عناصر الخطبة
1/ الحاجة للشرائع 2/ الحِكَم من الصلاة 3/ أسرار الصلاة 4/ حِكَم الوضوءاقتباس
ثم أُمِر بأن يسبِّحَ ربه الأعلى، فيذكر علوَّه –سبحانه- في حال سفوله هو، ويُنزِّهُه عن مثل هذه الحال، وأنَّ مَن هو فوق كل شيء، وعالٍ على كل شيء، يُنزَّه عن السُّفول بكل معنى، بل هو الأعلى، بكلِّ معنىً من معاني العُلُوّ. ولمَّا كان هذا غايةَ ذُلِّ العبد، وخضوعه، وانكساره؛ كان أقربَ ما يكونُ الربُّ منه في هذه الحال.
الحمد لله الذي أنعم على عباده بأعظم النعم وأجلها وأفضلها وأعلاها، ببعْثِه الرسل وإنزاله الكتب بأزكى الشرائع وأسناها، أحمده سبحانه وحمدي له من نِعمه، وأسأله المزيد من عطائه وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوامره-سبحانه- رحمة، وإحسان وشفاء، وحياة للقلوب وغذاء، وحاجتهم إليها أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب والكساء، فلولا رحمته بالعلم والإيمان، وبيان الحرام والحلال، لكان الناس بمنزلة البهائم يتهارجون في الطرقات، ويتسافدون تسافد الحيوانات، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى صواب.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أنزل عليه شريعة مكملة للفطر والعقول، مرشدة إلى ما يحبه الله ويرضاه، ناهية عما يبغضه ويسخطه ويأباه، مستعملة لكل قوة وعضو وحركة في كماله الذي لا كمال له سواه، آمرة بمكارم الأخلاق ومعاليها، ناهية عن دنيئها وسفسافها، دالة على أن الذي جاء بها رسول صادق، وأن الذي شرَعها أحكم الحاكمين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وجميع أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: الشرائع ضرورية في مصالح الخلق، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة تقدر؛ فهي أسباب موصلة إلى سعادة الدارين، ورأس الأسباب الموصلة إلى صحة البدن وقوته واستفراغ أخلاطه، ومن لم يتصور الشريعة على هذه الصورة فهو من أبعد الناس عنها؛ انظروا إلى الأمكنة والأزمنة التي خليت فيها آثار النبوة كيف حال أهلها؟ وما دخل عليهم من الجهل والظلم، والكفر بالخالق، والإشراك بالمخلوق، واستحسان القبائح، وفساد العقائد والأعمال.
عباد الله! قد جعل الحكيم العليم لكل قوة من القوى، ولكل حاسة من الحواس، ولكل عضو من الأعضاء، كمالاً حسيًا، وكمالاً معنويًا؛ فأعطاه كماله الحسي خَلْقًا وَقَدَرًا، وأعطاه كماله المعنوي شرعًا وأمرًا، فبلغ بذلك غاية السعادة والانتفاع بنفسه.
ويكفي العاقلَ البصيرَ، الحيَّ القلبِ، فِكْرُهُ في فرع واحد من فروع الأمر والنهي، وهو "الصلاة"، وما اشتملت عليه من الحِكم الباهرة، والمصالح الباطنة والظاهرة، والمنافع المتصلة بالقلب والروح، والبدن والقوى، التي لو اجتمع حكماء العالم، واستفرغوا قواهم وأذهانهم، لَما أحاطوا بتفاصيل حِكَمها وأسرارها وغاياتها المحمودة، وما في مقدماتها وشروطهما من الحكم العجيبة: من تطهير الأعضاء، والثياب، والمكان؛ وأخذ الزينة، واستقبال بيته الذي جعله إمامًا للناس، وتفريغ القلب لله، وإخلاص النية، وافتتاحها بكلمة (الله أكبر) الجامعة لمعاني العبودية، الدالة على أصول الثناء وفروعه، المخرجة من القلب الالتفات إلى ما سواه، فيقوم بقلبه بالوقوف بين يدي عظيم جليل، أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، في كبريائه السموات وما أظلَّتْ، والأرض وما أقلت، والعوالم كلها، عنَتْ له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة؛ قاهرٌ فوق عباده، ناظر إليهم، عالم بما تكنُّ صدورهم، يسمع كلامهم، ويرى مكانهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم.
ثم أخَذ في تسبيحه وحمده وذكره، تَبارك اسمه، وتعالى جدُّه، وتفرَّد بالإلهية؛ ثم أخذ في الثناء عليه بأفضل ما يُثنَى عليه به، من حمده، وذكر ربوبيته للعالم، وإحسانه إليهم، ورحمته بهم، وتمجيده بالملك الأعظم في اليوم الذي لا يكون فيه مَلِكٌ سواه، حين يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ويَدِينُهم بأعمالهم.
ثم أفرده بنوعي التوحيد: توحيد ربوبيته استعانة به، وتوحيد إلهيته عبودية له. ثم سؤال أفضل مسؤول، وأعلى مطلوب على الإطلاق، وهو هداية الصراط المستقيم، الذي نصبه لأنبيائه ورسله وأتباعهم، وجعله صراطًا موصلاً لمن سلكَه إليه وإلى جنته، وأنه صراط من اختصَّهم بنعمته، بأن عرَّفهم الحقَّ وجعلَهم متَّبعين له، دون صراط أمة الغضب الذين عرفوا الحق ولم يتَّبعوه، وأهل الضلال الذين ضلوا عن معرفته واتِّباعه.
ثم يأخذ بعد ذلك في تلاوةِ ربيع القلوب، وشفاء الصدور، ونور البصائر، وحياة الأرواح، وهو كلام رب العالمين، فَيَحُلُّ به فيما شاء من روضات مونقات، وحدائق معجبات، زاهية أزهارها، مونقة ثمارها، قد ذللت قطوفها تذليلا، وسهلت لمتناولها تسهيلا، فهو يجتني من تلك الثمار خيرًا يؤمر به، وشرًا يُنهى عنه، وحكمة، وموعظة، وتبصرة، وتذكرة، وعِبْرةً، وتقريرًا لحقٍّ، ودحضًا لباطل، وإزالة لشبهة، وجوابًا عن مسألة، وإيضاحًا لمُشْكِل، وترغيبًا في أسباب فلاح وسعادة، وتحذيرًا من أسباب خسران وشقاوة، ودعوة إلى هدى، ورَدَّاً عن ردى؛ فتنزل على القلوب نزول الغيث على الأرض التي لا حياة لها بدونه، ويَحُلُّ منها محل الأرواح لأبدانها.
فأيُّ نعيم، وقُرَّة عين، ولذَّةُ قلب، وابتهاجٌ وسرور، لا يحصل له في هذه المناجاة؟! والربُّ -تعالى- يسمع لكلامه جاريًا على لسان عبده، ويقول: حمَدَني عبدي، أثنى عليَّ عبدي، مجَّدَني عبدي.
ثم يعود إلى تكبير ربِّه -عز وجل- فيجدد به عهدَ التذكرةِ، كونَهُ أكبرَ من كل شيء بحق عبوديته، وما ينبغي أن يعامل به.
ثم يركع حانيًا له ظهره خضوعًا لعظمته، وتذللاً لعزته، واستكانة لجبروته، مسبِّحًا له بذكر اسمه العظيم، فنزَّه عظمته عن حال العبد وذله وخضوعه، وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء والخضوع، قد تطامن وطأطأ رأسه، وبسط ظهره، وربُّه فوقه يرى خضوعه وذله، ويسمع كلامه، فهو ركن تعظيم وإجلال، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرب".
ثم عاد إلى حاله من القيام، حامدًا لربه، مثنيًا عليه بأكملِ مَحَامده وأجمعها وأعمِّها، مثنيًا عليه بأنه أهل الثناء والمجد، معترفًا بعبوديته، شاهدًا بتوحيده، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأنه لا ينفع أصحابَ الجدود والأموال والحظوظ جدودُهم عنده، ولو عظُمت.
ثم يعود إلى تكبيره، ويخر له ساجدًا على أشرف ما فيه وهو الوجه، فيعفِّره في التراب ذلاً بين يديه ومسكنة وانكسارًا، وقد أخذ كل عضو من البدن حظه من هذا الخضوع حتى أطراف الأنامل ورءوس الأصابع. وندب له أن يسجد معه ثيابه وشعره فلا يكفه، وأن لا يكون بعضه محمولاً على بعض، وأن يباشر التراب بجبهته، ويكون رأسه أسفل ما فيه تكميلاً للخضوع والتذلل لمن له العز كله والعظمة كلها. وهذا أيسر اليسير من حقه على عبده، فلو دام كذلك من حين خلق إلى أن يموت لما أدى حق ربه عليه.
ثم أُمِر بأن يسبِّحَ ربه الأعلى، فيذكر علوَّه –سبحانه- في حال سفوله هو، ويُنزِّهُه عن مثل هذه الحال، وأنَّ مَن هو فوق كل شيء، وعالٍ على كل شيء، يُنزَّه عن السُّفول بكل معنى، بل هو الأعلى، بكلِّ معنىً من معاني العُلُوّ. ولمَّا كان هذا غايةَ ذُلِّ العبد، وخضوعه، وانكساره؛ كان أقربَ ما يكونُ الربُّ منه في هذه الحال، فأُمر بأن يجتهد في الدعاء لقربه من القريب المجيب، وقد قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العَلق:19]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأمَّا السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم".
ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن، شرع في أشرف أحوال الإنسان وهي هيئة القيام؛ ولما كان أفضل أركانها الفعلية السجود، شرع فيها بوصف التكرار.وشرع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد، ويسأل ربه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه، وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته. ثم شرع له تكرار هذه الركعة مرة بعد مرة، كما شرع تكرار الأذكار والدعوات مرة بعد مرة، ليستعد بالأول لتكميل ما بعده، ويجبر بما بعده ما قبله؛ وليشبع القلب من هذا الغذاء، وليأخذ زاده ونصيبه من هذا الدواء، ليقاوم ما يعرض له من الأدواء.
ثم لما أكمل صلاته شرع له أن يقعد قِعدة العبد الذليل المسكين لسيده، ويثني عليه بأفضل التحيات، ويسلم على من جاء بهذا الحظ الجزيل، ومن نالته الأمة على يديه، ثم يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله المشاركين له في هذه العبودية، ثم يتشهد شهادة الحق، ثم يعود فيصلي على من علَّم الأمة هذا الخير ودلهم عليه، ثم شرع له أن يسأل حوائجه ويدعو بما أحب ما دام بين يدي ربه مقبلاً عليه. فإذا قضى ذلك أذن له في الخروج منها بالتسليم على المشاركين في الصلاة.
فاتقوا الله -عباد الله- وتفهَّموا دائمًا المقصود من الصلاة، وما شرع فيها من إحضار القلوب، واستحضار معاني ومقاصد القراءة والأذكار والحركات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132].
الخطبة الثانية:
الحمد لله الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام الغر الحإجلين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! تأملوا كم في الطهارة من حكمة ومنفعة للقلب والبدن، وتفريح للقلب، وتنشيط للجوارح، وتخفيف لما ألقاه عز النفس من درَن المخالفات، فهي منظِّفة للقلب والروح والبدن.
وفي غسل الجنابة من زيادة النعومة والإخلاف على البدن نظير ما تحلل منه بالجنابة ما هو من أنفع الأمور. وتأمَّلوا كون الوضوء في الأطراف التي هي محل الكسب والعمل، فجعل في الوجه الذي فيه السمع والبصر والكلام والشم والذوق، وهذه الأربعة هي أبواب المعاصي، والذنوب كلها تدخل منها؛ ثم جعل في اليدين، وهما طرفاه وجناحاه اللذان بهما يبطش ويأخذ ويعطي؛ ثم في الرجلين اللتين بهما يمشي ويسعى، ولما كان غسل الرأس مما فيه أعظم حرج ومشقة جعل مكانه المسح، وجعل ذلك مخرجًا للخطايا من هذه المواضع حتى يخرج مع قطر الماء من شعره وبشره.
وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من توضَّأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه حتى تخرج من تحت أظفاره"؛ فهذا من أجلِّ حكم الوضوء وفوائده. وهو سِيمَا هذه الأمة، وعلامتهم في وجوههم وأطرافهم يوم القيامة بين الأمم.
ولما كانت الشهوة تجري في جميع البدن، حتى إن تحت كل شعرة شهوة، سرى غسل الجنابة إلى حيث سرت الشهوة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن تحت كل شعرة جنابة"، فأمر أن يوصل الماء إلى أصل كل شعرة، فيبرد حرارة الشهوة، فتسكن النفس، وتطمئن إلى ذكر الله، وتلاوة كلامه، والوقوف بين يديه.
ولو لم يكن فيه من المصلحة والحكمة إلا أن المتوضئ يطهر يديه بالماء، وقلبه بالتوبة؛ ليستعد للدخول على ربه ومناجاته، والوقوف بين يديه طاهر البدن والثوب والقلب.
ثم لمَّا كان العبد خارج الصلاة مهملاً جوارحه، قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ؛ لما كان هذا طبعه وذاته؛ أمر أن يجدد هذا الركوع إليه والإقبال عليه وقتًا بعد وقت، لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربه، وينقطع عنه بالكلية، وكانت الصلاة من أعظم نعم الله عليه، وأفضل هداياه التي ساقها إليه، فاحمدوه تعالى على ذلك، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النُّور:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم