الصدق نجاة والكذب هلكة

جماز بن عبد الرحمن الجماز

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/فضل الصدق وشناعة الكذب2/مفاسد كذب أهل القرآن 3/مظاهر الصدق وفوائده 4/التلازم بين صدق الباطن والظاهر 5/مفاسد الكذب6/التحذير من الكذب 7/داء انفصام الشخصية 8/لماذا يلجأ البعض إلى الكذب 9/حالات جواز الكذب

اقتباس

أيها الأخ الكريم: لو كنت صادقا في عبادتك، لظهر أثرها عليك في محاربة العصاة والفساق، ولو كنت صادقا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، لكنت مثالا صالحا، وقدوة حسنة للناس، في معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ولو كنت صادقا في معاملتك، لكنت أمينا معتبرا، ولكانت سمعتك حسنة، وشهرتك طيبة، في المحلات والأسواق، ولو كنت صادقا في بيعك وشرائك، وأخذك وعطائك، لكنت كريم الطلعة، ميمون الصفقة، مبارك الأرزاق.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الصادق في قيله، الهادي إلى سبيله، مادح الصادقين على لسان رسوله، وواعدهم بالخير في محكم تنزيله، القائل: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً) [النساء: 122] (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر: 28].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كره الكذب إلى الطباع الصحيحة، والأذواق السليمة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صاحب المقام الرفيع والمنزلة العظيمة، اللهم فصل وسلم على نبينا محمد الآمِر بكل فضيلة وكريمة، الناهي عن كل خليقة وذميمة، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لطريقته المستقيمة، وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

فإن الصدق من صفات الله العلية، القائمة بذاته، ومن صفات المرسلين، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، وما بعث في أمة من نذير، إلا كان أصدقهم في حديثه وسائر تصرفاته، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- في قومه، معروفا بالصادق الأمين، قبل أن يأتيهم بكتاب الله وآياته، وعِبره وعظاته، فلما جاءهم بالحق، استحبوا العمى على الهدى، واتبعوا الشيطان وخطواته: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)[الرعد: 43].

 

أيها الأحباب: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وعفة النفس، والقناعة بالمقسوم، من صفات المؤمنين.

 

والكذب والخيانة، والحرص والطمع الخبيث، من علامات المنافقين: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة: 204].

 

هو من أتباع الشياطين، قد اشترى الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، والعاجل بالآجل، وآثر الحياة الدنيا على الآخرة، فكان من المارقين، وبظلمه وافترائه الكذب، قد خرج من المخاطبين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].

 

والفاجر الخبيث الكاذب في قوله وفعله، بكل ما تعنيه تلك الصفات، محسوبٌ من الذين يسعون في الأرض فسادا: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة: 64].

 

 

أليس من العار عليكم -يا أهل القرآن-: أن يصدق غيركم، وأنتم تكذبون؟! أو ليس من الفضيحة أن يتخلق غيركم بالفضائل وأنتم عنها معرضون؟!

 

بل وكيف ترضى -أيها المسلم-: نسبة الشر إلى دينك، وأن يخوض فيه بالباطل الذين لا يؤمنون؟! ومن الذي أباح لك أن يأمنك الكافر أو يصدقك الفاجر؟! ثم أنت بعد ذلك تكذب وتخون؟! وهل غير الدين إلا بنوه؟! وهل شوه سمعة الإسلام إلا المسلمون، إذا نظر الأعداء إلى ديننا رأوه دينا حسنا؟! وإذا نظروا إلينا رأوا أننا عنه مائلون، وبضّد تعاليمه متخلقون، شغلتنا عنه دنيانا، وصرفنا عنه المال والنساء والبنون؟!

 

أيها المسلمون: إذا صدق العالِم في تعليمه، وأخلص في وعظه وإرشاده، وأراد بذلك وجه الله، ظهر أثره، وعم نفعه، واستجيبت دعوته، ثم التوفيق والهداية بيد الله -عز وجل-، وإذا صدق الحاكم والمدعي والشاهد، ساد الأمن، وصلحت البلاد، وقطع دابر الفساد، وإذا صدق الصانع في صنعته، والتاجر في متجره، والموظف في مكتبه، والمعلم في مدرسته، والطبيب في عيادته، والمهندس في مشروعه، كان شريفا تقيا، ثقة نقيا، مأمونا عند الخلق وعند الله، والبيعان بالخيار مالم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا، بورك لهما في بيعهما.

 

أيها الأخ الكريم: لو كنت صادقا في عبادتك، لظهر أثرها عليك في محاربة العصاة والفساق، ولو كنت صادقا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، لكنت مثالا صالحا، وقدوة حسنة للناس، في معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ولو كنت صادقا في معاملتك، لكنت أمينا معتبرا، ولكانت سمعتك حسنة، وشهرتك طيبة، في المحلات والأسواق، ولو كنت صادقا في بيعك وشرائك، وأخذك وعطائك، لكنت كريم الطلعة، ميمون الصفقة، مبارك الأرزاق.

 

فيا أيها المؤمنون: أين الصدق والصادقون؟ أين العفة والمتعففون؟ أين الأمانة والأمناء؟ أين القوة والأقوياء؟ أين السماحة والسمحاء؟

 

معاشر المسلمين: إذا ذهب الصدق من الناس، اشتبه المسلم بالكافر، والبر بالفاجر، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس من الموبقات والكبائر، فالمرأة تخون زوجها، وتدنس عرضه، وتفعل في بيته المناكر، والولد يعبث بمال أبيه ويصرفه في اللهو والباطل، وإذا فشا الكذب، وتخلق به الأكابر والأصاغر، تودّع منهم، ولم يبال الله بعالم منهم ولا جاهل، ولا مأمور ولا آمر، ولا غني ولا فقير، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

 

فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة، وصح عنه أنه سئل صلى الله عليه وسلم، فقيل: "من خير الناس؟" فقال: "ذو القلب المخموم، واللسان الصادق".

 

وصح أيضا: أن الصحابة كانوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدعا بطهور، فغمس يده فتوضأ، فتتبعناه فحسوناه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما حملكم على ما فعلتم؟ قالوا: حب الله ورسوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله، فأدوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم".

 

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا".

 

فاتقوا الله -عباد الله-: وكونوا من الصادقين، وإياكم أن تكونوا من الكاذبين، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وحج واعتمر، وقال إني مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".

 

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رأيت الليلة رجلين أتياني، قالا لي: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب، يكذب بالكذبة، تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة".

 

وصح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: الشيخ الزاني، والإمام الكاذب، والعائل المزهو" يعني الفقير المتكبر.

 

وصح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما زال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا".

 

وكما يكون العبد عند الله صادقا أو كاذبا، فكذلك يكون عند أهل السماء وأهل الأرض، وأنها لإحدى الكبر.

 

فالتزموا الصدق -أيها المسلمون-: وإن رأيتم أن الهلكة فيه، فإن فيه النجاة، واجتنبوا الكذب، وإن رأيتم أن النجاة فيه، فإن فيه الهلكة.

 

(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].

 

جعلنا الله وإياكم من الصادقين، وجنبنا وإياكم موارد الظالمين، وأجارنا وإياكم من الكذب والخيانة.

 

بارك الله لي ولكم في القران العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من علم وهدى مستقيم.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي أمر بالصدق في كتابه المبين، وأثنى على الصادقين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

أحمده على نعمه الظاهرة والباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حبب الصدق إلى النفوس الكريمة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الصادق المصدوق في حديثه، والمقبولة تعاليمه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

فإن الداء كل الداء، هو انفصام الشخصية، الذي أصيبت به أمتنا، وعلى شتى المستويات، فقد تجد الواحد من الناس، مٌتحرجا حريصا أن يترك شيئا من السنة في الصيام، أو الصلاة، أو الحج، أو الأكل أو الشرب، وهذا جميل، لكنه لا يتحرج من أكل الحرام، أو ارتكاب الظلم.

 

وبعضهم يتحرج من كلمة بذيئة، وهذا جميل أيضا، ولكنه لا يتحرج من أن يكون سببا في فرقة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

فالمسلم -أيها المسلمون-: له شخصية واحدة لا تتغير، في المنزل، أو المسجد، أو الوظيفة.

 

وهذا كذب في الورع، يتحرج الإنسان من الأمر الصغير، وهو على الأمر الكبير جريء؛ جاء رجل إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "قتلت بعوضة في الحج؛ فماذا على من الدم؟ قال ابن عمر له: من أين أنت؟ قال: من كربلاء، من أهل العراق، قال: قتلتم الحسين بن علي، وجئت تسألني عن دم البعوضة، ما أجرئكم على الكبيرة، وتسألون عن الصغيرة!".

 

معاشر المسلمين: من الناس كثير، يلجأون إلى الكذب ابتعادا عن المتاعب المترتبة على قولة الحق، وعمر الفاروق -رضي الله عنه- يقول قولة الحق لم تدع لي صاحبا، فقولة الحق ثقيلة، لا يقدر عليها إلا الرجال، ومذاقها مر لا يستسيغها إلا العقلاء، وقديما تقول العرب: "صديقك من أصدَقك، لا من صدّقك" يعني من أصدقك القول بالذي أنت فيه، لا أن يهز رأسه لكل قول وفعل، ولو كان سيئا يصدر منك.

 

ولنعلم أن الكذب لا يجوز إلا في أحوال ثلاث:

 

1- لإصلاح بين الناس.

 

2- وعند الحرب.

 

3- وقول الزوج لزوجته، وقول الزوجة لزوجها.

 

اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، واختم بالصالحات أعمالنا، واشف اللهم مرضانا، وارحم اللهم موتانا، وبلغ فيما يرضيك آمالنا.

 

اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، ولا تخيب اللهم فيك رجائنا.

 

اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك، واجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك، وهب لنا غنى لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأغننا اللهم عمن أغنيته عنا.

 

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].

 

(ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران(147].

 

 

 

 

المرفقات

نجاة والكذب هلكة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات