الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: شرع ومحبة وتوقير

عدنان مصطفى خطاطبة

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ دلائل حقيقة الإيمان 2/ تأملات في آية من كتاب الله تعالى 3/ معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 4/ حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 5/ أكمل صيغة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 6/ فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 7/ أزمنة وأماكن يستحب فيها كثرة الصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

اقتباس

إن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست مجرد كلمات تُقال باللسان، إنها كلمات ومشاعر، إنها دليل على محبتك لنبيك، إنها دليل على تذكُّرك الدائم لنبيك، إنها دليل ارتباطك بنبيك، إنها دليل توقيرك لنبيك، إنها دليل عدم نسيانك لفضل نبيك -صلوات الله وسلامه عليه-.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

 

أيها المؤمنون بالله وبرسوله: إن للإيمان حقيقة تدل عليه، فحقيقة الإيمان بالله بعبادته ومحبته، وحقيقة الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- باتباعه ومحبته. ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي محبة قلبية نفسية شعورية، وهي في الوقت نفسه محبة طاعة له، ونصرة لدعوته، وعمل بسنته، وهي كذلك صلاة وسلام عليه.

 

نعم، أيها المؤمنون، إن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست مجرد كلمات تُقال باللسان، إنها كلمات ومشاعر، إنها دليل على محبتك لنبيك، إنها دليل على تذكُّرك الدائم لنبيك، إنها دليل ارتباطك بنبيك، إنها دليل توقيرك لنبيك، إنها دليل عدم نسيانك لفضل نبيك -صلوات الله وسلامه عليه-.

 

أيها المؤمنون بالله وبرسوله: آية في كتاب الله، حينما تقرأها، تستوقفك، تدعوك للتأمل في عظمة الخطاب فيها، كلما تفكرت في كلماتها أقررت بعظمة من تتحدث عنه، ومن تخبرك عنه، كلما نظرت في الأمر فيها استشعرت عظمة الآمر وقدر الأمر وواجب المأمور، يا لها من آية! هي عجب والله! فيها خبر عن العالم العلوي وطلب من العالم السفلي، وكل ذلك هي حديث عن إنسان واحد في الكون كله، هي حديث عن موضوع واحد لا غير، نعم، إنها آية تخص محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، إنها آية خُصصت فقط للصلاة على النبي، -صلوات ربي وسلامه عليه-، فاستمع معي إلى عظمة كلام ربك سبحانه؛ يقول الله تعالى في كتابه العظيم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [لأحزاب: 56].

 

قال ابن كثير: "المقصود من هذه الآية أن اللَّه أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر –تعالى- أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالَمَيْنِ، العلوي والسفلي جميعًا".

 

نعم، تدبر معي كلمات الآية، إنها تخبرك بأن الله –سبحانه- بعظمته بجلاله بقدسيته بذاته الجليلة بنفسه الجليلة يصلي على النبي محمد، ثم ماذا؟ ثم يخبرك الله بأنه قد أمر الملائكة -التي لا تعصيه ما أمرها- بأن تقوم بالصلاة على النبي محمد، فكل الملائكة التي في السموات العلى والأرض كلها لا تتوقف عن الصلاة على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، واستخدم الفعل المضارع ليفيد الاستمرارية، فقال: "يصلون".

 

وقال القرطبي: في تفسيره لهذه الآية: "هَذِهِ الْآيَةُ شَرَّفَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ، وَذَكَرَ مَنْزِلَتَهُ مِنْهُ، وَطَهَّرَ بِهَا سُوءَ فِعْلِ مَنِ اسْتَصْحَبَ فِي جِهَتِهِ فِكْرَةَ سُوءٍ، أَوْ فِي أَمْرِ زَوْجَاتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ".

 

وقال ابن عاشور مبينًا أسرار الآية اللغوية والبيانية في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَذُكِرَ صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ مَعَ صَلَاةِ اللَّهِ ليَكُون مِثَالاً من صَلَاة أَشْرَفِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الرَّسُولِ لِتَقْرِيبِ دَرَجَةِ صَلَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِهَا عَقِبَ ذَلِكَ، وَالتَّأْكِيدُ لِلِاهْتِمَامِ. وَمَجِيءُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِتَقْوِيَةِ الْخَبَرِ، وَافْتِتَاحُهَا بِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِإِدْخَالِ الْمَهَابَةِ وَالتَّعْظِيمِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَجِيء فِي صَلَاةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ لِيَكُونَ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيمِ عَقِبَ ذَلِكَ مُشِيرًا إِلَى تَكْرِيرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ أُسْوَةً بِصَلَاةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ".

 

وقال ابن عاشور أيضًا في بيان ما جاء في الآية من التسليم على النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قَوْلُهُ: وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي صَلُّوا عَلَيْهِ حُكْمًا وَمَكَانًا وَصِفَةً فَإِنَّ صِفَتَهُ حُدِّدَتْ بِقَوْلِ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ"، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ هُوَ صِيغَتُهُ الَّتِي فِي التَّشَهُّدِ "السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي وَرَحِمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ"، وَالْآيَةُ تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَ بِشَيْئَيْنِ: الصَّلَاةُ عَلَى النبي -صلى الله عليه وسلم- وَالتَّسْلِيمُ عَلَيْهِ".

 

أيها المؤمنون بالله وبرسوله: ما معنى الصلاة على النبي؟ والصلاة على النبي تكون من الله وتكون من الملائكة، وتكون من المؤمنين. فهل معناها واحد أن لكل منها معنى خاص به؟

 

قال القرطبي: "الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَتُهُ وَرِضْوَانُهُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَمِنَ الْأُمَّةِ الدُّعَاءُ وَالتَّعْظِيمُ لِأَمْرِهِ"، وقال أبو العالية: "صلاة اللَّه ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء" أي: أن الملائكة تطلب من اللَّه الزيادة من ثنائه على النبي -صلى الله عليه وسلم-".

 

 وقال ابن عباس: «يصلون: أي يبرِّكون» "أي: يدعون له بالبركة"، وقال ابن حجر أيضًا: "معنى صلاة اللَّه على نبيه: ثناؤه عليه وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم: طلب ذلك له من اللَّه تعالى، والمراد طلب الزيادة، لا طلب أصل الصلاة".

 

وقال ابن القيم: "معنى صلاة اللَّه على النبي -صلى الله عليه وسلم-: الثناء على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والعناية به، وإظهار شرفه، وفضله وحرمته، وصلاتنا على النبي -صلى الله عليه وسلم-: تعني أننا نطلب من اللَّه الزيادة في ثنائه على النبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهار فضله وشرفه وتكريمه وتقريبه له".

 

وقال ابن عاشور: " وَالصَّلَاةُ: ذِكْرٌ بِخَيْرٍ، وَأَقْوَالٌ تَجْلِبُ الْخَيْرَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الدُّعَاءُ هُوَ أَشْهَرَ مُسَمَّيَاتِ الصَّلَاةِ، فَصَلَاةُ اللَّهِ: كَلَامُهُ الَّذِي يُقَدِّرُ بِهِ خَيْرًا لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- لِأَنَّ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ فِي جَانِبِ اللَّهِ مُعَطَّلٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَدْعُوهُ النَّاسُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ: اسْتِغْفَارٌ وَدُعَاءٌ بِالرَّحَمَاتِ".

 

عباد الله: وأما معنى التسليم، فيقول فيه ابن عاشور: "مَعْنَى تَسْلِيمِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِكْرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ؛ فَإِنَّ السَّلَامَ كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدِ اسْتَحْسَنَ أَئمةُ السَّلَفِ أَنْ يُجْعَلَ الدُّعَاءُ بِالصَّلَاةِ مَخْصُوصًا بِالنبي -صلى الله عليه وسلم-. وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ نَبِينَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. يُرِيدُ أَنَّ تِلْكَ هِيَ السُّنَّةُ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ الصَّلَاةَ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيئِينَ كُلِّهِمْ".

 

أيها المؤمنون بالله وبرسوله: ما حكم الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ ما أقوال أهل العلم في حكم الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فلنستمع لذلك، لنعلم أن الصلاة على النبي هي تكليف شرعي.

 

قال الجصاص في أحكام القرآن: "وَقَوْلُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَهُوَ فَرْضٌ عِنْدَنَا فَمَتَى فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ".

 

قال القرطبي: "وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فَرْضٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً، وَفِي كُلِّ حِينٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي لَا يَسَعُ تَرْكُهَا وَلَا يَغْفُلُهَا إِلَّا مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ".

 

وجاء فيه أيضًا نقلاً لقول الزمخشري: "فَإِنْ قُلْتَ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاجِبَةٌ أَمْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا؟ قُلْتُ: بَلْ وَاجِبَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حَالِ وُجُوبِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَجِبُ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مَرَّةً وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ دُعَاءٍ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا فِي الْعُمُرِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الِاحْتِيَاطُ: الصَّلَاةُ عِنْدَ كُلِّ ذِكْرٍ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ".

 

وقال السعدي: "وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه مشروع في جميع الأوقات، وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة".

 

وقال ابن عاشور في تفسيره للآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]: "وَظَاهِرُ صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعَ قَرِينَةِ السِّيَاقِ يَقْتَضِي وُجُوبَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُؤمن على النبي -صلى الله عليه وسلم-، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُجْمَلًا فِي الْعَدَدِ فَمَحْمَلُهُ مَحْمَلُ الْأَمْرِ الْمُجْمَلِ أَنْ يُفِيدَ الْمَرَّةَ لِأَنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَلِمُقْتَضَى الْأَمْرِ. وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُصَلِّي على النبي -صلى الله عليه وسلم- مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، فَجَعَلُوا وَقْتَهَا الْعُمُرَ كَالْحَجِّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فِي حُكْمِهِ وَمِقْدَارِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَخَاصَّةً عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا".

 

إذن، يا عباد الله: الصلاة على النبي هي شرعٌ منزل، هي دينٌ محكم، لها حكمها الشرعي الذي حكم به ربنا سبحانه من فوق سبع سموات، بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، أمر إلهي واضح صريح بوجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأنت يا أيها المؤمن بالله وبالنبي تصلي على نبيك وتسلم. طاعةً لله ومحبةً وتوقيرًا للنبي -صلوات الله وسلامه عليه-.

 

أيها المؤمنون بالله وبرسوله: أكمل صيغة للصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، هي ما جاءت عن النبي. ففي صحيح البخاري، أن الصحابة لما نزلت هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".

 

أيها المؤمنون بالله وبرسوله: لقد تفضل الله تعالى على عباده المؤمنين بأن جعل لهم فضلاً كبيرًا في صلاتهم على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ليعلموا كم قدر هذه الصلاة على النبي، وكم قدر قيامهم بها، وكم قدر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكم قدر المداومة والإكثار من الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

عباد الله: لقد بلغ من عظيم فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن الله تعالى يجازيك من جنس عملك هذا، بل ويضاعفه أضعافًا كثيرة، بأن يصلي عليه الله تعالى هو بنفسه المقدسة عشر أضعاف صلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا صليت على النبي مرة واحد صلى الله عليك بها عشر مرات، وإذا صليت على النبي مائة مرة صلى الله عليك بها ألف مرة، فأي فضل بعد هذا؟ الله ذاته. روى النسائي عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً، صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ".

 

عباد الله: من فضل الصلاة على النبي تحصيل شفاعته يوم القيامة. ففي سنن الترمذي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً". قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

 

عباد الله: الصلاة على النبي بركات والله، بركات في الدنيا وبركات في الآخرة، تجمع لك الخير كله، فاستمع إلى ذلك: في سنن الترمذي عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ"، قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: "مَا شِئْتَ". قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: "مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: "مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: "مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ: "إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ". قال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ".

 

ومن أقوال العلماء في شرح هذا الحديث: قال المنذري: قوله: "فكم أجعل لك من صلاتي» معناه: "إني أكثر الدعاء، فكم أجعل لك من دعائي صلاةً عليك؟"، وقال المباركفوري: قوله: "أجعل لك صلاتي كلها" أي أصرف بصلاتي عليك جميع الذي كنت أدعو به لنفسي. وقوله: "إذًا تُكفى همك" يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة عليَّ أُعطيت خَيْريِ الدنيا والآخرة.

 

عباد الله: حينما تصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن صلاتك هذه تنقل إلى رسول الله. نعم، تنقل إليه عن طريق ملك من الملائكة متخصص بذلك، ويذكرك باسمك؛

ففي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثروا من الصلاة عليَّ، فإن الله وكَّل لي ملك عند قبري فإذا صلى عليَّ رجل من أمتي، قال الملك: يا محمد إن فلان ابن فلان صلى عليك الساعة".

 

أيها المؤمن بالله وبرسوله: كن من المكثرين من الصلاة والسلام على نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهو صاحب الفضل عليك بعد الله في أنك من أهل التوحيد والإيمان وكفى به من فضل.

 

فأكثر من الصلاة عليه في كل وقت وحين، ولا تنس الصلاة على نبيك في أوقات وأمكنة مخصوصة، كيوم الجمعة وعند دخولك وخروجك من المسجد.

 

يقول ابن عاشور: "مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ مَنْ جَرَى ذِكْرُهُ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ فِي افْتِتَاحِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ، وَعِنْدَ الدُّعَاءِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ الْآذَانِ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُؤَذِّنِ، وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَفِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ".

 

فلكم أن تتصوروا يا عباد الله: أن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- شُرعت عند دخول المسجد وعند الخروج منه، ففي سنن الترمذي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فأي فضل هذا وأيّ قدر ذاك؟!

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

 

يا أيها المؤمن: احذر من ترك الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عمدًا، وتغافلاً، ففي الحديث الصحيح، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رَغِمَ أنفُ رجل ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ"، رغم أنف: يعني لصق بالتراب ذلاً وهوانًا.

 

يا أيها المؤمن: اعلم أن استجابة دعائك مرهونة بصلاتك على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي الحديث الصحيح، دعاؤك رهن صلاتك على نبيك، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-".

 

وصح أن ابن مسعود قال: "كنت أصلي والنبي وأبو بكر وعمر معه فلما جلست بدأت بالثناء على الله، ثم بالصلاة على النبي، ثم دعوت لنفسي فقال: "سل تعطَ، سل تعطَ".

 

أيها المؤمن: من الأزمنة المفضلة للصلاة على النبي يوم الجمعة، فإياك إياك أن يفوتك الاشتغال بالصلاة على النبي يوم الجمعة، لما لهو من خصوصية وفضل كبير. ففي الحديث الصحيح، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ".

 

أيها المسلم: لا يفوتك الصلاة على نبيك عند القراءة وعند الكتابة، واكتب الصلاة كاملة ولا تختصرها بأحرف. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "يُسْتَحَبُّ لِكَاتِبِ الْحَدِيثِ إِذا مر بِذكر اللَّهِ أَنْ يَكْتُبَ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ تَعَالَى، أَوْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَوْ جَلَّ ذِكْرُهُ، أَوْ تَبَارَكَ اسْمُهُ، أَوْ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يَكْتُبُ عِنْدَ ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكمالها لَا رَامِزًا إِلَيْهَا وَلَا مُقْتَصِرًا عَلَى بَعْضِهَا، وَيَكْتُبُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا فِي الْأَصْلِ الَّذِي يُنْقَلُ مِنْهُ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ رِوَايَةً وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاء. وَيَنْبَغِي للقارئ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي الْأَصْلِ الَّذِي يَقْرَأُ مِنْهُ وَلَا يَسْأَمُ مِنْ تَكَرُّرِ ذَلِكَ، وَمَنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ حُرِمَ خَيْرًا عَظِيمًا".

 

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة..

 

المرفقات

على النبي صلى الله عليه وسلم شرع ومحبة وتوقير

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
محمد احمد تركي خطاطبة
12-11-2020

جزاكم عنا وعن المسلمين خير الجزاء