الصلاة جامعة

عاصم محمد الخضيري

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/أهمية الصلاة وفضلها2/قلة الخشوع في الصلاة في آخر الزمان 3/أهمية الخشوع في الصلاة 4/السر في عدم انتفاع الناس بصلاتهم 5/مفاسد عدم الخشوع في الصلاة 6/الخشوع دأب العلماء الربانيين(نماذج رائعة) 7/مظاهر عدم الخشوع في الصلاة 8/الوسائل المعينة على الخشوع في الصلاة 9/حكم تكرار صلاة الجماعة في مسجد واحد، وصور ذلك

اقتباس

سيقدر لك أن تزور مساجدَ قومٍ تلعنهم مساجدهم، وسيقدر لك أن ترى صلوات قوم تلعنهم صلواتهم، لا خشوع ولا خضوع، ولا دموع، ولا خنوع، يشري أحدهم بها ويبيع، شروعٌ ولا شروعٌ، شرودٌ وإباقٌ ونزوعُ، صلواتٌ أم هنَّ عقد صِلاتٍ، أم تراهُن صفقة وارتجاع؟!

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله حمد الرضا، حمدا كثيرا طيبا، حمدا عليًّا أرحبا، حمدا لمن خشعت له الأصوات في العرصات

حمدا لمن خشعت له السبع الطباق جميعها *** والأرض شاهدة على الإخبات

والناس خُشَّعُ والجموع مواثل *** ورؤوسهم منكوسة النظرات

وفؤادهم كالطير من فزع *** فذا يبكي وذا يستبطن الحسرات

والناس في ساحاتها قد هرولوا *** شربوا دموعهم على الأنات

يسعون كالموج العنيف، قلوبهم مفؤودة السكنات والحركات

يرجون عفوك يا عفوا راحما *** فأفض عليهم بارد الرحمات

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب كل شيء ومليكه، وأشهد أن محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله

صلى عليه الله ما حيا الحياء *** أرضا فأخصب محلها والأجدب

يا رب صل على النبي محمد *** ما فاه في ذكراه ثغر طيب

ما أورقت ثمرات حبٍّ باسق *** في ذكره وتأدب المتأدب

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحـج: 1-2].

 

الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، تجمع معاقد القلوب والأرواح والأبدان، تسري صيحات الأذان أن: "حي على الصلاة" يكبر المؤذن فيكبر الحجر والشجر، ويكبر خُلص البشر: الله أكبر من كل شيء.

 

الله أكبر من شُغلٍ يفرقنا *** قوم يجمِّعنا تأليه رحمن

الله أكبر مما ضاع من زمن *** قد كان فيه لغير الله إذعاني

 

الصلاة جامعة، لِمَا تفَّرَّقَ من قلوبنا، وضاع من أرواحنا، وتاه من أبداننا.

 

الصلاة جامعة، من لم تَجْمع الصلاة فيه قلبه وروحه وخشوعه، فليست له جامعة، ولا عن الفحشاء مانعة.

 

مساكين هم أولئك الذين لا تجمعُ الصلاةُ ما تفرَّقَ منهم، ولا تؤلف منهم شتات همِّهم، مَسَاكِيْنُ هم، يؤدون الصلاة كالسواري الصامتة، والقبور الساكنة، قلوبهم أودية، وهمومهم شعاب، سمعوا بالخشوع، وما عرفوه، أرواحهم بمحٍلَّة وجسومهم، بمحِلَّة، والهم دون مكان، ينادون بلالا: "أرحنا عنها يا بلال".

 

لو أنصفت ألسنتهم لنطقت: الهم أكبر يستبدلون بها: الله أكبر، يُصلُّون ولا يصلُّون، يومؤون رؤوسهم بها؛ كيهودي على حائط براق، إطراقهم كإطراقة الغراب، ونقرهم كنقرة الديوك في الزرائب.

 

كالأموات هم، تصعد أرواحهم، وتبقى أجسادهم، لا فرق إلا الدودُ في البطون، وكم قائم في الصلاة، والدود مستوطن في روحه، ميِّت، وقلبه يضطرب، عصفت به النقائض، فاستحكمت النواقض.

 

أصلاة بالله أم طقس دين ** أم ضحية قرقف خندريس؟!

يقف الناس بالصلاة وقد سا *** فرت الجسمُ عن سواء النفوس

ربما تحضر الصلاةَ جسومٌ *** حقُّ أصحابها بقاع الرموس

 

أول شيء يرتفع من هذه الأمة الخشوعُ في الصلاة، وآخر ما ينزل على بعض بنيها الخشوع في الصلاة.

 

سيقدر لك أن تزور مساجدَ قومٍ تلعنهم مساجدهم، وسيقدر لك أن ترى صلوات قوم، تلعنهم صلواتهم، لا خشوع ولا خضوع، ولا دموع، ولا خنوع، يشري أحدهم بها ويبيع، شروعٌ ولا شروعٌ، شرودٌ وإباقٌ ونزوعُ، صلواتٌ أم هنَّ عقد صِلاتٍ، أم تراهُن صفقة وارتجاع؟!

 

سكارى بينهم قوم سكارى *** ولا كأس هناك ولا شرابُ

 

بالله أسمعت حين قرأ بعضهم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ)[النساء: 43]؟!

 

قال: "كم من مصلٍّ لم يشرب خمرا، هو في صلاته لا يعلم ما يقول، وقد أسكرته الدنيا بهمومها".

 

أم بالله قرأت ما يقول الغزالي: "إن الرجل ليسجد السجدة يظن أنها تقربه إلى الله –عز وجل-، ووالله لو وُزِّع ذنبُ هذه السجدة على أهل بلدته لهلكوا، يسجد برأسه بين يدي مولاه، وهو منشغل باللهو والمعاصي والشهوات وحب الدنيا، فأي سجدة هذه؟!"

 

يا أيها اللاهون في صلواتهم *** أنصبتم الأذهانَ والأقداما

يا سابحون بها بوحل من هوىً ** غرقاً وما أبصرتم القمقاما؟

فدعوا الصلاة فلا تضع أوقاتكم *** وابغوا لكم من غيرهن مراما

خشعوا وما خشعوا ولو خشعوا بها *** لرأيتهم للمتقين أماما

يا ضيعة الأعمار فيما فرطوا *** قوم صَلاتُهُمُ تفيض حراما

 

يا نقمة الأعمار مما فرطوا فصلاتهم حضَّت على الفحشاء، هي الفريضة الغائبة، هو الشعيرة المنسية، هو الخشوع والخشوع والخشوع.

 

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 1- 2].

 

قد أفلحوا -والله-.

 

إن في الصلاة لذة من لم يذقها لم يذق لذة الجنة، ومن ذاقها فقد ذاقها، يقلقني حديث كهذا، ونحن نعلم أن حذيفةَ -رضي الله عنه- يقول: "أولُ ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة".

 

وفقدان هذه يجر تلك.

 

إن أعظم ركن بعد الشهادتين هو الصلاة، وأعظم ركن روحي فيها هو الخشوع.

 

إنك لو حدثت أحدهم عن فضل الصلاة ومكانتها في الإسلام، لأقبل إليك سابقا لك يسرد النصوص مع النصوص.

 

تسأله عن عمود الدين، فيجيبك: الصلاة، وتسأله عن عمود الصلاة فلا يجيب، ليس غريبا أن تفرز هذه المجتمعاتُ الإسلامية قبل غيرها حالات الاختناق النفسي، وضحايا الاكتئاب، والقلق المستفحل، فصلاة بلا روح تفعل أكثر من هذا.

 

في حين أن كثيرا من الناس لم تنههم صلواتهم عن الفحشاء، بل أمرتهم بها، وفي حين أن الأمراض النفسية قد التهمت الكثير إلا من رحم ربك، تجد أن حل الخشوع في الصلاة والاستغراق فيها، هو آخر الحلول، مع أنه أنجع الحلول.

 

يستفزك حاضرك مع الصلاة وخشوعِها، ثم يستفزك في المقابل أن تسمع عن بعض الخاشعين المفلحين في الصلاة.

 

يستفزك هذا الواقع الذي ابتلع راحاتنا في غير الخشوع، ثم يستفزك أن تسمع عن بعض من جعلت قرة أعينهم في الصلاة، كيف نالوها وحرمنا منها، كثيرة أخبارهم، مجلوةٌ أحاديثهم، وما نحن بالذين تخفى علينا أحوالنا وأحوالهم، فأين الخشوع؟!

 

إنه –والله- ليس استفزازا لمشاعر الفضلاء، ولا حماسةً في غير موضع، بل والله إنها حرقةً عتية، وجمرة لاهبة، ولوعة غضبى، وصرخة مبكية.

 

إنها –والله- طامة دينية، لا يكاد يسلم منها مكبرٌ لله؛ لمساجد زُخرفت جنباتها، وتهدَّم خشوع مرتاديها، لمساجد لا يذكر فيها اسم الله كثيرا، بل يهجر كثيرا، لمساجد تُذكر فيها الأهواء، ويسري في جنباتها الفراغ الروحي، لمساجد اكتمل فيها كل شيء إلا الخشوع في الصلاة، لمساجد ضجت قائلة: "في حمى البيت ومن حول الحرم".

 

آه -يا الله- من أمتنا لم تزل تجتنب الدرب الوسيع، صلت الفرض صلاة جمعت كل ما في نفسها إلا الخشوع.

 

تخجلنا صلواتنا، تخجلنا فرائضنا ونوافلنا، يخجلنا خشوعنا، تخجلنا علائقنا بربنا، تخجلنا صلوات أبناءنا وهم يسابقون سباقهم في الصلاة، وهمُّ أحدهم أن لا يلومه أبوه: هل صلى، لا على كيف صلى؟ وكيف صلى؟! يخجلنا ذاك!

 

نعم -والله- نخجل من صلاة *** ندنس في علائقها الخشوعا

 

نعم –والله- تخجلنا صلاةٌ *** نبوء بأجرها الإثم الشنيعا

 

نعم –والله- حتى وأبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: "إن الرجل ليصلي ستين سنة ولا تقبل منه صلاة" فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا قيامها ولا خشوعها".

 

بالله! أسمعت نقمة تستخف بحاضرك من مثل قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إن الرجل ليشيب في الإسلام ولم يكمل لله ركعةَّ واحدة، قيل: كيف يا أمير المؤمنين؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها"؟!

 

أوْ سمعت نقمة تستخف به من مثل قول أحمد -رحمه الله-: "يأتي على الناس زمان يصلون ولا يصلون"؟!

 

أفتظن أن زمان هذا لم يأت بعد؟!

 

أتى هذا الزمان فقل سلاما *** لعصر فيه نرتشف الدموعا

فيا رب العباد أقل عثارا *** ولا تحلل بنا الغضب الوجيعا

 

يا أمة الرعيل الأول: كانت عائشة -رضي الله عنها- تجد زوجها عليه الصلاة والسلام طول الليل يصلي فتسأله: يا رسول الله أما آن أن تنام؟! فيقول لها: "مضى زمن النوم".

 

بل كان أصحاب الرعيل الأول يقولون: "كنا نسمع لجوف النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي أزيز كأزيز المرجل من البكاء؟"

 

لقد جعلت قرة عينه بها.

 

عليك صلاة الله ما ذر شارق *** تجود عليه ذاريات السحائب

 

يولد مولودنا على الإسلام، ويكبر ويشيب، وما عاتب نفسه على صلاة؛ وابن مسعود يقول: "لم يكن بين إسلامنا وبين عتاب الله لنا على الخشوع إلا أربعُ سنوات، فعاتبنا الله -تعالى- مرة فبكينا لقلة خشوعنا لمعاتبة الله لنا، فكنا نخرج ويعاتب بعضُنا بعضا نقول: ألم تسمع قول الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) [الحديد: 16]؟!

 

فيسقط الرجل منا يبكي على عتاب الله لنا.

 

ألا من عتاب؟!

 

عاتبوا أنفسكم، قبل أن تجدوا أنفسكم ولا من عاتب أو عتاب، عاتبوها قبل أن تقفوا، يموت العتاب ولات عتاب.

 

رحم الله امرءا كانت صلاته حياتَه، فحيى بصلاته وخشوعها، واستعتب نفسه فاستعتبت.

 

رحم الله امرءا، استعد للقاء الله في صلاته، ليُعد الله للقائه أطيب النزل وكريم الأجر.

 

رحم الله امرءا، سمع عتاب الله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)[الحديد: 16]؟! فقال: قد آن يارب قد آن يارب.

 

رحم الله امرءا نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

"إن الرجل ليصلي الصلاة ولعله لا يكون له منها إلا عشرها أو تسعها أو ثمنها أو سبعها أو سدسها حتى أتى على الصلاة".

 

الخشوع دأب العلماء الربانيين؛ دُعي محدث الأمة الأول محمدُ بنُ إسماعيل البخاري -رحمه الله- إلى بستان بعض أصحابه، فلما حضرت صلاة الظهر صلى بالقوم، ثم قام ليصلي الراتبة، فأطال القيام والصلاة، فلما فرغ من صلاته رفع ذيل قميصه، وقال لبعض الحاضرين: انظر هل ترى تحت قميصي شيئا؟ فنظروا فإذا زنبور قد لسعه في ستةَ عشر، أو سبعة عشر، موضعا من جسمه، وقد تورم من ذلك جسده، وظهرت آثار ذلك، فقال له بعضهم: لماذا لم تقطع صلاتك أول ما لسعك؟ فقال البخاري -رحمه الله-: "لقد كنت في سورة من القرآن، فأحببت أن أتمها".

 

الخشوع سمة الصديقين، سمة الرعيل الأول حتى وهم يبصرون الموت، في طرقاتهم، والموت لا يمشي مع التيار.

 

من كان سيصدق لولا الأحاديث الحَسَنة الحسان: أن عبادَ بنَ بِشر -رضي الله عنه- كان مع النبي -عليه الصلاة والسلام- في إحدى الغزوات، وعندما رجعوا إلى المدينة خيم بأصحابه ليلاً في أحد الشعاب، وكلف عبادَ بن بشر وعمارَ بن ياسر بالحراسة، ولأن الليل كان طويلاً وهادئاً، فقد اقترح عبادَ على عمار أن يقسما الليل بينهما، فنام عمار وبقي عباد مصلياً.

 

وفي هدأة الليل اشتاق الحبيب إلى لقاء حبيبه، ها هو عباد -رضي الله عنه- يشتاق إلى القيام وقراءة القرآن، وكان يحب أن يصلي، وأن يرتل في صلاته، يستمتع بذلك، وفيما هو مستغرق في صلاته ومستمتع بها أتى أحد شرار المشركين، فرماه بسهم فأصابه فانتزع عبادٌ السهم عن جسده، ثم استمر في صلاته فرماه المشرك بسهم آخر، فانتزعه أيضاً ورماه، ثم رماه المشرك بسهم ثالث، فانتزعه أيضاً ورماه، ولكنه سقط من الإعياء فزحف قريباً من صاحبه عمار، فأيقظه قائلاً: لقد أثخنتني الجراح، فلما رآها الرجل ولى هارباً، ثم قال عمار لعباد: حسبك الله هلا أيقظتني عند أول سهم رماك به؟! فقال عباد: لقد كنت في سورة أقرأُها، فما أحببت أن أقطعها حتى أفرغَ منها، وأيم الله لولا خوفي من أن أُضيع ثغرًا أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظه لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها.

 

شربوا الغرام مجنِّحا فتراكضوا*** والنبل ظللهم بها مثل المطر

لا يبصرون الموت إلا أنه *** عجز الحبيب عن اللقاء المنتظر

 

أم كنا سنصدق ونحن نسمع عن هذه الأساطير عن قوم سافروا إلى الملكوت والموت ينشر رائحته في الطرقات؟!

 

أم كنا سنصدق: أن ابن الزبير -رضي الله عنه- والحجاج يُلح عليه بالخروج من مكة، ثم ينصب المجانيق والمراجيم حول الكعبة، وهو قائم يصلي لا يأبه أيَّ شظية باتت تعرج بروحه، وما علم الطغاة أن مجانيق السماء أعتى من مجانيق الأرض، دعهم ينصبون وينصبون فما بوسع الزبير إلا أن يقول:

 

ضع في يدي القيد ألهب أضلعي *** بالموت ضع عنقي على السكين

لن تستطيع حصار خشوعي ساعةً *** أو نزع إيماني ونور يقيني

فالنور في قلبي وقلبي في يديْ ربّي *** وربّي ناصري ومعيني

 

يقول ابن المنكدر -رحمه الله-: "رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة"

 

الريح وحجر المنجنيق يقع هاهنا وهاهنا وهو لا يبالي.

 

وقال مجاهد: "رأيت ابن الزبير وهو قائم في الصلاة كأنه عود من الخشوع".

 

أنفسك هذه نفسٌ ترى *** أم أنها الفولاذ والحجر

وروحك هذه روح ترى *** أم أنها الأنواء والقمر

 

لهم نفوس إلى العلياء ما تعبت *** إلا لتبلغ منها كلَّ راحات!

 

 أم كنا سنصدق أن جعفر بن زيد -رحمه الله- يقول: خرجنا في غزاة وفي الجيش صلة بن أشْيم العدوي -رحمه الله- قال: فترك الناسَ بعد العتمة -أي بعد العشاء- ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس، حتى إذا نام الجيشُ كلَّه وثب صِلةُ فدخل غيضة، وهي الشجر الكثيف الملتف على بعضه، قال: فدخلت في أثره، فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح الصلاة، وبينما هو يصلي إذا جاء أسد عظيم فدنا منه وهو يصلي، ففزعت من زئير الأسد فصعدت إلى شجرة قريبة.

 

أما صلة فو الله ما التفت إليه، ولا خاف من زئيره، ولا بالى به، ثم سجد صلة فاقترب الأسد منه، فقلت: الآن يفترسه، فأخذ الأسد يدور حوله ولم يصبه بأي سوء، ثم لما فرغ صلة من صلاته وسلم، التفت إلى الأسد، وقال: أيها السبع اطلب رزقك في مكان آخر، فولى الأسد وله زئير تتصدع منه الجبال، فما زال صلة يصلي حتى إذا قرب الفجر، جلس فحمد محامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله، ثم قال: "اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، أوَ مثلي يجترئ أن يسألك الجنة" ثم رجع -رحمه الله- إلى فراشه- ليوهم الجيش أنه ظل طول الليل نائماً- فأصبح وكأنه بات على الحشايا -وهي الفرش الوثيرة الناعمة- ورجعت إلى فراشي فأصبحت وبي من الكسل والخمول مالا أصفه.

 

فسافر إلى العلياء إن مزارها *** قريبٌ ولكن دون ذاك عزائم

 

قوم سعوا لخشوعهم، فسعى خشوعهم بهم نحو السما.

 

يخيل إلى الأجيال أنها مسألة جلى، وأن العيش مع الخشوع ضربٌ من الخيال، كلا بل يسير، فهل من مدكر؟

 

إنه العيش مع الله، إن العيش مع الله في الصلاة منسأة في الأجل، فما بال هذا الليثِ لا يفترس ذلك العابد، إلا أنه عاش مع الله، فكفاه شر هذه الميتتات، وشر طوارق الليل.

 

إنه نداء للأجيال: عيشوا في صلاتكم تعيشوا خارجها.

 

من كانت الصلاة مستقرَّ همومه، وصفقاتِه وتجاراتِه وأرباحِه في الدنيا، ضيق الله عليه دنياه، وكانت صلاتُه حجةً عليه، ومن كانت مستقرَّ صفقاته وأرباحِه مع الله، أتته الدنيا وهي راغمة: (وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) [آل عمران: 198].

 

كيف يستقيم خشوع أحدهم وشماغُه، أو ثوبُه، أو هندامه، هي أركان صلاته؟!

 

كيف يستقيم خشوع أحدهم، وقد أتى متزينا للصلاة ببردة، أو غترة، أو عقال، ثم تأخذ بخشوعه؟!

 

إن الله غني عن زينة يُسقط بها المصلي فرضا.

 

 حي على الخشوع، الصلاة جامعة، وإلا فليست عن الفحشاء مانعة.

 

أوقدوا خشوعكم بمعرفة الله، بالخوف منه، بدعائه، بالإلحاح له، بقدره حق قدره، باستحضار عظمته.

 

والله ما استحضر عبد عظمة الله، إلا ألهمه معانيَ خاشعة، لا تستقر بقلب أحد.

 

سُئل حاتم الأصم -رحمه الله-: "كيف تخشع في صلاتك؟ قال: أقوم فأكبر للصلاة، وأتخيل الكعبة أمام عيني، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني والنار عن شمالي، وملكَ الموت من ورائي، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتأمل صلاتي، وأظنُّها آخر صلاة لي، فأكبر الله بتعظيم، وأقرأ وأتدبر، وأركع بخضوع، وأسجد بخضوع، وأجعل في صلاتي الخوف من الله، والرجاء في رحمته، ثم أسلم ولا أدري أقبلت أم لا؟!"

 

أوقدوا خشوعكم بمعرفة أحوال الخاشعين، من سيد الخاشعين إلى زماننا هذا؟!

 

أوقدوه بمعرفة ما أوجب الله عند الصلاة، اصنعوه بالسكينة قبلها، والطمأنينة فيها؛ يقول عليه الصلاة والسلام: "ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله".

 

ويقول عليه الصلاة والسلام: "من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر".

 

ولم يقل: من صلى كما شاء، وتوضأ كما اشتهى!

 

وقد حسَّن الألباني حديثا عنه عليه الصلاة والسلام: أنه رأى رجلا يسيء فيه صلاته، فقال: "لو مات هذا على حاله هذه، مات على غير ملة محمد".

 

و"إن أسرق الناس الذي يسرق من صلاته".

 

أوقدوا خشوعكم بتذكر الموت دائماً ففي صحيح الجامع: "اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته، فحري أن يحسِّن صلاته".

 

أوقدوا خشوعكم بدعائكم؛ كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي عصبي".

 

"اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يستجاب لها".

 

الصلاة جامعة، الصلاة جامعة.

 

وهاهنا نازلة نزلت بالناس، وبأهل هذه البلدة الطيب أهلها، تُذهب الخشوع، وتفرق الجموع، وتقضي على الصف الواحد، والألفة المجتمعة، أصحابها ليس لهم مقام، ولا لخشوعهم خطام، لا يأوون إلى مسجد واحد، ولا يعرفهم محراب.

 

ليست لهم جماعة معروفة، ولا مسجدُ حيٍّ يألفونه، يصلون كيف يشتهون، وينامون كيف يشتهون، لا يألفون ولا يُألفون، إن استيقظوا قبل خروج الوقت صلوا بها، وإلا أكملوا رقادهم!.

 

أما إني يا رجال الأمة أقصدُ الذين أنكرتْهم مساجدُهم، وأوقاتُ صلواتِهم،  فاتخذوا موانئ المحطاتِ بديلا، ومساجدَ المواقيت عِوضا.

 

صار أداء الفريضة ثقيلا عليهم، فلا أذانُ الحي يوقظهم، ولا صوتُ الإقامة يفزعهم.

 

يوقظه أهل بيته، فينام متحججا بأنه سيصلي في هذه المساجد، وقد يدرك الوقت، وقد لا يدركه، لا انتظام، ولا نظام.

 

مساجدٌ أشبهت قرى النمل، فسرب خارج، وسرب داخل، كأنهم في عتباتها يلقون حِمْلا ثقيلا، يستبطؤون الدخول، ويتلهفون للخروج.

 

مستَنكَرٌ من أهل حيِّه، وغريبٌ عند جيرانه، إن سئل عنه فمجهول، وإن طلُب أو طَلب الزواج، فغير معروف، أيصلي أم لا يصلي؟!

 

شباب شكلوا من هذه العمل ظاهرة، وفي صلواتهم أمرا دائما، وليس عارضا يسيرا، أو حاجةً لحوحا.

 

وإننا في هذا المقام نختصر بعض الوقفات عنها:

 

أولا: أن هذه الصورة التي يفعلها الكثير، وهي أن يجعل دأبه للصلاة في هذه المساجد، ويتخذها عادة له، لم تكن موجودة في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، والصلاة وأحوالها عبادة، والعبادات توقيفية، وتوصيفها الشرعي هو من مثل ما ذكره الشيخ الطريفي -حفظه الله ونفع به وبالجميع- إذ يقول:

 

"الحالة الأولى: إذا كانت إقامة الجماعة الثانية من غير عذر، يعمد إلى ترتيبها من غير عذر، فهو مما لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه، وجاء عند ابن أبي شيبة في المصنف عن الحسن البصري -رضي الله عنه- قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا فاتتهم الصلاة صلوا فرادى".

 

وأما الحالة الثانية: إذا كان الإتيان للصلاة بعذر، فهذا يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، في حديث أبي بكر: من يتصدق على هذا.

 

أما أن تعقد الجماعة الثانية هكذا من غير عذر في المسجد، حتى يتأخر الناس عن الصلاة، ويعرف عن بعض المساجد أنه يوجد بها جماعة ثانية، فهو مما لا أعلمه يثبت عن الصحابة، وهي بدعة، في مثل هذه الصورة"[انتهى كلامه].

 

ثانيا: هذه المساجد يكثر فيها تضييع الأوقات فيها لمن دأب في الصلاة بها، يقول أحدهم: ضاعت صلاة أبنائي، بعدما سلكوا طريقها، فتارة يصلون أول الوقت، وتارة آخره، وتارة يدركون، وتارة لا يدركون.

 

ثالثا: تحري الصلاة في هذه المساجد هو مظنة للكسل والتهاون والإخلال بسكينة الصلاة، والصف الأول، وإدراكِ تكبيرة الإحرام.

 

رابعا: الصلاة في هذه المساجد مظنة لصلاة غير العدول بهم، فكم آت إلى هذه المساجد، ليجد رجلا قد أمَّه ليس من أصحاب المروءات، أو مجاهرا بمعصيته، أو مسبلا إزاره، مع وجود الخير في قلوبهم، ولا نرتاب في ذاك؟

 

ولكن يا أيها المصلي: أيهما أحب إليك، رجلا تعرفه بعدله واستقامته وصلاحه تحسبه ذاك والله حسيبه، أم رجلا قد يخل بأصول كهذا، وقد يؤدي أركانها وواجباتِها وأركانها وطمأنينتها، وقد لا يكون ذاك، لا يستوون.

 

الصلاة جامعة: من لم يُهيأ أسباب الخشوع في صلاته أو مسجده، فلن تجمع الصلاة روحه، ولن يعرف للذة الصلاة سبيلا.

 

اللهم إنه خشعت لك أبصارنا وأسماعنا وعظامنا وأعصابنا، فارزقنا خشوعا في قلوبنا، اللهم ارزقنا خشوعا في قلوبنا.

 

اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يستجاب لها.

 

اللهم صل وسلم....

 

 

 

المرفقات

جامعة1

جامعة - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات