الصلاة حصن وملاذ

فيصل بن جميل غزاوي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الصلاة
عناصر الخطبة
1/للصلاة في الإسلام شأن عظيم 2/حال الذي لا يصلي 3/أدلة وبراهين على عِظَم شأن الصلاة 4/من العجائب أن يترك المسلم الصلاة أو يتهاون فيها 5/على المقصر في الصلاة أن يتوب ويرجع إلى الله 6/على المسلم أن يكون مقيما للصلاة وداعية لأدائها

اقتباس

ما أَجْمَلَ أن يحرص المصلُّون ممَّن تبلغهم هذه الكلماتُ أن يذكِّروا بها مَنْ لا يصلي ممن حولهم، من قرابتهم، من جيرانهم، من أصحابهم، لعلهم يؤوبون ويعودون إلى رشدهم، ويُنِيبُونَ إلى ربهم فيسعدون، ومن النار يُنقَذون...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أما بعد: فما أعظمَ شأنَها، وما أجلَّ شرفَها، مُجلِبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، طاردة للأدواء، مقوِّية للقلب، مبيِّضة للوجه، مُفرِحة للنفس، مُذهِبة للكسل، مُنَشِّطة للجوارح، مُمِدَّة للقوى، شارحة للصدر، مغذِّية للروح، منوِّرة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعِدة من الشيطان، مُقَرِّبة من الرحمن، كم جاءت النصوص الشرعية في بيان مكانتها وقدرها، وما خُصَّت به عن سائر الأعمال، وكم ألَّف العلماءُ في شأنها وما لها من أسرار، وبيَّنوا مسائِلَها وما اشتملت عليه من أقوال وأفعال، وكم ذكَّر الناصحون والوُعَّاظ بأهميتها، ووجوب حفظها على كل حال، كيف لا؟! وهي أساس الدين بعد توحيد رب العالمين، وركنه الركين، وعمدته وعموده المتين؛ إنها الصلاة، وما أدراك ما الصلاة؟ ثم ما أدراك ما الصلاة؟

 

هي الفريضة الأولى بعد الإيمان بالله ورسوله، فمَنْ أقامَها فقد أقبَل على مولاه، وحظي بالسعادة والقُرْب، ومَنْ تركَها فقد أعرَض عن ربه، ونال التعاسةَ والبعدَ، فهي صلة بين العبد وبين ربه، فإذا تعطَّلت فقد انقطعت الصلةُ بينهما، أتدري يا عبد الله ما معنى انقطاع صلة العبد بالله؟ إنه يعني دمارَ العبد، وفسادَ أمره، وضياعه وخسارته وخِذْلانَه، وفقده كلَّ شيء، وتعرضه للمهالك والمتالف والمثالب، وماذا يبقى للعبد إذا بَعُدَ عن الله، وانقطعت صلته بربه، وحُجِبَ دعاؤه، وتخلَّى عنه مولاه، وحيل بينَه وبينَ رحمة الله.

 

الصلاةُ -معاشرَ المسلمين- أشرفُ العبادات البدنية ورأسُها، وهي الأداة لاتصال هذا المخلوق الضعيف بمصدر القوة والرحمة والكمال، لا يعرف قيمةَ الصلاة إلا مَنْ أقامَها وذاق حلاوتَها ودنا من رضا مولاه؛ إذ لها لذة وأي لذة؟! وقد جُعلت قرةُ عين النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، وكان يقول: "أَرِحْنَا بها يا بلالُ"، وكان إذا حزَبَه أمرٌ فَزِعَ إلى الصلاة، كيف لا؟ وهي مفزَع كل منيب عند الشدائد، فالمكروب إذا صلَّى ذهَب كربُه، والمفزوع إذا صلَّى ذهَب فزعُه، والبعيد الهارب إذا صلى عاد الهدوء إلى قلبه، فهي من أعظم أسباب الاستقرار النفسي.

 

أما الذي لا يصلي فهو في شتات وتخبُّط وضياع، فلا فوز ولا فلاح ولا نجاة ولا ربح، ولا توفيق ولا تيسير لمن لا يصلي، بل الخزي والدمار والخسار والبوار والعار والشنار، مَنْ ضيَّع الصلاةَ التي هي عمود الدين، عاد أثرُ ذلك على سلوكه وأخلاقه وسيرته، وأين يذهب عند الشدائد، ووقت المضائق، وأيُّ ملجأ له وقتَئذ وأي نصير؟ أي راحة وأي طمأنينة؟ وأي سعادة يجدها عبدٌ بعيدٌ عن ربه لا يصلِّي لله ولا يسجد؟ قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)[طه: 124].

 

إن الذي لا يصلي مشؤوم ومذموم، وهو دائما في هموم وغموم، وكل إنسان لا يصلي فإنه محروم من صلاح الحال، وتأمَّلُوا قولَ الله -تعالى-: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ...) الآيةَ [الْمَائِدَةِ: 12]، فإنها دلَّت على أن مَنْ لا يصلِّي لا يجد العونَ والنصرَ من الله.

 

عبادَ اللهِ: إن كل الآيات والأحاديث والآثار الواردة في شأن الصلاة فيها دلالة واضحة على أهمية الصلاة في الإسلام، وتحذير من خطورة تركها وتضييعها، والتهاون في أدائها، ومن تلك النصوص قولُه -تعالى-: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)[التَّوْبَةِ: 11]، فدلَّت على أن الصلاة هي الفارق بين المسلمين وغيرهم، وقوله -جل في علاه-: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)[الْمَاعُونَ: 4-5]، وإذا كان الله قد توعَّد الذين يصلون وهم ساهون عن صلاتهم؛ بمعنى أنهم يصلون ولكنهم يلهون عنها، يؤخرونها عن وقتها، يتشاغلون عنها فما ظنكم بمن لا يصلي؟!

 

ومما يُذكَر في عظم عقوبة تارك الصلاة قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الرؤيا الطويل: "إنه أتاني الليلة آتيانِ، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالَا لي: انطَلِقْ، وإني انطلقتُ معهما، وإنَّا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخَرُ قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسَه -أي: يشدخه- فيتدهده الحجرُ ها هنا؛ -أي: يتدحرج- فيتبع الحجرَ فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسُه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثلما فَعَلَ المرةَ الأولى، قال: قلتُ لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قال: قالَا لي: انطَلِقْ انطَلِقْ، قال: فانطلقنا إلى أن يقول: قال: قلتُ لهما: فإني قد رأيتُ منذ الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيتُ؟ قال: قالَا لي: أمَا إنَّا سنخبركَ؛ أما الرجل الأول الذي أتيتَ عليه يُثلَغ رأسُه بالحجَر فإنه الرجل يأخذ القرآنَ فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة" (رواه البخاري).

 

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "إن أهمَّ أمرِكم عندي الصلاةُ، فمَن حَفِظَها وحافَظ عليها حَفِظَ دينَه، ومَنْ ضيَّعَها فهو لِمَا سِوَاها أضيعُ"، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا صلاةَ لمن لا طهورَ له، ولا دينَ لمن لا صلاةَ له، إنما موضِعُ الصلاةِ من الدين كموضعِ الرأسِ من الجسد"، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن أولَ ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخِر ما تفقدون من دينكم الصلاة"، ولَمَّا عرَف المؤمنون قدرَ الصلاة ازدادوا لها حُبًّا، وبها تعلُّقًا، وعليها إقبالًا، وكان حنينُهم إليها، وإيثارُهم لها على كل ما حُبِّبَ إلى النفس البشرية.

 

إنها عُدَّة الصابرين، وذخيرة المتقين، لَمَّا نُعِيَ لابن عباس -رضي الله عنهما- أخوه قثم وهو في مسير له استرجع وأناخ عن الطريق، وصلَّى ركعتين أطال فيهما الجلوسَ، ثم قام فمشى إلى راحلته وهو يقرأ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)[الْبَقَرَةِ: 45]، والمؤمن محاسَب على الصلاة بمراعاة أوقاتها وشروطها، وأركانها وواجباتها وسُنَنِها، مداوِم على أدائها، لا يضيِّعها أبدًا مَهْمَا كانت الأحوال والظروف، كما نَعَتَ اللهُ المصلينَ بقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 9]، وقوله: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)[الْمَعَارِجِ: 23]، قال بعض العلماء: "إن الصبر على المحافَظة على الصلوات وأدائها في أوقاتها، والمحافَظة على بر الوالدين، أمرٌ لازمٌ متكررٌ دائمٌ، لا يصبر على مراقَبة أمر الله فيه إلا الصِّدِّيقون" انتهى كلامهم.

 

ولا عجبَ أن يهتم المرء بصلاته، ويحرص على صلاحها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ أولَ ما يُحاسَب به العبدُ يومَ القيامة صلاتُه، فإن صَلُحَتْ فقد أفلَح وأنجَح، وإن فسَدَت فقد خاب وخَسِرَ" الحديثَ، (رواه أبو داود، والترمذي والنسائي).

 

أُمَّةَ الإسلامِ: إن الله -تعالى- قد حثَّنا على المحافَظة على الصلاة فقال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)[الْبَقَرَةِ: 238]، والرسول -صلى الله عليه وسلم- حذَّرَنا مِنْ تَرْكِها بقوله: "ولا تَتْرُكْ صلاةً مكتوبةً متعمِّدًا؛ فمن ترَكَها متعمِّدًا فقد بَرِئَتْ منه الذمةُ" (رواه ابن ماجه)، بل حتى وهو على فراش الموت -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- كان يوصي بها قائِلًا: "الصلاةَ الصلاةَ" أي: الزَمُوا الصلاةَ وحافِظُوا عليها، واحذروا تركَها أو عدم الإتيان بها على وجهها الكامل.

 

ومع ثبوت هذه الوصايا الغالية والمواعظ البليغة إلا أنه قد كَثُرَ في زماننا مَنْ غفَل عن ذلك، وهان قدرُ الصلاة عنده، وخفَّ ميزانُها لديه، ولم تكن ضمنَ اهتماماته وأولوياته، فزَهِدَ فيها، فهَجَرَها بالكلية، واستهان بعقوبة تركها، أو تساهَل في المواظَبة عليها، والمثابَرة على أدائها، قال تعالى ذامًّا لقوم بدَّلوا ما أُمِرُوا به: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مَرْيَمَ: 59]، وغيٌّ: اسمُ وادٍ من أودية جهنم، كما ورَد عن جماعة من السلف، وهذا نصٌّ في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يُبوق بها صاحِبُها، ولا خلافَ في ذلك.

 

عبادَ اللهِ: ما بالُ أقوام ينتسبون إلى الإسلام وقد هجروا الصلاةَ ورضوا بأن يحيَوْا حياةً لا قيمةَ لها، كيف تطيب نفوسُهم ويهنأ بالُهم وهم لا يصلون؟ كيف يعتقدون أن بعد الحياة موتًا، وأن بعد الموت بعثًا وهم لا يصلون؟ إن الإنسان بلا صلاة جسد بلا روح، وحياة بلا معنى، وإن تارك الصلاة يَحْسَب أن ما يرتكبه هَيِّنًا، وهو عند الله عظيم، قال ابن القيم -رحمه الله-: "لا يختلف المسلمون أن تَرْكَ الصلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عن الله أعظم من إثم قتل النفس وأَخْذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرِّض لعقوبة الله وسخطه وخزيه، في الدنيا والآخرة" انتهى كلامه رحمه الله.

 

وإِنْ تَعْجَبْ كذلك فاعجَبْ لحال بعض الناس أنهم قد يصومون ولا يصلون، ويحجون ولا يصلون، تلك -واللهِ- من المفارَقات العجيبة، فيا من يريد الخلاصَ لنفسه: الصلاةَ، يا من يريد النجاة من النار: الصلاةَ، ويا من هجرتَ الصلاةَ أُخاطِبُ فيكَ عقلَكَ، أخاطب فيكَ روحكَ، أخاطب فيكَ مشاعِرَكَ، إني لكَ ناصح، وعليكَ مشفِقٌ، فأدرِكْ نفسَكَ، وَالْحَقْ بركب العائدين التائبين واهرع للانضمام لقوافل المصلين، واهرع للانضمام لقوافل المصلين قبل أن يفاجئك الموتُ، ويدهمك الأَجَلُ، وتَلْقَى اللهَ ولا قدرَ للإسلام عندكَ، فإن قَدْرَ الإسلامِ في قلبك كقدرِ الصلاةِ في قلبِكَ؛ أمَا سألتَ نفسَكَ: ما سببُ هذه الشرور والآفات التي تصيبكَ؟ أما سألتَ نفسَكَ: ما هذه الضائقة التي تلازِم صدرَكَ؟ أما سألتَ نفسَكَ: ما الذي كدَّر صفوَ دنياكَ؟ وجعل القلوب تشناكَ؟ إن الذي لا يصلي لم يقدِّر اللهَ حقَّ قدره، وهوى في هوة عظيمة لا مخرجَ له منها إلا بتوبة نصوح، ووقع في وادٍ سحيق من الهلاك، تتناهَشُه الأدواءُ والنكباتُ، ويُخشى عليه من سوء الخاتمة، إلا أن يتداركه اللهُ بلطفه، فيعود إلى جادَّة الحق.

 

إن الذي لا يصلي يعيش في الظلام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "والصلاةُ نورٌ"، فكيف يجد النورَ مَنْ لا يصلي؟!

 

يا عبادَ اللهِ: كيف نترك الصلاةَ وتاركُ الصلاةِ قد ابتعد عن مولاه، وأعرَضَ عمَّا فيه نفعُه وهداه، واتَّبَع شيطانَه وهواه؟ فطُرِدَ من رحمة الله.

 

يا عباد الله: كيف نترك الصلاةَ وأهل النار المجرمون عندما يُسأَلون: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)[الْمُدَّثِّرِ: 42]، لم يبدأوا بشيء غير ترك الصلاة، (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)[الْمُدَّثِّرِ: 43]، إنهم ممقوتون، فعندما يؤمَرون بالصلاة التي هي أشرف العبادات يمتنعون من ذلك، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ)[الْمُرْسَلَاتِ: 48].

 

يا عبادَ اللهِ: كيف نترك الصلاةَ وتاركُ الصلاة قد نقَض العهدَ وأساء القصدَ، وقد قال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَنْ ترَكَها فقد كَفرَ" (رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربع).

 

يا عبادَ اللهِ: كيف نترك الصلاةَ واللهُ -تعالى- يقول: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45]، فكيف بالعبد الذي لا يصلي؟ كيف سينتهي عن فعل القبائح والرذائل والموبقات، وليس لديه وازعٌ يمنعه من ذلك.

 

يا عبادَ اللهِ: كيف نترك الصلاةَ وهي من أعظم الأسباب الشرعية لدرء البلاء، ورفع البأس، ودفع الفتن، فإن قال قائل: حسبي ما ذكرتَ عن حال تارك الصلاة، لكن ما السبيل كي أعود بعدما عرفتُ أنني قد بعدتُ عن الله، بتركي صلاتي وتهاوني في أدائها؟ فالجواب عن ذلك أن يقال: إن الأمر يسير عبدَ الله؛ فإن أحسنتَ فيما بقي كُتِبَ لكَ ما مضى وما بقي، فما عليكَ إلا أن تبادِر بالتوبة إلى الله، وتُقبِل على مولاك؛ فإنه يتَقَبَّلُكَ، فسارِعْ إلى إقام الصلاة، ولا تيأس من حالك أرشدَكَ اللهُ، فكم من تائهٍ ضالٍّ رجَع إلى الله، فتقبَّلَه بقبول حَسَن، وأحسَن عاقبتَه، وأكرَم مثواه.

 

إنها فرصتُكَ اليوم لتراجع نفسَكَ، وتستدرك قبل فوات الأوان وحصول الندم، وقل بعزيمة صادقة: ها أنا ذا يا رب قد عدتُ إليكَ فاقبلني، ها أنا ذا يا رب قد عدتُ إليكَ فاغفر لي، ها أنا ذا يا رب قد عدتُ إليكَ فتُبْ عليَّ وثبِّتْني، وخُذْ هذه البشارةَ من رب الورى، لمن راجَع طاعةَ اللهِ وأناب إلى ما يرضاه؛ إذ يقول جل في علاه: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الْفُرْقَانِ: 70]، إنكَ إن أنبتَ ورجعتَ إلى الصلاة ربحتَ ربحًا كبيرًا، ونلتَ فوزًا عظيمًا، يمحو الله خطاياكَ، ويبدِّل سيئاتِكَ حسناتٍ، فما أعظمَها من هِبَات، ولا يقتصر الأمرُ على ذلك، بل سَلِ الذين تابوا وعادوا إلى ربهم وحافَظُوا على صلاتهم كيف تبدَّلَت حياتُهم، وكيف صَفَتْ قلوبُهم وانقشعت الكآبةُ عن نفوسهم، وذهبَت هموهُم وغمومُهم، والكربُ والضيقُ الذي كان يلازمهم، وكيف شعروا برضا النفس وانشراح الصدر.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي شرع لعباده أفضل شرائع الدين، وجعَل الصلاة كتابًا موقوتًا على المؤمنين، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، الصادقُ الوعد الأمين، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبارَكَ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: إن الصلاة هي حصن المسلم، وملجؤه الذي يأوي إليه، والعروة الوثقى التي يعتصم بها، والحبل الممدود بينَه وبينَ ربه الذي يتعلَّق به، وهي غذاء الروح، وبَسْلَم الجروح، ودواء النفوس، وإغاثة الملهوف، وواجِبٌ عليكم -أيها المصلون وأنتم تنعمون بهذه النعمة من حرصكم على صلاتكم- بأن تقيموها كما أمَر ربُّكم؛ أن تكونوا دعاةَ خيرٍ ومشاعِلَ هدايةٍ للناس، فتأمروا بالصلاة بإبلاغ أولئك الذين هجروا الصلاةَ وأضاعوها، وتُذَكِّرُوهم بما هم عليه من خطر عظيم، استشعِروا حالَهم ومآلَهم، وأشفِقُوا عليهم، وارجوا لهم الخيرَ، فانصحوهم وجادِلُوهم، وعِظُوهم موعظةً مُوقِظةً، لعلهم يفيقون، لعلهم يرجعون، وليكن شعاركم ما قاله المصلحون: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الْأَعْرَافِ: 164].

 

ما أَجْمَلَ أن يحرص المصلُّون ممَّن تبلغهم هذه الكلماتُ أن يذكِّروا بها مَنْ لا يصلي ممن حولهم، من قرابتهم، من جيرانهم، من أصحابهم، لعلهم يؤوبون ويعودون إلى رشدهم، ويُنِيبُونَ إلى ربهم فيسعدون، ومن النار يُنقَذون، قال أبو خلَّاد -رحمه الله-: "ما من قوم فيهم مَنْ يتهاون بالصلاة ولا يأخذون على يديه إلا كان أول عقوبتهم أن ينقص من أرزاقهم" انتهى كلامه رحمه الله.

 

فواجبُ المسلمِ تجاهَ شعيرة الصلاة لا يقتصر على أن يصلي ويحافظ عليها وحسبُ، بل عليه أن يكون داعيةً إلى الصلاة، ينصح لهذا ويذكِّر هذا، ويُرشِد هذا، كما قال الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[طه: 132]، وكما وصَف اللهُ نبيَّه إسماعيلَ -عليه السلام-: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)[مَرْيَمَ: 55]، فاجتَهِدوا إخوةَ الإسلام في استثمار كل وسيلة نافعة لتذكِّروا غيرَكم بالصلاة، سواء بالنصيحة المباشرة شفهيًّا، أو بالكتابة، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فما أجدَر أن تُسهِموا في توعية الناس، وتكونوا ممَّن قال الله فيهم: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 104].

 

ألَا وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم -جل وعلا-، فقال تعالى قولًا كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على نبينا محمد، وعلى ذريته وآله الطيبين، وأزواجه وخلفائه الميامين، وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، وانصر عبادَكَ الموحدينَ، ودَمِّرْ أعداءَكَ أعداءَ الدينِ، واجعل هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا رخاءً وسعةً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخُذْ بناصيته للبِرِّ والتقوى، اللهم كُنْ لإخواننا المستضعفين والمجاهدين في سبيلك، والمرابطينَ على الثغور وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، اللهم اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، اللهم اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، ربَّنا وتقبل دعاءنا، والحمد لله رب العالمين.

 

 

المرفقات

الصلاة حصن وملاذ

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات