عناصر الخطبة
1/ استمرار الصراع بين الحق والباطل 2/ سُنة المدافعة بين الحق والباطل 3/ الباطل هو الذي يبدأ في المواجهة 4/ خصائص أهل الحق 5/ صفات قادة أهل الحق 6/ بلايا استنقاص العلماء 7/ كيف نحافظ على الوحدة واللحمة الوطنية؟ 8/ أعظم دعائمِ هذه الوحدة الوطنيةاقتباس
إن الصراعَ بين الحق والباطل لم يُرفع بموت الرسل عليهم الصلاة والسلام، بل هو سنةٌ ماضية باقية ما بقي على وجه الأرض طائفة على الحق ظاهرة. إن سُنة المدافعة بين الحق والباطل لا تعني أن أهلَ الحق يفتعلون الصراع، أو يسارعون إليه ويستفتحون به، ويستعجلون المواجهة؛ ولكنَّ هذه السُنةَ تعني أن أهلَ الباطل لن يتركوا أهلَ الحق ينشرون حقَّهم ويقيمون شريعة الله ..
أما بعد: فإن الصراعَ بين الحق والباطل لم يُرفع بموت الرسل عليهم الصلاة والسلام، بل هو سنةٌ ماضية باقية ما بقي على وجه الأرض طائفة على الحق ظاهرة، فقال تعالى عن المشركين وأهل الكتاب الكفرة: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون)، (لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمةً وأولئك هم المعتدون)، وقال عن المنافقين: (هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون)، وصح في الأحاديث أن الجهاد ماضٍ من الإمام البر والفاجر إلى قيام الساعة.
إن سُنة المدافعة بين الحق والباطل لا تعني أن أهلَ الحق يفتعلون الصراع، أو يسارعون إليه ويستفتحون به، ويستعجلون المواجهة؛ ولكنَّ هذه السُنةَ تعني أن أهلَ الباطل لن يتركوا أهلَ الحق ينشرون حقَّهم ويقيمون شريعة الله.
صحيح أن الصراعاتِ الواقعةَ ليست كلُها صراعاتٍ بين الحق والباطل؛ ولكن سيظل الصراعُ قائماً بين الحق والباطل ابتلاءً من الله وتقديراً؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وليعلمَ الذين آمنوا ولِيعلم المنافقين، وليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين.
والآيات تدل على أن الباطل هو الذي يبدأ في المواجهة، وهو الذي يسارع إلى مصادمة الحق وإيذاءِ أهله وإرهابِهم، بل ومحاولةُ استئصالهم (وهم بدأوكم أول مرة)، و(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
فإن سألت عن أهل الحق، فهم أهلُ شريعةِ الله، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، هم أسعد الناس دليلاً، وألزم الناس بكتاب وسنة، وأشبههم بهدي سلف الأمة، هم قومٌ يُعرفون بالحق، ليسوا بعلماء السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويطوعون الدين للأهواء، ويجعلونه مرتقى لمطامعٍ دنيوية، وليسوا بأولئك الغلاة الذين يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وليسوا بأولئك الجافين الذين قال الله فيهم: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ).
أهل الحق رائدُهم الحق يتبعونه؛ حيث سار بهم ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، أما الغلاة والجفاة فرائدهم الهوى يحاولون تطويع النصوص وتحريفَها على ما يَهْوَوْن.
والعلماء قديماً وحديثاً، الذين هم أفقه الناس بكتاب وسنة هم قادة أهل الحق؛ لأنهم يستنبطون الحق من نصوص الشرع، (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، ولذا كان قبض العلماء قبضاً للعلم كما في الحديث المتفق عليه: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ؛ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ».
إن الأمة إنما تصدر عن علماء الشريعة لمعرفة حكم الله ولاتباع الحق، ولا تصدر في ذلك عن آراء من يسمون أنفسهم بالمثقفين أو التنويريين، وعامة الأمة بحمد الله لا يأتمنون هؤلاء على دينهم، ولا يثقون بتخرصاتهم التي يسمونها اجتهادات، فعامة الأمة تدرك أنه إذا كان لكل تخصصه الذي يفيد به ويُحترم فيه عقله، فإنَّ اختصاص استنباطِ الحق واستظهارِ أحكامِ الشرع إنما يكون للعلماء والمختصين بعلوم الشريعة.
وبهذا يدرك أن قصدَ استنقاصِ العلماء، والنيل منهم واستهدافهم بحمَلاتٍ مشبوهة إنما هو قصد لاستنقاص ما يحملونه من علم وما يدعون إليه من فضيلة، لاسيما إذا علمنا أن من بناؤهم ويحمل عليهم هذه الحملات التحريضية اللافتة لا يظهر لهم صوت مجلجل إلا في استنقاص العلماء وطلبة العلم والسخرية بهم والتحريض عليهم.
إن هذا الصراع بين الحق والباطل ليس صراعاً مفتعلاً يُوقد بدوافع سياسية لأهل الحق، فإنما هي فرية يبثها أهل الفساد والباطل ليشوِّهوا صورة الحق وأهله.
ومن مكرهم الكبار في هذا الباب أنهم يوهمون المجتمع أن هذا الصراع إنما هو صراع مع مَن يسمونهم بالإسلاميين، ليوهموا المجتمع أنه صراع مع حزب سياسي حركي له مآربه يستتر بستار الدين؛ من أجل تحييد المجتمع عن هذا الصراع ومنعِ عاطفته أن تميل مع أنصار الحق. وتناسوا أن صراعهم بحملاتهم المكشوفة على العلماء قد نالت علماء لهم اعتبارهم في المؤسسات الشرعية الرسمية.
إن الصراع في حقيقته ليس من الإسلاميين كما يسمونهم، بل هذه التسمية لا أصل لها في المجتمعات الإسلامية؛ لأنها مجتمعات مصبوغة بصبغة الدين، ولا تزال في نفوسها عاطفةٌ للدين وعلمائه وإن وقعت في بعض الآثام، إنما تصح هذه التسمية في البلاد غير الإسلامية؛ حيث يوجد فيها من يمثل تياراً أو طائفة إسلامية.
كلنا إسلاميون مسلمون، ويجب ألا تنطلي علينا هذه الفرية الخبيثة، ويجب أن تكون القلوب والعاطفة مع كل من يناكف هذه التيارات المستنبتة في مهد الإسلام.
إن هذا الصراع صراعٌ بين إرادة الله الإرادةِ الشرعية وإرادة الذين يتبعون الشهوات. كما قال تعالى: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً).
لقد جاءت هذه الآية بعد أن ذكر الله المحرمات من النساء، وبعد أن بيَّن حد الفاحشة وبعد أن حرض على التعفف والإحصان بالزواج، وإن لم يكن فبالصبر، وبهذه التشريعات أراد الله إرادته الشرعية أن يتوب علينا بتوبتنا إليه، ولا معنى للتوبة إلا أن نستقيم على الجادة؛ ويحذرنا من إرادة أخرى يعمل بها أصحاب الشهوات وهي إرادة شهوانية، يريدون أن نميل عن هذه الجادة العفيفة، كما مالوا هم، ولا يُرضيهم بعض الميل، بل لا يرضون إلا بالميل العظيم، انحرافاً إلى زَلَق الفواحش والمنكرات والفجور والعربدة.
إنهم لا يكشفون هذه الإرادة، ولكنهم يمهدون لها بخُطوات تتلوها خطوات، وأولى خطوات الميل العظيم يكون باليسير ثم يزداد الميل كلما سار في اتجاهه المخدوع بهم.
بارك الله.....
الخطبة الثانية :
أما بعد: فثمة مُطالبةٌ يُطالب بها أقوامٌ مُفرطون في حسن النية والظن: أن اتركوا يا أهلَ الحق مقارعةَ مَن تسمونهم بأهل الباطل، ولا تصمدوا إلى مصادمةِ فكرهم، واكسروا أقلامهم وأمسكوا ألسنتكم مجانبةً لهذا الصراع الذي لا يكاد ينتهي، لا تكونوا طرفاً في صراع داخلي حفاظاً على الوَحْدةِ واللحمة الوطنية.
والجواب قد تقدم بعضه من كون أهل الباطل هم الذين يبدءون مواجهة الحق وأهله، فهم لا يرضون أن تقوم له قائمةٌ، وهم يعلمون أنه لولا فضلُ الله بظهور أهل الحق لقامت شوكتهم ولنبت مشروعهم في هذه البلاد.
إن سكوتَ أهل الحق عن نشر الحق والمدافعةِ عنه هو سكوتٌ محسوب من نصرة الباطل وأهله، وإسهامٌ في التلبيس على الناس شرائع دينهم كما قال الله سبحانه: (ليُرْدُوهم ولْيلبسوا عليهم دينهم).
إن الحفاظَ على الوحدة الوطنية لا يكون بالسكوت عن مناكفة أهل الباطل وكسرِ شوكتهم وإجهاضِ مشروعاتهم، بل السكوتُ عن ذلك هو في حقيقة الأمر مشاركةٌ في تقويض دعائم الوَحدة واللحمة.
إنها مدافعة بالحجة والبرهان، وبالحق والعدل، مدافعةٌ ليس فيها تكفيرٌ لأعيان، ولا تحريضٌ على قتل أشخاص، ولا على حملِ سلاح؛ إلا سلاحَ اللسان: الحجةَ والبرهان، ولقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكفار والمنافقين: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)، فكانت مجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين بكل شيء إلا بمبارزتهم بالسلاح، فهو لم يفرق بينهم وبين أهليهم وأولادهم، ولم يخرجهم كما أخرج طائفة من اليهود من المدينة؛ ولكنه لم يكن – أيضاً- ليسكت عن مشروعهم أن يعلنوه ويعملوا به في المجتمع، ولم يدعهم لتكون لهم الشوكةُ في المجتمع، فأي شرخ في الوحدة هذه المدافعة؟!
ويجب أن نتذكر هنا أن أعظمَ دعائمِ هذه الوحدة الوطنية التي حققها بفضل الله الملكُ عبد العزيز رحمه الله: هو القيام بشرائع الدين والمحافظةُ على شعائره وقيمِه والصدورُ في مسائل الشريعة عن العلماء.
ولنتذكر هنا ما هو أبعدُ من هذا زماناً: وهو أن الدولة السعودية في أول نشأةٍ لها في هذه البلاد كانت بيعةً مباركةً بين أمير وعالم: بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله. على أن ينصرَ الأميرُ دعوةَ الدين لينصره العالمُ المجدد بالدين. فكانت شرعية الدولة بالدين، فبارك الله فيها ونصرها.
ولذا فإن مدافعة أهل الباطل ومشروعاتهم التغريبية هو إسهام فعّال في الحفاظ على لحمة الوطن، ومناكفةٌ لمن يريد شرخ هذه الوَحدة.
الذي يريد شرخ هذه الوحدة هم عملاءُ المشروعاتِ التغريبيةِ، والقائمون على قنواتها وإعلامها المستخفي بلغتنا العربية.
إن كثيراً من الانقلابات في البلاد العربية والإسلامية كانت بأيدي هؤلاء العملاء للغرب من علمانيين وشيوعيين، ثم كان ماذا؟ زعموا إنقاذ البلاد من التخلف فزادوها تخلفاً، ووعدوها إنقاذها من الفقر فزادوها فقراً، وطوّحوا بكثيرٍ مما بقي في بلادهم من القيم الفاضلة ولم يقيموا مكانها إلا رذائل، شرعنوا الاختلاط وحاربوا الحجاب، وصدوا الناس عن سبيل الله وألهوا الناس بملاهي الفجور والفساد، وأذنوا بمواخير الفواحش وحكّموا العلمانية وأقصوا شريعة الله فلم يزدهم ذلك من الحضارة والتقدم إلا بعداً، فأين ما كانوا يزعمون؟
إن ما كان يريده أعداء الدين من الصليبيين والصهاينة في تلك البلاد هو نفسه الذي يريدونه في هذه البلاد.
هناك من لا يريد أن يتعلم من دروس التاريخ، لا أقول البعيد: بل القريب والقريب جداً، مازال يظن أنه ليس بيننا وبين الحضارة والتطور إلا سِترٌ رقيق يسمونه الحجاب، فليرفع هذا الحجاب بنقابه ليصل إلينا من شَعاع الحضارة ما نتنور به؛ ألا ساء ما يحكمون.
إنما شأن هؤلاء الذين يضربون بمعاولهم في هُوية المجتمع ووَحدة الوطن كما قال الله عن أسلافهم من قبل: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون...)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم