أيها الآباء والأولياء: اللهَ اللهَ في رعاية الأبناء ومَن تحت أيديكم من النساء! قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
واعلموا أنهم أمانة عندكم سوف تسألون عنها، يقولُ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُكُم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتهِ، فالإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتهِ، والرجلُ راعٍ في أهلهِ ومسؤولٌ عن رعيتهِ، والمرأةُ في بيتِ زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها" رواهُ البخاري ومسلم.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرءِ إثماً أن يُضيِّعَ من يقوت!" رواهُ أبو داود، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاهُ الله، حفظَ أم ضيَّعَ حتى يُسألَ الرجلُ عن أهلِ بيتهِ" رواهُ ابن حبان، وحسنهُ الألباني، فأعد للسؤالِ جواباً، وللجوابِ صوابا.
ألا وإن من البلايا ما أحدث في بعض الأماكن والمصايف من أمور منكرة، كحفلات الأغاني الساهرة التي يجلب لها الفنانون والفنانات، وتعد لها المسارح الكبيرة؛ تلك الحفلات والمهرجانات والمناسبات التي عمودها الغناء وآلات المعازف، وخيتمها الغفلة عن ذكر الله -جل وعلا-.
والغناء -يا عباد الله- من المحرمات التي استهان بها كثير من الناس إلا من عصم الله، قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [لقمان:6-7].
قال أكثر المفسرين: المراد بلهو الحديث في هذه الآية الغناء، ويحلف الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بالله الذي لا إله إلا هو -ثلاث مرات- إنه الغناء، وكذا قالَ ابنُ عباس، وجابرُ، وعكرمةُ، وسعيد بنُ جبير، ومجاهدٌ، ومكحول، وغيرهم.
قال الإمام أحمد: الغناء ينبت النفاق في القلب فلا يعجبني، وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا، واستماع الأغاني والمعازف سبب لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة، قال ابن القيم: والذي شاهدناه نحن وغيرنا، وعرفناه بالتجارب، أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو، وبُلُوا بالقحط والجدب وولاة السوء. اهـ.
فتجنب -أخي المسلم- وجنب مَنْ تحت ولايتك مواقعَ اللهوِ والفسوقِ والعصيان، كالحفلاتِ الغنائيةِ، والتجمُعاتِ المختلطة، فإنَّ اللهَ يُمهِلُ ولا يُهمل، و"إنَّ اللهَ يَغَارُ، وغيرتَهُ أن تُنتَهكَ حُرمَتَهُ"، يقولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "في هذه الأمةِ خسفٌ ومسخٌ وقذف"، فقالَ رجلٌ من المُسلمين: يا رسولَ اللهِ، ومتى ذاك؟ قال: "إذا ظهرت القينات والمعازف، وشُربت الخُمور" رواهُ الترمذي وصححهُ الألباني، فلا تأمن من مكرِ اللهِ تعالى، ولا يأمن من مكرِ اللهِ إلاَّ القومُ الخاسرون.
وفي السُنةِ النبويةِ تأكيدٌ على حُرمةِ الغناء، ففي صحيحِ البخاري عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لَيكُوننَّ من أمتي قومٌ يستحلونَ الحِرَ والحريرِ والخمرِ والمعازف".
وما فتئَ علماءُ الأمةِ الربانيون يُحذِّرُونَ من فتنةِ وعبوديةِ الشهوات، يقولُ الشافعي -رحمه الله-: مَن لزمَ الشهواتِ لزمتهُ عبوديةُ أبناءِ الدنيا، ويقولُ ابنُ تيميةَ -رحمهُ الله-: والعشقُ والشهواتُ إنَّما يُبتلى به أهلُ الإعراضِ عن الإخلاصِ لله، الذين فِيهم نوعٌ من الشركِ، وإلاَّ فأهلُ الإخلاصِ كما قال تعالى في حقِّ يوسفَ- عليه السلام-: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ) [يوسف:24].
وأخيراً: أحذر أخي المسلم، أختي المسلمة أن نكونَ ممن قالَ اللهُ فيهم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، سمع الله لمن دعا، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وآله وصحبه وعلى مَنْ على منهاجهم اقتفى.
وبعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عباد الله: كلامنا عن السياحة والسفر والاصطياف لا يعني أن يكون المسلم نشازاً مع أهله لا يرفههم ولا يدخل السعادة على قلوبهم؛ فهناك مجال للترفيه والراحة والتنزه؛ ولكن بالسبل المباحة المأمونة التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع، هناك بدائل شرعية، وبدائل مباحة.
ومن هذه البدائل الذهاب للعمرة إلى بيت الله الحرام أو زيارة مسجد الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة في مسجدي أفضلُ من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجدَ الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضلُ من مائة ألف صلاة فيما سواه" رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني.
ومن البدائل المتاحة والمتيسرة -بحمد الله- السياحة النقية، والنزهة البريئة إلى ربوع البلاد الإسلامية المحافِظة التي تنعي أبناءها الذين هجروها.
وكذلك السفر في بر الوالدين، وصلة الأرحام، وزيارة العلماء والصالحين في الله تعالى، وإجابة دعوات الأفراح والمناسبات التي ليس فيها منكرات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن لم يُجِب الدعوة فقد عصى ابا القاسم".
وكذلك السفر لأجل الدعوة إلى الله تعالى، قال سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلَاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحَاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "فو الله! لِأنْ يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم".
ومن الأمور المعينة على استغلال الإجازة والفراغ- وهذا نوصي به الناس بعامة والشباب بخاصة- طلب العلم، وتحصيله والسفر، لأجله قال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" رواه مسلم.
ولقد كان السلف يرحلون في طلب العلم والمعرفة؛ فهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: لو أعلم مكاني أحداً أعلم مني بكتاب الله تناله المطايا لأتيته.
وقال البخاري في صحيحه: رحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد.
وقال الشعبي -رحمه الله-: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في سبيل كلمة تدله على هدى، أو ترده عن ردى، ما كان سفره ضائعاً.
وكذلك العناية بالقرآن الكريم، والاشتغال به، حفظاً وتلاوةً وتعلماً وتعليماً، قال -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
ويُحمد لهذه البلاد المباركة المعطاءة ما وفرته من محاضن تربوية، وبرامج نافعة للجيل والشباب المسلم من حِلَقٍ ومدارسَ لتحفيظ القران الكريم، وهاهي النوادي الصيفية تأتي لتحفظ فلذات الأكباد من الضياع، ولتملأ الفراغ، وتحرك الطاقات، وتستثمر القدرات.
اللهمَّ احفظنا بحفظك، واكلأنَا برعايتك، وحبب إلينا الإيمانَ، وزينهُ في قُلوبِنا، وكَرِّهْ إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهمَّ احفظ بلادَنا وبلادَ المُسلمِينَ من كلِّ سُوءٍ ومكرُوه، اللهم وآمِنَّا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واعصمنا من الفتن والشرور.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم