اقتباس
إن قلة الخبرة مما يفوت على الإنسان كثيرًا من الفرص، ويؤخر كثيرًا من النجاحات، ولذلك فينبغي للفرد أن يهتم بالخبرات السابقة له في أي مجال، فالاستفادة من الخبرات السابقة يعتبر من أهم مقومات العمل، حيث التعرف على أدوات العمل لدى المتقدم له يوفر عليه الكثير من الجهد والوقت، ويساعد في التطوير السريع، والنجاح المستمر، فالخبرات مترابطة متراكمة، فيحرص على الاستفادة ممن سبق ليسبق..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الله -عز وجل- خلق جميع خلقه أطوارًا، وصرفهم كيف ما شاء عزة واقتدارًا، ثم أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ومن كمال خلقه لعباده أن جعل لهم عقولاً يعون به، وآذانًا يسمعون بها، وأبصارًا ينظرون منها، ثم خلق لهم قدرة وإرادة يتصرفون بها، ومع هذا فإن قدرتهم وإرادتهم لا تخرج عن قدرة وإرادة الحي القيوم.
عندما يدرك العبد نعمة الله عليه من إحسانه له في تصويره، وإتمامه له في عقله، وتقويمه له في ذاته، وخلقه في أحسن تقويم، فإنه يصلُ إلى أن هذه النِّعم لابد من حمد الله وشكره عليها، ومن شكر الله عليها صرفها فيما يرضى الله عز وجل من الأقوال والأفعال والمقاصد.
عندما كنت أتأمل في واقع الأمة عمومًا، وفي واقعنا خصوصًا كنت أقول لماذا هذا الضعف الواضح في جميع مشاريع الأمة سواءً السياسية، أو العلمية، أو الدعوية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية؟! فتوصلت إلى أن الأمة لا ينقصها أعدادًا بشرية، ولا موارد مالية، ولا مساحات أرضية، ولا عقول فكرية، ولا إمكانات تكنولوجية، إنما ينقصها: استثمار الطاقات، والمحافظة عليها.
إنك عندما تنظر في أحوال الأمة في هذه الأيام لتدرك بعين البصر والبصيرة أنَّ الأمة تعيش أزمة طاقات مهدرة، وجهود مبعثرة، وفوضوية عارمة، سواءً على مستوى السياسات العليا، أو الشعوب، أو الأفراد.
إن الحديث عن طاقات الأمة، وعما تمتلكه من إمكانات لهو غاية في الأهمية.
كيف لا؟! ونحن أمة العلم والعمل، والفقه والنضج، والتقدم والرقي، والبروز والحضارة.
أمتنا هي أمة متبوعة لا تابعة، متقدمة لا متخلفة، سبَّاقة للمعالي، أمتنا ليس مَوْضِعُهَا السَّاقَة، إنما موضعها المُقَدِمة؛ لكن لما حلَّ بالأمة الضعف العام، والتخلي عن بعض ثوابتها، وتمكين السفهاء من زمام الأمور حصل التسلط والعبث ببعض الثوابت مما كان له الأثر السيئ في تخلف الأمة، وكثرة تعثرها، وقلة نجاحها.
إن هذا الموضوع حقيقة الأصل فيه أن يُناقش في مراكز الدراسات والبحوث، والمجامع العلمية، والمنتديات الثقافية، وغيرها ممن يستشعر مثل هذا الأمر المهم، والخطير أيضًا.
ولعل ما في هذه الرسالة يكون إشارة لطيفة لهذا الأمر المهم الخطير، لِيَلْتَفِتَ إليه أهل التخصص والخبرة، وأهل المعرفة والنظر، ليولوه أهمية قصوى، ويسعوا في بناء ما تم بناؤه، وعلاج ما ينبغي علاجه.
وفي هذا العرض القصير سأسلط الضوء على الطاقات المهدرة لدى الأفراد، من حيث أسبابها ومسبباتها، وأشارك بعد ذلك في علاجها بإشارات لطيفة وذلك ضمن طرح الأسباب، فأقول مستعينا بالله تعالى، مستمدًا العون منه عز وجل:
أسباب هدر الطاقات يعود إلى ما يلي:
1. ضعف التربية:
إن ضعف التربية التي يتلقها الفرد هو من أعظم الأسباب التي تؤثر سلبًا عليه، فينتج عنها سلبيات كثيرة من أهمها الهدر الواضح لطاقته التي ينبغي أن تستثمر فيما يعود عليه بالنفع؛ لذلك يجب علينا أن نراجع مناهجنا التربوية، وأساليبنا في تربية الأفراد وتوجيههم التوجيه السليم.
ضعف التربية يخلق لك جيلاً متأرجحًا بين الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، مما يكون له الأثر السلبي، فلا يعرف معنى الوسطية الحقة التي أمر الله بها، وكان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ولعل من البرامج الناضجة الناجحة التي ساهمت وبشكل جيد لحل مثل هذه الأزمة العميقة ما تبنته مؤسسة المربي مشكورةً في إصدارها لكتاب: (نماء) الذي يهتم بتربية النشء من الولادة إلى ما بعد الجامعة، والاهتمام بجميع النواحي التربوية، والعلمية، والنفسية، والسلوكية لمعالجة هذا الضعف التربوي، فيقدم منهجًا مدروسًا لبناء الشخصية المسلمة الناضجة المتكاملة.
2. البيئة الضعيفة:
إن البيئة الضعيفة الهشة لا تخرج إلا مخرجات ضعيفة هشة، لا تنفع نفسها، ولا تنفع مجتمعها، ولذلك الاهتمام بالبيئات الناضجة، والناجحة هي من الأسباب المهمة لحفظ الطاقات وتوجيهها التوجيه السليم، لذلك على الفرد أن ينظر إلى البيئة العلمية، والبيئة العاملة فيجالس أهلها، ويخالط أفرادها لكي يرتقي بذاته، وينجح في توظيف طاقاته.
3. سوء القصد:
سوء القصد من أعظم الأسباب المذهبة لبركة العمر، والمهدرة لجهد العبد، بل حياته كلها تضيع هدرا، ولذلك كان السلف يحرصون أشد الحرص على نياتهم، وخلوص أعمالهم لله تعالى، فآتت جهودهم ثمارها، وبلغ سعيهم تمام بنيانه، وحسن في الناس ذكرهم، وكثرت بركة علمهم؛ ولذلك من حسنت نيته بلغ مقصده، ومن ساءت نيته حُرِمَ الوصول ولو وصل، ورد عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال: "رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره تأخر" (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف[13/498]، والبيهقي في شعب الإيمان[9/411])، فتأمل جيدًا في هذا الفقه العميق من هذا الإمام المسدد.
4. ضعف التوجيه:
أحيانًا يكون عند الفرد طاقة، ويملك قدرة على التحرك والتفكير لكنه يُبتلى بموجه ضعيف، لا يملك الأهلية في توجيه ذاته أصلاً، ثم يتسلط على من تحت يده بالتوجيه، فيؤثر ذلك سلبًا على الفرد مما يُفقده بعد ذلك النجاح المرجو منه، أو يكون له إنتاجية لكنها ضعيفة ليست على ما وهبه الله عز وجل من النعم؛ وبناءً عليه فإن على الفرد أن يدرس صفات الموجه الناضج، ثم يقيسه على تلك الصفات، ومن خلال التأمل يظهر له جليًا هل هذا الموجه مناسبًا، أو يحتاج إلى توجيه غيره، ومناصحة سواه.
5. قلة الخبرة:
إن قلة الخبرة مما يفوت على الإنسان كثيرًا من الفرص، ويؤخر كثيرًا من النجاحات، ولذلك فينبغي للفرد أن يهتم بالخبرات السابقة له في أي مجال، فالاستفادة من الخبرات السابقة يعتبر من أهم مقومات العمل، حيث التعرف على أدوات العمل لدى المتقدم له يوفر عليه الكثير من الجهد والوقت، ويساعد في التطوير السريع، والنجاح المستمر، فالخبرات مترابطة متراكمة، فيحرص على الاستفادة ممن سبق ليسبق.
6. جلد الذات، واحتقار النفس:
إن جلد الذات، واحتقار الإنسان لنفسه منهي عنه شرعًا، كما أن الغرور والعجب منهي عنه أيضًا، وليس هذا موطن تحرير هذه المسألة لكن نريد أن نقرر أن كثيرًا من الطاقات أهدرت بسبب جلد الفرد لذاته، واحتقاره لنفسه، فكم نسمع من عبارات فيها سب ونقد لاذع من بعض الأشخاص لذواتهم، وقد ينكرون فضل الله عليهم، ونعمه الوافرة لديهم.
نحن يجب أن نفرق بين جلد الذات، وبين نقد وتقويم الذات، فالأول: مذموم، والثاني: محمود، وهو الذي نريد.
وهنا أريد أن أقرر حقيقة وهي: أنه لا يوجد إنسان خلقه الله لا يُحسن شيئًا، بل كل إنسان على هذه البسيطة قد خلقه الله في أحسن تقويم، وهيئ له من الأسباب ما يجعله يحسن شيئًا من الأشياء، لكن بعض الناس قد يجحد نعمة الله عليه سواءً بجهله، أو بعدم رضاه بما قضاه الله وقدره.
ومما يجعل الفرد يحتقر ذاته أنه قد يرى غيره ممن أنعم الله عليهم بنعم أكثر منه، ويسر لهم أسبابًا لم تتيسر له فيحمله الخور والعجز، والضعف والجبن على الاعتراض على قضاء الله وقدره، فينعكس ذلك عليه سلبًا مما يؤدي به إلى ترك العمل بالكلية، ولذلك لما يتأمل المسلم قوله تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل:4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» (أخرجه البخاري[4666]، ومسلم[2647]) عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، يوقن أنه يجب عليه أن يعمل، وأن يستغل ما أنعم الله به عليه من النعم ليشكر الله عليها.
ولذلك جاء في دعاء القنوت الذي علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- للحسن بن علي -رضي الله عنهما-: « وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَ» (أخرجه أحمد [1/199]، وابن نصر في قيام الليل [ص:134]، وابن الجارود في المنتقى[ص:142]، والبيهقي في السنن[2/210]، والطبراني في الكبير[1/130])؛ فكل إنسان أعطاه الله عطاءً فعليه أن يدعو الله عز وجل أن يبارك له فيه، فليست العبرة بالكثرة، إنما العبرة بالبركة، فكم من مُقل بارك الله فيه وله، وكم من مكثر لا بركة فيه ولا له، وذلك فضل الله.
وهنا أنقل كلمة نفيسة للإمام مالك بن أنس -رضي الله عنه- إمام دار الهجرة وهو يرد على عبدالله بن عبدالعزيز العُمَرِي العابد حينما كتب إليه يحضه على الانفراد، فرد عليه بإجابة عالم عامل فقيه فقال له:
"اعلم أن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر" (سير أعلام النبلاء[8/114]).
7. الاعتماد على الذات:
وهذا عكس ما سبق فإن الغرور بالقدرات، والاعتماد على الذات، وترك الاعتماد على المنع عز وجل هو أول طريق الهلاك، وهدر الطاقات، وصدق من قال:
إِذَا لَم يَكُن عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى *** فَـأَوَلُ مَا يَجْنِي عَلِيْهِ اجْتِهَادُهُ
ولذلك فمتى اعتمد الفرد على ذاته، خانته ذاته وهو في أحوج الأوقات إليها، ومن اعتمد على الله يسر الله أمره وأعانه في أحرج الأوقات.
فينبغي على كل فرد مسلم أن يكثر من دعاء الله التوفيق والتسديد، والعون والتأييد، فإن الله تعالى إذا رأى من عبده التذلل له، والاعتراف بالعجز والتقصير، والرغبة فيما عنده أعطاه فوق سؤاله، وبَلَّغَه غَايَة مُنَاه.
إن تلك الأعمال والبرامج والمشاريع التي يقوم به الأفراد ما هي إلا فتح من الله تعالى لهم، فمتى ظن العبد أنها من جهده وتخطيطه أمسك الله عنه نعمه، وحرمه البركة والتوفيق، ولذلك يقول الله تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2].
8. التخطيط السيء:
إن التخطيط السيئ هو التخطيط الذي يقوم على عدم وجود رؤية واضحة، ولا أهداف محددة، فيكون مخبطاً متخبطاً، بين المناهج والأعمال، فيضيع عمره، وتذهب طاقته هدراً.
إن الرؤية هي: أول شيء يجب على الفرد تحديده، أي ماذا أريد في النهاية؟ وما هي الغاية التي أريد أن أصل إليها؟
فالرؤية تجعل الفرد يرى غايته، ثم يصيغُ بعد ذلك أهدافه للوصول إلى غايته.
إن ضعف الرؤية الواضحة، أو عدمها لهو سبب رئيس لحرمان العامل من بلوغ ما يريد، ولذلك ينبغي أن يركز كثيرًا على الرؤية الواضحة، فإذا حدد رؤيته فإنه بعد ذلك يحدد أهدافه التي ستوصله إلى غايته التي حددها في رؤيته، فيكون بذلك منتجًا إيجابيًا في حياته.
9. التخذيل المقيت، والتحطيم المذموم:
كم أُهدرت كثير من الطاقات؟ وكم صُدَّ كثير عن كثيرٍ من البرامج الفاعلة بسبب ممارسة بعضهم لهذا الأسلوب الرديء وهو أسلوب تحطيم الغير، والنقد المحطم المذموم.
يقول لي أحدهم ممن فتح الله له علمًا من العلوم: "عندما وفقني الله لهذا العلم وأخذت أفتي الناس بهذا العلم، كان بعضهم وهو من يكبرني سنًا يقول: "فلان أصبح من أهل هذا العلم؟! الأفضل له أن يستريح ويريح"، فهو لا يصلح لشيء".
هنا يقول صاحبي: "فوقعت في نفسي موقعًا عظيمًا، لكن من رحمة الله عز وجل أني لم ألتفت لهذا التحطيم المباشر، وهذا النقد المثبط، فاستعنت بالله وواصلت فيما بدأت به، وكان كلامه ذلك دافعًا لي للثبات والازدياد من هذا العلم، حتى وفقني الله لبلوغ ما بلغت فيه، وبعد مدة يسيرة إذ بصاحبي الذي ينال من قدراتي، ويقول أني لا أصلح لشيء، يتصل عليَّ، ويريد أن يستفيد مما أعطاني الله من هذا العلم، فأجبته، ثم قلت في نفسي: يا سبحان الله! لو أنني سمعت كلامه وانجرفت وراء قوله لفات عليَّ خير كثير"، فهذه الصورة صورة لكثير من الناس المخذلين.
إن بعض الناس لا يجيد إلا فن التحطيم، والاستخفاف بالآخرين، وهنا يجب على المسلم أن لا يسخر من أحد بقول، أو فعل، أو غمز، أو لمز، ويقف دائمًا عند قول الحق تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11].
أخي المبارك: لتعلم أن التخذيل من أعظم صفات المنافقين، فهم يخذلون ويحطمون أهل الإسلام، فهم أكثر الناس شكاية، وأكثرهم خورًا وتخذيلاً لغيرهم، ولذلك هم أفشل الناس، وأكذب الناس، ويريدون من جميع الناس أن يكونوا مثلهم.
وهنا أوجه رسالة لكل فرد: إذا سمعت مثل هذه العبارات المحطمة، ولاحظت التحطيم المقيت فلا تلتفت لمثل هذه الأقاويل المثبطة، وهذه الأساليب المحطمة، بل عليك أن تمشي واثق الخُطى، مستعيناً بالله تعالى، متوكلاً عليه، فإنك ستصل إلى غايتك، وستبلغ مُناك، فبشيء من الصبر واليقين، والبذل والتضحية، يُدرك المرء مراده، ويُحقق مبتغاه.
وهنا تذكر عبارتين واجعلهما أمام عينيك:
الأولى: رضا الناس غاية لا تدرك فلا تحرص عليه؛ والثانية: من راقب الناس مات همًا فراقب الله تعالى.
10. استعجال النتائج:
إن مما يهدر كثير من الطاقات، ويفسد كثيرًا من البرامج، ويعطل كثيرًا من الأعمال هو: استعجال النتائج.
إن إستعجال النتائج، والسرعة في تحقيق المراد لا يكون ولا يقع في الغالب على أتم وجه؛ بل الذي يتأمل في سنة الله في الكون والأشياء يدرك أنها تمضي بسنن، ومراحل متدرجة حتى يتم المر.
فتأمل في خلق الإنسان ومراحل نموه، وقبله الكون ومراحل خلق الله له عندها تدرك هذه الحقيقة، ويستقر في قلبك أنه لا بد من التدرج، وعدم الاستعجال في النتائج.
إن الشارع الحكيم لا ينظر فقط إلى ما يمكن أن يعمله الإنسان الآن؛ وإنما ما يستقيم عليه ويعمله باستمرار.
وحين ننظر في جوانب التشريع والطلب: نرى التوازن بين العمل الحاضر والاستمرارية عليه، ويدل لذلك ما جاء من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وعندها امرأة فقال: «مَنْ هَذِهِ؟» قَالَت: "فُلاَنَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا". قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَهْ، علَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا»، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. (أخرجه البخاري [43]).
فنجد هذا الحديث وغيره أنه حتى في أمور العبادة لابد من الاقتصاد في فعلها؛ وعدم الاستعجال، حتى لا يكون الانقطاع، وترك الاستمرارية.
فعلى الفرد عدم استعجال النتائج وإن طال الزمن، وعليه بالمثابرة على العمل والاستعانة على وعثاء الطريق بطول المصابرة، وحسن التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصدق الاعتماد على الله عز وجل فإنه طريق النجاح والفلاح، يقول الله عز وجل: ( إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90].
إن السير بخطى ثابتة، ونظرة ثاقبة يحقق المراد، ولولم يكن ذلك على يديك، وتحت ناظريك فقد يهيئ الله له من يتمه، ويكون لك أجره.
11. الفوضوية في الوقت:
إن الذي لا يرتب وقته حسب الأولويات فإنه سيضيع بين كثرة المشاغل، وبين تداخل المواعيد، ولن ينجز شيئًا.
الفوضوية في الوقت تتسبب في تراكم الأعمال، والواجبات، والمهمات دون القدرة على إنجازها في الزمن المفترض، وهذا يشكل عبئًا نفسيًا يؤدي إلى تأثر نشاط الفرد، ويحمله بعد ذلك على ترك العمل، ولذلك ترتيب الوقت وتنظيمه حسب الأولويات الهامة، ثم المهمة ثم ما بعدها، وإعطاء كل ذي حق حقه مما يساعد على الإنتاجية، ونجاح العمل.
فترتيب الوقت، والعناية بتنظيمه مما يُعين على استثمار الطاقات، والاستفادة منها.
12. عدم الإفادة من الأخطاء السابقة:
إن كثيرًا من المواقف التي تُهدر فيها الطاقات هي أخطاء متكررة، ولو تأمل العامل في أخطاء من سبقه، أو في أخطائه هو، لأدرك أن عدم انتفاعه من أخطائه مدعاة لتكرر الخطأ، وهدر الطاقة، وضياع الوقت، فعلى الفرد أن يفيد من أخطائه، وأخطاء غيره، وأن لا يكررها ، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: « لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» (أخرجه البخاري[5782]، ومسلم[2998]) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
إن الإفادة من الأخطاء السابقة، والخبرات المتراكمة مما له الأثر في حفظ الطاقات واستثمارها.
13. العجز والكسل:
كثير من الناس قد تتوفر لهم جميع الوسائل المعينة لأن يستثمروا طاقاتهم، ويحققوا رغباتهم، لكن يحجزهم عن استثمار طاقاتهم وقدراتهم: العجز والكسل؛ ولذلك استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- لخطورته فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ» (أخرجه البخاري [2668]، ومسلم[2706]) عن أنس -رضي الله عنه-.
إن العجز والكسل هما من صَدَّا كثير من الناس عن معالي الأمور، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "من نام على فراش الكسل، أصبح ملقى بوادي الأسف" (بدائع الفوائد [2/234]).
فنفض غبار العجز والكسل لا يكون إلا بالاعتماد على الله أولاً، ثم بالهمة العالية التي تدفع إلى معالي الأمور، واستثمار الطاقات.
14. ضعف الهم والهمة:
إن ضعف الهمة، ودنوها وسُفْلِهَا يفوت على الفرد مصالح عليا، فَتُهْدَرُ طاقته، وتَفْسُد عليه حياته، ولذلك يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته"(محاضرات الأدباء للأصفهاني[ص:108])، ويقول المتنبي:
وَلَمْ أَرَ فِيْ عِيُوْبِ النَّاسِ عَيْبَا *** كَنَقْصِ الْقَادِرِيْنَ عَلى الْتَّمَام
إن النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة ترضى من الأشياء بالدنيء، فتكون كالذباب الذي لا يقع إلا على القذر.
15. عدم انتهاز الفرص:
إن ترك الفرص تفوت، والتثاقل في انتهازها يؤخر الفرد تأخيرًا عظيمًا، بل قد يحرمه من خير عظيم، ويكون سببًا لهدر طاقته، وذهاب عمره، وإن عدم انتهاز الفرص يعود لأمرين:
الأول: عدم التصور الواضح لما يريد الفرد أن يقوم به ويعمله، فلذلك تمر عليه الفرصة فلا ينتبه لها، ولا يشعر بأنها فرصة ثمينة إلا بعد ذهابها.
الثاني: الكسل، وكم ضيع الكسل على كثير من الأفراد الفرص الثمينة، فيحمله كسله على ترك العمل، وعدم الاستفادة مما يُعرض له، ولذلك يقول ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "إياك والتسويف فإنه أكبر جنود إبليس" (صيد الخاطر[ص:193]).
وهنا أذكر مثالاً فيه انتهاز للفرص، فكانت نتيجة ذلك التصرف هو: فوزٌ هذا المستفيد من هذه الفرصة فوزًا عظيمًا، إن الفرصة كانت من النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمنتهز لها هو ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه-، يقول ربيعة -رضي الله عنه-: "كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: « سَلْ»؛ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟». قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ »" (أخرجه البخاري[4418]، ومسلم[489])؛ فهذا كعب -رضي الله عنه- استغل واستثمر هذه الفرصة فكانت ثمرة استثمار هذه الفرصة: الفوز بالجنة، وليس الجنة فقط بل مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها.
وبعد هذا العرض: فإني أعلم أن هذا الموضوع مهم للغاية كما أسلفت في أوله، وإن ذكر الأسباب والعلاج كان على عجل، وإلا كل واحد من هذه الأسباب يحتاج إلى طرح مستقل وبحث مطول، لكن كان المقصود الإشارة لا الإطالة، والتنبيه لا الإسهاب، ويكفي من القلادة ما أحاط العنق، واللبيب بالإشارة يفهم.
وختامًا: ما أجمل أن نقف مع هذه الآية وقفة تدبر وتأمل، وعظة وتفكر، بل أرجو أن يكون انطلاق أهل الطاقات من خلالها، يقول الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً . وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً . وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) [النساء:66-69].
أسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يعيننا على مرضاته، وأن يعلق قلوبنا به، وأن لا يَكِلَنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك إن ربي سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم