عناصر الخطبة
1/تكفل الله ببقاء الإسلام ونصرة الشريعة 2/إساءات الكفار للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليست وليدة العصر بل هي قديمة منذ فجر الرسالة 3/حفظ الله -تعالى- لنبيه -عليه الصلاة والسلام- وعصمته ونصرته ورعايته ورفع قدره 4/معاتبة الله للمتخلفين عن نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-اقتباس
مع تَكرار أنواع الأذية للنبي -صلى الله عليه وسلم- تتوالى التطمينات الربانية، والضمانات الإلهية بأساليب متنوعة، فيها الإعزاز والتكريم، والتثبيت له عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك: آية كريمة لا نظير لها في التوراة ولا في الإنجيل، هذه الآية ضمان مطلق لم يُعهد لأي أحد من...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نَحمَده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: إنَّ حبَّ نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- فرضٌ لازم، وينبغي للمؤمن أن يستحضر فرضية هذا الحب، وأن يترجمه واقعًا عمليًّا، وإنَّ من مقتضيات حب هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: أن يفرح المؤمن بما منَح ربُّنا -جل وعلا- نبيَّه محمدًا -عليه الصلاة والسلام- من الفضائل والمكارم، وعلو المكانة، وإعزازه عليه الصلاة والسلام من لدن ربه -جل وعلا- في الدنيا والآخرة.
وإنَّ من نعم الله -جل وعلا- العظيمة وعطاياه الجزيلة: أنَّه سبحانه تكفَّل ببقاء هذا الدين الإسلامي، وضمن نُصرة الشريعة المحمدية إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها؛ قال الله -جل شأنه-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة: 33].
وهذه البشارة الربانية وما جاء في معناها مما تطمئن به قلوب المؤمنين، وتنكسر به شوكة المعرضين والمعاندين، وتزيد المؤمن إيمانًا، وتعين أهل الإيمان على مواجهة مَن جحَد وأعرَض، ولا يَخفى أنَّه قد تتابع المبطلون على محاربة الإسلام وأهله، وتواطؤوا على محاولة الإساءة لخاتم الرسل وأفضلهم محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، من خلال ما يَفترونه من الأباطيل، وما يسعون من خلاله لتشويه سيرته العَطِرة وهدْيه الكريم.
إنَّ تلك الإساءات والافتراءات التي تَنضح بها المقالات والكتب، والأفلام والصور التي يصنعها المبطلون لم تخرج عن طريقة أصحاب المناهج الشريرة الذين حاربوا الأنبياء والمصلحين، وهذا ما أخبرنا الله به عنهم في كتابه العزيز، فقال سبحانه: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ)[آل عمران: 184]، ويقول سبحانه: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)[الأنعام: 33-34].
وقد تكرَّر في الكتاب العزيز تأكيدُ حفظ الله -جل وعلا- لنبيه محمد -عليه الصلاة والسلام- حفظًا تامًّا كاملًا، حيًّا وميتًا كما يشاء سبحانه، كما توالت البشائر الصادقة للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- بحُسن العاقبة في الدنيا والآخرة، كما هو واضح في آيات كريمات من هذا الكتاب العزيز، وكما جاء في سورٍ بأكملها كما في سورتي "الضحى"، و "ألم نشرح" من وعود كريمة وعطايا جزيلة من ربٍّ كريم لنبيه محمد -عليه الصلاة والسلام-.
وفي سياق الحفظ والسلامة، قال الله -جل وعلا-: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[المائدة: 67] أي: حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك، ومُظفرك بهم، فلا تَخَفْ ولا تحزن؛ فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يُؤذيك، والمراد بالعصمة هنا (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[المائدة: 67]، عصمة نفسه صلى الله عليه وسلم، وعصمة جسمه -عليه الصلاة والسلام- من القتل أو الإهلاك، وعصمة دعوته من أن يَحول دونها ودون نجاحها حائلٌ أو مُبطل.
وهذا لا ينافي ما تعرَّض له -عليه الصلاة والسلام- من بأساء وضرَّاء وأذًى بدني، فقد رماه المشركون بالحجارة حتى سالت دماؤه وشُجَّ وجهه الكريم، وكُسِرت رباعيته في غزوة أحد، ولكن كانت العاقبة له عليه الصلاة والسلام: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة: 33].
(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[المائدة: 67]؛ المراد بالناس هنا المشركون والمنافقون واليهود، ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال والعناد؛ إذ ليس في المؤمنين الصادقين إلا كل محب لله ولرسوله -عليه الصلاة والسلام-، ولذلك إذا وُجِد في صفوف أهل الإسلام ممن ينتمي إليهم مَن في قلبه شيءٌ من استنكار لهدي رسول الله، أو تقليلٍ له أو عدم حفاوة به، فإن هذا في جملة مَن عندهم أو في قلوبهم شُعبة مِن شُعب النفاق، ولن يضروا الله شيئًا، ولن يضروا رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فهم أحقر من ذلك، وأقل من أن يصلوا إلى هذه الحال، ولكنهم يؤذون أنفسهم، ويضلون أنفسهم، ويضرون أنفسهم، ولا يضرون الله شيئًا.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[المائدة: 67]، معجزةً كبرى للرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث عصم الله -تعالى- حياة رسوله عن أن يصيبها قتل أو إهلاك على أيدي الناس، مهما دبروا له من مكر وكيد، وغير ذلك، وقد قال الله -جل وعلا- مخبرًا عنهم أنهم أرادوا: (لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)[الأنفال: 30]؛ فإن ذلك كله قد عاد عليهم بنقيض ما أرادوا من البغي والعدوان والضلال.
ومما جاء من الضمانات الربانية والوعود الإلهية في حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وتأييده ونصره: قول الله -جل وعلا-: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 137]، وقوله جل وعلا: (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ)[الأنفال: 62]، وقوله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ)[الأنفال: 64]، وقوله سبحانه: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر: 95]، إلى غيرها من الآيات الكريمة.
فتأملوا -يا إخوة الإيمان-: هذه الوعود من الله الخالق الرزاق المدبر، مَن بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، والله يقول: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ)[البقرة: 137]، (حَسْبُكَ اللَّهُ)، (كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)؛ فأيُّ خوفٍ بعد ذلك يتسرَّب إلى قلب هذا النبي الكريم، وإلى قلب كل أتباعه الذي آمنوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا؟!
وفي قول ربنا -جل وعلا- في سورة الحجر: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر: 95]؛ إيماءٌ إلى أنَّ الله كفاه استهزاءهم، وهو أقل أنواع الأذى، فكفايته ما هو أشد من الاستهزاء من الأذى مفهومٌ بطريق أَوْلَى، وهنا في قوله: (الْمُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر: 95]، جاءت بالتعريف لتفيد العمومَ والاستغراق، فهي شاملة لكل مستهزئ، فقد كُفِي نبيُّنا -عليه الصلاة والسلام- شرَّه.
وفي التعبير أيضًا عنهم بهذا الوصف إيماءٌ إلى أن قصارى جهدهم ما يؤذونه به من الاستهزاء، وقد صرَفهم الله عن أن يؤذوا نبيَّه بغير الاستهزاء، وذلك مِن لطف الله برسوله -عليه الصلاة والسلام-، وهؤلاء المستهزئون وصفوا في هذه الآية بقوله سبحانه: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)[الحجر: 96]، وهذا لبيان ضِعَتِهم وفشلهم وإغراقهم في السوء، ولأجل تسلية النبي -صلى الله عليه وسلم- والتخفيف عنه؛ بأن هؤلاء لم يَقتصروا على الافتراء عليك يا رسولنا، فقد افتروا علينا، افتروا على الله -جل شأنه-، فأشركوا به -تعالى وتقدَّس-.
ومما جاء من تأييد الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام- ونصره له قوله سبحانه: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[الكوثر: 3]، ففي هذه الآية الكريمة تسليةٌ وتأييدٌ وضمانٌ ربانيٌّ للنبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- منذ بعَثَه الله، وإلى أن يرثَ الله الأرض ومَن عليها، بأن يحمي جنابه الشريف، ويدافع عن شخصه الجليل، وأن ينزل العقوبة الماحقة بمن تعرَّض له عليه الصلاة والسلام بالبغي والعدوان؛ حيث أخبر سبحانه أن مُبغض رسوله محمد -عليه الصلاة والسلام-، ومُبغض ما جاء به من الحق والهدى، هو الأقل والأذل، فكل مَن شنَأَه أو أبغَضه -عليه الصلاة والسلام- وعاداه، فإنَّ الله يقطع دابره ويَمحق عينه وأثرَه؛ قال العلامة الرازي -رحمه الله-: الشنآن هو البغض، والشانئ هو المبغض، وأما البتر في اللغة فهو استئصال القطع.
ومن تمام إنعام الله -تعالى- على نبيه -عليه الصلاة والسلام-: أنَّه لَمَّا بشَّره بالنعم العظيمة، وعلِم سبحانه أنَّ النعمة لا تَهنأ إلا إذا صار العدو مقهورًا مُبعدًا، وعدَّه الله بقهر عدوِّه، فقال سبحانه: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[الكوثر: 3]، وفي الآية إيماءٌ أيضًا إلى أنَّ الله -سبحانه جعل- لنبيه محمدٍ -عليه الصلاة والسلام- كمالًا ذاتيًّا، لا يحتاج معه إلى ولدٍ ولا مالٍ ولا عشيرة، ولا إلى أحدٍ من الناس في نُصرته وحمايته والدفاع عنه.
أيها الناس: إنَّ الله لم يُحوج نبيه محمدًا -عليه الصلاة والسلام- لأحد من الناس، فالله كفاه، والله أغناه، والله حفظه، والله نصره، ولن يحتاج لأحد من أهل الأرض ولا من أهل السماء، فالله هو الذي أعانه، وهو الذي أيَّده، وهو الذي نصره، وهو الذي حفظه سبحانه وتعالى، وأما مَن يلتحق برَكْبِ نبيه -عليه الصلاة والسلام- بأن يتبعه وأن ينصره، وأن يدافع عن جنابه الشريف، فهذا شرف لمن فعل ذلك، يتشرفون بنصرته، ويرتقون في معارج الفلاح باتباعه والإيمان به، وقد قال سبحانه مؤكدًا غِنَى نبيِّه -عليه الصلاة والسلام- عن كل أحدٍ بقوله جل وعلا: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)[التوبة: 40].
ويقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في دلالة قوله سبحانه: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[الكوثر: 3]، توهَّم المبطلون لجهلهم أنه -عليه الصلاة والسلام- إذا مات بنوه ينقطع ذكره، وحاشا وكلَّا، بل قد أبقى الله ذكره على رؤوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رقاب العباد، مستمرًّا على دوام الآباد، إلى يوم الحشر والمعاد، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم التناد.
وفي هذا السياق أيضًا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإنَّ الله -تعالى- بتر شانئ رسوله -عليه الصلاة والسلام- من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله، فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته، فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالِحًا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته ومحبته والإيمان برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعته، ويبتره من الأنصار، فلا يجد له ناصرًا ولا عونًا، ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعمًا، ولا يجد لها حلاوة، وإن باشرها بظاهره، فقلبه شاردٌ عنها" انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا -أيها الإخوة في الله- ما يُفسر ما يجده بعضُ الناس من أهل الإسلام أنهم لا يتلذذون بالطاعات، ويجدون أنواعًا من القلق الذي يصيبهم في حياتهم، ومرد ذلك ما قد يوجد في قلوب بعضهم من الاستنكاف والإعراض عن عبادة الله، أو نقدهم واستقلالهم للشرائع الإسلامية، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فإنه لا طمأنينة في الحياة ولا راحة نفسية، إلا بالاستقامة على طاعة الله وحب شرعه، فإذا وُجِد في القلب استنكافٌ وبُغضٌ لشيء من شرائع الدين، أورَث ذلك هذا الإنسان نوعًا من القلق النفسي الذي لن تفلح فيه عقاقير الدنيا في حله وعلاجه، والتخفيف من آثاره؛ لأن الطمأنينة مصدرها من عند خالقها، خالق هذه النفس، فإذا لم تهنأ النفس، ولم تطمئن بالمصدر الإلهي والمعين الرباني، فلن تجد راحة ولا طمأنينة مهما بذلت في ذلك.
إنَّ الراحة والطمأنينة ليست بمال ولا صحةٍ، ولا ولد ووالد وتَلدٍ، ولا برُتب ومراتب، ولا بملك ولا بغير ذلك، ولكنها تلك الطمأنينة التي يجدها الإنسان بقربه من الله -جل وعلا-، فإنه من كان مع الله كان الله معه، ومن أعرض عن الله فلا تسل عما يكون في قلبه من أنواع القلق الذي يجد آثاره في كل لحظة من لحظات حياته.
وهكذا كان الأمر لأولئك الذين استنكفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبارزوه وتسلَّطوا عليه بالعدوان، فإن الله -سبحانه وتعالى- بتَرَهم من كل خير، ومن كل طمأنينة يودون نيلَها، ومن غيرة الله -سبحانه- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-، ومن حبه له أن الكفار لما شتَموه عليه الصلاة والسلام، فإنَّ الله -تعالى- أجاب عنه بغير واسطة، فقال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[الكوثر: 3]، وهكذا سُنة الأحباب، فإنَّ الحبيب إذا سمِع مَن يشتم حبيبه تولَّى بنفسه جوابه، فها هنا تولَّى الحق سبحانه جوابهم، وتكرَّر ذلك في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.
ومع تَكرار أنواع الأذية للنبي -صلى الله عليه وسلم- تتوالى التطمينات الربانية، والضمانات الإلهية بأساليب متنوعة، فيها الإعزاز والتكريم، والتثبيت له -عليه الصلاة والسلام-، ومن ذلك: آية كريمة لا نظير لها في التوراة ولا في الإنجيل، هذه الآية ضمان مطلق لم يُعهد لأي أحد من الخلق من الأنبياء والرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، ولا من غيرهم، إنما كانت لخاتمهم وأفضلهم، وسيد الخلق محمد -عليه الصلاة والسلام-، هذه الضمانة الربانية هي المضمَّنة في قوله جل وعلا: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48]؛ أي: بمحل العناية والرعاية والكلاءة منا، فأنت يا رسولنا يا محمد بمرأى منا، معصوم محفوظ، ونحن نعلم ما تلاقيه وما يريدونه بك، ونحن نجازيك على ما تلقاه، ونحرسك من شرهم، وننتقم لك منهم، هم ومن سار على طريق إجرامهم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد وفَّى الله سبحانه بهذا كله وله الفضل والنعمة والحمد.
(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48]، إنه الخطاب الإلهي الذي يُنسي النبي -عليه الصلاة والسلام- كلَّ عنتٍ يلقاه، ويمسح كل مشقة تعترضه، نفحةٌ تَسُرُّ الخاطر وتُبهج النفس، قال ابن عطية -رحمه الله-: "هذه الآية ينبغي أن يقررها كل مؤمن في نفسه، فإنها تفسح مضايق الدنيا".
(فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48]، مِنحة ربانية لسيد الرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-، إنه خطاب فريد في القرآن كله، لم يوجَّه إلى نبي أو رسول غيره، فأي قلمٍ وأي فكر يَملِك أن يُترجم عن شفافيته؟! حتى إن اللغة تَطرَب من سعادتها حين حمَلت هذا المعنى، تِيهًا بهذا الكلم الرباني، بيان من نور المادة اللغوية يجعل اللفظ ينبوع نور يتفجر؛ ليخلع على معناه ألوانًا بهيجة ومعانيَ بديعة، تَعجِز الأقلام والأفكار عن تصوُّرها، فأصابت بألفاظها مواقعَ الشعور الوجداني؛ لتظهرها في أسلوب هو أوفى من سواه وأبدعه.
يا له من إجلال وتعظيم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48]؛ حيث لم يُحِلِ الله -سبحانه- نبيَّه محمدًا -عليه الصلاة والسلام- على أحد، ولا على مرحلة من مراحل عمره أن يكون بهذه الرعاية والعناية والتكريم والتعظيم والإجلال، بل إنها له عليه الصلاة والسلام منذ الأزل إذ أراد الله خلقه، منذ كم كنت نبيًّا يا رسول الله؟ قال: "إني لنبيٌّ عند الله وإن آدم لمجندلٌ في طينته".
فآدم -عليه السلام- يعرف أن من ذريته محمدًا خاتم الرسل وأفضلهم وأفضل الخليقة جمعاء، وكل نبي يعرف ذلك، ويخبر أقوامه أن محمدًا إذا بُعِث تعيَّن ووجب عليكم اتباعُه، يا له من إجلال وتعظيم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48]، لذا قال العلماء: إن هذه المنزلة أرقى مما كانت لأخيه موسى -عليه السلام- لَمَّا قال الله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 39]، فإنها كانت في ترقِّي موسى -عليه السلام- في تربيته منذ طفولته إلى أن كان نبيًّا، ثم ما كان له من الحفظ بعد ذلك، لكن هذه المنزلة لنبينا -عليه الصلاة والسلام- أرقى وأعظم وأجل، ولا تقارن بمنزلة أحد أبدًا: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48]، وحسب أرباب البيان أن يتفيَّؤوا هذه الظلال، ويستروحوا في خمائلها؛ من زهرها، من عبيرها، من كريم ما فيها من معانٍ: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطور: 48].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلَّى الله وسلَّم على عبد الله ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو حفظ الله -جل جلاله- لنبيه محمد -عليه الصلاة والسلام-، وهذا دفاعه عنه ونصره له، ويقتضي ذلك حفظ هذا الشرع المحمدي إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها، لا خوفَ على محمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، ولا خوفَ على رسالته، ولا خوف على شريعته، فهي باقيةٌ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لهذا النبي الكريم ولشريعته من الله الحفظ والرفعة، رفع الذكر والقدر، والله يقول: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشرح: 4]، فمحمدٌ -عليه الصلاة والسلام- مرفوعٌ ذكرُه، مشرَّفٌ قدرُه في كل زمان ومكان.
ولا تخلو الأرض أبدًا من لحظة يُذكر فيها عليه الصلاة والسلام على الملأ يُصلى عليه، وتُذكر بإزائه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
ولو تصورت رفع الأذان من مشرق الأرض إلى مغربها فلا تخلو بلدة من رفع هذا الأذان بتنقُّل الوقت من مشرق العالم إلى مغربه، ففي هذه اللحظة التي نقف فيها الآن يرفع الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، من أدنى العالم إلى أقصاه، وفي مشرقه ومغربه، لا تخلو لحظة من رفع هذا النداء، وهذا الإعلان العظيم بالتوحيد لرب العالمين، وبالشهادة بالرسالة لخاتم الرسل محمد -عليه الصلاة والسلام-، وهذا في حدِّ ذاته معجزةٌ وآية ورفعةٌ، وأي رفعة له -عليه الصلاة والسلام-، رفع الذكر والقدر له ولشرعه، فلا خوفَ على جنابه الشريف.
ولكن الخوف كل الخوف على من قصَّر وتأخر عن الإيمان به، وعن اتباعه وتوقيره، وعن نصرته عليه الصلاة والسلام.
لقد عاتب الله -جل وعلا- كلَّ من تخلف عن هذا الشرف العظيم، فقال سبحانه: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ)[التوبة: 120].
محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وجنابه الشريف، هو المفدى بكل غالٍ ونفيس بالآباء والأمهات، بالأرواح والْمُهَج وبكل شيء، بأبي وأمي وبنفسي عليه الصلاة والسلام.
ولذا كان واجبًا على الأمةِ جمعاء -حكومات وجماعات وأفرادًا- أن يؤدوا حق نبيهم -عليه الصلاة والسلام- باتباعه وتوقيره، وبنصره وتأييده، لا لحاجة للنبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك، فإن الله قد كفاه ونصره، ولكن لحاجتنا نحن جميعًا حتى نضع التبعة عن أنفسنا، وحتى يشرفنا ربنا ويكتب لنا الفلاح؛ كما قال سبحانه: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الأعراف: 157]، تكفَّل الله بالفلاح في الدنيا والآخرة لمن حاز هذه الفضائل: الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتوقير له وإجلاله ونصره، والتمسُّك بسنته المطهرة، والاستقامة على هديه الشريف.
وهذه النصرة ليست خيارًا للإنسان يفعلها أو يحجم عنها، بل إنها فرض لازم وإن تفاوت الناس في مقدار هذه الفرضية، كما أن هذه النصرة للنبي -عليه الصلاة والسلام- ليست اختيارية في طريقتها، بل الواجب أن تكون وَفْق هدْي محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن النصرة والتوقير والإجلال والاتباع له -عليه الصلاة والسلام- دينٌ وعبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه -جل وعلا-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31].
فينبغي أن يعلم أن سمعة الإسلام وسمعة نبيه -عليه الصلاة والسلام- مسؤولية كل واحد منا -ذكورًا وإناثًا، جماعات وأفرادًا، حكومات وشعوبًا- ينبغي لكل أحد أن يكون سفير خير ومنبر هدًى في بيان حقيقة دين الإسلام، وحقيقة دعوة نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على هذا النبي الكريم، فهذا أمر ربنا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء، فاشْغِلْه في نفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ علينا في بلادنا أمننا وإيماننا وقيادتنا ورخاءنا، وأعِذْنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم رحمةً على الرعية، اللهم وفِّقهم لكل خير للعباد والبلاد، وما فيه خير الناس يا رب العالمين.
اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكْفِهم شرارهم.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180-182].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم