الصراط

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ عقيدة أهل السنة والجماعة في الصراط 2/ وصف الصراط وبيان حدوده 3/ كيفية مرور الناس على الصراط 4/ الاستقامة في الدنيا سبب سرعة المرور على الصراط في الآخرة.

اقتباس

ومما يجب على المسلم اعتقاده والتصديق بوقوعه ما أخبر الله به في كتابه، وحدَّث به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتكاثر حديث السلف عنه وأودعوه في كتبهم، ووصموا المتأول له بله المنكر له بالابتداع والخروج عن الجماعة الناجية. ذلكم هو الإيمان بالصراط والمرور عليه، وما ورد من صفاته الصحيحة؛ فالصراط هو الجسر المنصوب على متن جهنم قال ابن القيم -رحمه الله-: "الصراط جسر مورود يجوزه العباد بقدر أعمالهم، فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، وقوم أوبَقَتهم أعمالهم فيها يتساقطون...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيه، وَنَعُوذُ بهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وحده لا شريك له، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أما بعد معاشر المؤمنين:

إن للإيمان بالغيب آثارًا عظيمة على القلب والجوارح، تقود المؤمن إلى الأنس بالله والعمل الصالح، واستشعار حلاوة الإيمان والطمأنينة لشرائع الإسلام، وحصول الانقياد التام للقلب والجوارح، وعزوف الشبهات عن قلب المؤمن المصدق بالغيب.

 

ومما يجب على المسلم اعتقاده والتصديق بوقوعه ما أخبر الله به في كتابه، وحدَّث به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتكاثر حديث السلف عنه وأودعوه في كتبهم، ووصموا المتأول له بله المنكر له بالابتداع والخروج عن الجماعة الناجية.

 

ذلكم هو الإيمان بالصراط والمرور عليه، وما ورد من صفاته الصحيحة؛ فالصراط هو الجسر المنصوب على متن جهنم قال ابن القيم -رحمه الله-: "الصراط جسر مورود يجوزه العباد بقدر أعمالهم، فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، وقوم أوبَقَتهم أعمالهم فيها يتساقطون"، وقال أيضًا: "والصراط حق يُوضَع على سواء جهنم، ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك".

 

 قال تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 71- 72].

 

قال عبد الله بن مسعود -رحمه الله- (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، يرد الناس كلهم، ثم يصدرون عنها بأعمالهم؛ فالخلق جميعهم واردون على النار، ثم ينجِّي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثيًّا.

 

ولقد اختلف أهل العلم في معنى الورود، والصواب -والله أعلم به- أن الورود هو المرور على الصراط كما فسرته السنة وآثار السلف، وسيأتي ذكرها بمشيئة الله تعالى.

 

أما عن صفة الصراط فإنه جسر يُنْصَب على متن جهنم ليجوزه الخلق على النار إلى الجنة، ولا يمكن لأحد أن يدخل الجنة إلا بعد المرور عليه، والسير على الصراط ليس بقوة العبد ولا بسرعته، ولكن بعمله، فكلما قوي إيمان العبد وزادت أعماله الصالحة كلما كان مروره على الصراط أسرع، ففي يوم القيامة لا يتعامل الناس إلا بالأعمال.

 

والصراط دحض مزلة أي زلق لا تثبت عليه الأقدام، وهو أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعر، أخرج مسلم في صحيحه أن أبا سعيد الخدري قال: "بلغني أن الجسر أدقُّ من الشعر وأحدُّ من السيف".

 

كما أن الصراط عليه كلاليب وخطاطيف تخطف من أُمِرَتْ به وحَسَك فيها كأمثال الشوك يُدْعَى بالسعدان. أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: "دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان".

 

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يُقدِّر عِظَمها إلا الله".

 

كما أن الناس عند الصراط يقعون في ظلمه فتضيء لهم أعمالهم (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور: 40].

 

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ثوبان أن يهوديًّا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هم في الظلمة دون الجسر"، فدلَّ على أن العبور على الجسر يكون في ظلام إلا من أعطاه الله نورًا يمشي به.

 

معاشر المسلمين: بهذا الطرف مما ورد في الصراط يُعلَم عظيم الموقف في ذلك اليوم، جعلنا الله وإياكم فيه من الآمنين.

 

وإذا ضُرِب الصراط على متن جهنم حشر الناس عند الصراط، والأنبياء في ذلك الموقف حول الصراط ودعاؤهم اللهم سلِّم سلم، فأول مَن يجوز على الصراط هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بأمته.

 

أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-:
"ويُضرَب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أولَ مَن يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ أحدٌ إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلِّم سلمْ".

 

فإذا عبر الناس الصراط تجارت بهم أعمالهم، وعلى قدر العمل يكون المرور أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "فيأتون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي أيّ شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق، كيف يمر ويرجع في طرفة عين، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلمْ حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أُمِرَت به؛ فمخدوش ناجٍ، ومكدوس في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفًا".

 

 وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري قال: "يُعرَض الناس على جسر جهنم وعليه حسك وكلاليب وخطاطيف تخطف الناس، قال: فيمر الناس مثل البرق، وآخرون مثل الريح، وآخرون مثل الفرس الْمُجِدّ، وآخرون يسعون سعيًا، وآخرون يمشون مشيًا، وآخرون يحبون حبوًا، وآخرون يزحفون زحفًا".

 

عباد الله: يظهر من هذه الأحاديث أن الخلق كلَّهم يمرون على الصراط، وأنهم على أربعة أنواع: إما مارٌّ بسلام، وإما مخدوش وناجٍ، وإما مكدوس في نار جهنم، والعياذ بالله.

 

وأما النوع الرابع: فهم الكفار الذين لا يمرون على الصراط، بل يسقطون في نار جهنم مباشرة، قال ابن رجب: "واعلم أن الناس منقسمون إلى مؤمن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، ومشرك يعبد مع الله غيره، فأما المشركون فإنهم لا يمرون على الصراط، وإنما يقعون في النار قبل وضع الصراط، ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتبع الشمسَ مَن يعبدها، ويتبع القمرَ مَن يعبد القمر، ويتبع الطواغيتَ مَن يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها..".. فذكر الحديث. اهـ.

 

وأما الساقطون في نار جهنم من الموحدين، فلا يعني أنهم خالدون فيها، ولكن تأخذهم النار على قدر أعمالهم، ومنهم مَن يخرج منها بالشفاعة؛ كما جاء في صحيح السنة.

 

عباد الله: إن الناجي من السقوط في النار إذا مر على الصراط قد فاز فوزًا عظيمًا لا يقدر وصفه، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط، فهو يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين".

 

اللهم اجعلنا ممن يمر على الصراط بسلام.. 

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد فيأيها المؤمنون: إن ذكر الصراط قد أقضَّ مضاجع الأبرار، فلا يمر بخيالهم إلا أطار عنهم نوم الراحة، وما ذاك إلا لكمال إيمانهم بالغيب وتصديقهم بموعود الله –تعالى-، ولهذا كانت هذه الأمور من إعانة الله لهم على ترك المعاصي والحرص على فعل الطاعات.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح

 

كان أبو سليمان الداراني -رحمه الله- يقول: "إذا سمعت الرجل يقول لآخر بيني وبينك الصراط؛ فاعلم أنه لا يعرف الصراط، ولا يدري ما هو؛ لو عرف الصراط أحب أن لا يتعلق بأحد ولا يتعلق به أحد".

 

 وكان أبو مسلم الخولاني يقول لامرأته: "يا أم مسلم! شدِّي رحلك، فليس على جسر جهنم معبر".

 

وروى ابن أبي الدنيا من طريق معاوية بن أبي صالح عن أبي اليمان "أن رجلاً كان شابًّا أسود الرأس واللحية، فنام ليلة، فرأى في نومه كأن الناس حُشروا، وإذا بنهر من لهب النار، وإذا جسر يجوز الناس عليه يدعون بأسمائهم، فإذا دُعِي الرجل أجاب فناجٍ وهالكٍ، قال: فدعاني باسمي فدخلت في الجسر، فإذا حدُّه كحدِّ السيف يمور بي يمينًا وشمالاً، قال: فأصبح الرجل أبيض اللحية والرأس مما رأى".

 

وكان عبد الله بن رواحة واضعًا رأسه في حجر امرأته، فبكى فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت. قال: إني ذكرت قول الله -عز وجل-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريم: 71]، فلا أدري أأنجو منها أم لا؟!" وفي رواية "وكان مريضًا".

 

 كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: "يا ليت أمي لم تلدني"، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: "أُخبِرنا أنَّا واردوها، ولم نُخبَر أنا صادرون عنها".

 

 وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال: "قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال: هل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رُئي ضاحكًا حتى لحق بالله".

 

معاشر المسلمين: إن في الدنيا صراطًا مستقيمًا من سار عليه وفق الشرع فإنه يسير على الصراط يوم القيامة، ومن زاغ عنه زاغ عن الصراط يوم القيامة، والعياذ بالله.

 

 قال ابن رجب: "الإيمان والعمل الصالح في الدنيا هو الصراط المستقيم في الدنيا الذي أمَر الله العباد بسلوكه، والاستقامة عليه، وأمرهم بسؤال الهداية إليه، فمن استقام سيره على هذا الصراط المستقيم في الدنيا ظاهرًا وباطنًا استقام مشيه على ذلك الصراط المنصوب على متن جهنم، ومن لم يستقم سيره على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، بل انحرف عنه إما إلى فتنة الشبهات، أو إلى فتنة الشهوات؛ كان اختطاف الكلاليب له على صراط جهنم بحسب اختطاف الشبهات والشهوات له على هذا الصراط المستقيم، كما في حديث أبي هريرة أنها تخطف الناس بأعمالهم".

 

قال سعيد بن أبي هلال: "بلغنا أن الصراط يكون على بعض الناس أدقّ من الشعر، وعلى بعض الناس مثل الوادي الواسع"، وقال سهل التستري: "من دقَّ عليه الصراط في الدنيا عرض له في الآخرة، ومن عرض عليه الصراط في الدنيا دقَّ عليه في الآخرة".

 

 قال ابن رجب: "ومعنى هذا أن من ضيَّق على نفسه في الدنيا باتباع الأمر واجتناب النهي، وهو حقيقة الاستقامة على الصراط المستقيم في الدنيا كان جزاؤه أن يتسع له الصراط في الآخرة، ومن وسَّع على نفسه في الدنيا باتباع الشهوات المحرمة والشبهات المضلة حتى خرج عن الصراط المستقيم؛ ضاق عليه الصراط في الآخرة، بحسب ذلك، والله أعلم". اهـ.

 

 اللهم ثبت أقدامنا يوم تزل أقدام الكفرة..

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه.......

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات.......

اللهم اهد شباب المسلمين وردهم إليك ردًّا جميلاً...

اللهم أنج المستضعفين...........

سبحان ربك رب العزة عما يصفون.....

 

 

المرفقات

1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات