عناصر الخطبة
1/التحذير من دعوة نبوية 2/فضائل الرفق وأهميته 3/وجوب الرفق في التربية ومع الأبناء 4/أهمية الرفق في العمل الإداري.اقتباس
فالمعارفُ كثيرٌ، وأما الأصدقاءُ فهم قليلٌ، فاعرفْ من شئتَ، ولكن صادقْ من إذا خَدَمتَه صَانكَ، وإن صَحبتَه زَانكَ، ومَن إذا مَددتَ يَدكَ للخيرِ مَدَّها، وإن رأى مِنكَ حَسنةً عَدَّها، وإن رأى منك سَيئةً سَدَّها،...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ يَهدِي مَن يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ، أحمدُه سبحانَه على فَضلِه السَّابِغِ وجُودِه العَظيمِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له البَرُّ الرؤوفُ الرَّحيمُ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وخِيرتُه مِن خلقِه ذو النّهج الرّاشِدِ والخُلُقِ القَويمِ، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك مُحمدٍ، وعلى آلهِ وصحابتِه ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اتَّقُوا اللهَ، عبادَ اللهِ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة:281].
أما بعد: كلمةٌ كلما بحثتُ لها عن مُفرداتٍ ومعاني، انكسرَ قلمي وعجزَ لساني؛ لأنَّها مشاعرُ وأحاسيسُ، وليستْ ألفاظًا في الكراريسِ، إنّها مواقفُ فيها بذلُ النّفسِ والصّفاءُ، وحياةٌ فيها كرمُ الأخلاقِ والعطاءِ، إنّها الصّداقةُ .. بل أَعني الصّداقةَ الحقيقيةَ.
الصّداقةُ تبعثُ في النّفسِ السّعادةَ والأمانَ، ويشعرُ معها الإنسانُ بالدِّفءِ والحنانِ، فأيّ حياةٍ هذه التي ليسَ فيها صديقٌ، يُشاركُكَ مشاعرَ الفرحِ والضِّيقِ، وصدقَ القائلُ:
سَلامٌ على الدُّنيا إذا لَم يَكُن بِها *** صَديقٌ صَدوقٌ صَادِقُ الوعدِ مُنصِفا
هل تعلمونَ أنَّ الصَّداقة والأُخوَّةَ في الإسلامِ عبادةٌ عظيمةٌ لمن أخلصَها لوجهِ ذي الجلالِ والإكرامِ؟، واسمعوا لرسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وهو يُحدِّثُ عن رَجُلٍ زارَ صديقاً له في قَرْيَةٍ أُخْرَى، "فَأرْصَدَ اللهُ لَهُ ملَكًا علَى مَدْرَجَتِه -أَيْ: عَلَى طَرِيقِهِ-، قالَ: أيْنَ تُرِيدُ؟، قالَ: أُرِيدُ أخًا لي في هذِه القَرْيَةِ، قالَ: هلْ لكَ عَليهِ مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟، -هل تُريدُ منه مصلحةً أو منفعةً؟- قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في اللهِ -عزَّ وجلَّ، قالَ: فإنِّي رَسولُ اللهِ إلَيْكَ، بأنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّكَ كما أحْبَبْتَهُ فِيهِ".
والعجيبُ أننا اليومَ نسمعُ في المُجتمعِ المُسلمِ عظيمَ الشّكوى، في أنَّ صداقةَ المَصلحةِ هو ممَّا عمَّتْ به البَلوى، بل يسألُ أحدُهم مُتألِّماً: أينَ الصَّداقة الحقيقيَّةُ؟، وأينَ الأخوَّةُ الإسلاميةُ؟، ويتمثلّ بالأبياتِ:
ولا خِيرَ في ودِّ امرئٍ مُتلوِّنٌ *** إذَا الرِّيحُ مالَتْ، مَالَ حيْثُ تَميلُ
ومَا أَكثرَ الإِخْوانَ حِينَ تَعُدّهُمْ *** وَلَكِنّهُمْ في النَائِبَاتِ قَلِيلُ
فَرِفقاً بالصَّداقة أيّها الأصدقاءُ؛ فإنّها علاقةٌ مُرتبطةٌ بالتّضحيةِ والوفاءِ، هي علاقةُ المحبةِ والصِّدقِ والسّلامِ، هي علاقةُ الرّحمةِ والعطفِ والاحترامِ، حتى إنَّ اللهِ -تعالى- سمَّاها في كتابِه بالأخوَّةِ فقالَ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، وقالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ".
فتغيَّرتْ بعدَها نظرةُ المسلمينَ للصَّداقةِ، فبعدما كانَ الخِلّ الوَفيّ من المُحالِ، أصبحَ يُفدَّى بالنّفسِ والولدِ والمالِ، قَالَ حُذَيْفَةُ الْعَدَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي، وَمَعِي شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ، وَأَنَا أَقُولُ: إِنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْتُهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَسْقِيكَ؟، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ يَقُولُ: آهْ، آهْ، فَأَشَارَ إِلَيَّ ابْنُ عَمِّي أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، فَقُلْتُ: أَسْقِيكَ؟، فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ، فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ: آه، آهْ، فَأَشَارَ هِشَامٌ: أَنِ انْطَلِقْ إِلَيْهِ فَجِئْتُهُ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى هِشَامٍ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ"، فَكيفَ للبليغِ أن يَصفَ هذه اللَّحظاتِ؟، وماذا عَسى أن تَقولَ الكلماتُ؟
الصّديقُ الصّالحُ هو الذي يُضيءُ لكَ في الدُّنيا طَريقَ الخيرِ، يُعينُكَ إذا ذكرتَ، ويُذكِّرُكَ إذا نسيتَ، وينصحُكَ إذا غَفلتَ، ويدعو لكَ إذا مِتَّ، كما قَالَ محمدُ الأصفهانيُّ: "وأينَ مِثلُ الأخِ الصَّالحِ؟، أَهلُكَ يَقتسمونَ مِيراثَكَ، وهو قد تَفرَّد بحُزنِكَ، يَدعو لكَ في ظُلمةِ الليلِ، وأَنتَ تحتَ أَطباقِ الثَّرى".
ولقد نَظرتُ فلم أَجدْ يُهدَى لكُم *** غيرُ الدُّعاءِ المُسْتجابِ الصّالحِ
وأما في الآخرةِ، فخيرُ الأصدقاءِ هم الشُّفعاءُ، يَقولُ عَليُّ بنُ أبي طَالبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "عليكم بالإخوان، فإنّهم عُدَّةٌ في الدّنيا والآخرةِ، أَلا تَسمعونَ إلى قَولِ أَهلِ النّارِ: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)[الشعراء:100-101]، ففَقدوا الصّديقَ الصّالحَ الذي يشفعُ لصاحبِه يومَ القيامةِ، وكما قالَ اللهُ تعالى: (الْأَخِلّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف:67].
ولقد صدقَ القائلُ:
وإذا صاحَبتَ فاصحَبْ مَاجدًا *** ذَا حَياءٍ وعَفافٍ وكرَم
قَولُه للشّيءِ لا، إنْ قُلتَ: لا *** وإذا قُلتَ: نَـعم، قالَ: نعَم
أقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروهُ إنّه هو الغَفورُ الرّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي اصطفى لمحبتِه الأخيارَ، وصَرّفَ قُلوبَهم في طاعتِه آناءَ الليلِ وأطرافَ النّهارِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، مُقلِّبُ القُلوب والأبصار، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه المُصطفى المختارُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه الطيبينَ الأطهارِ، وعلى جميعِ أصحابِه من مهاجرينَ وأَنصارٍ، وعلى جميعِ من سارَ على نهجِهم واقتفى آثارَهم ما أَظلمَ ليلٌ وأَضاءَ نَهارٌ.
أمَّا بعدُ: فاسمعوا إلى هذه الآياتِ: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)، ليسَ على أُصبعِه فقط، بل على يديهِ جميعاً من شِدَّةِ النَّدمِ، (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً)[الفرقان:27]، وما الذي منعَهُ من ذلكَ؟، (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي) [الفرقان:28-29]، لا إلهَ إلا اللهُ، حياةُ الظَّالمِ مليئةٌ بالأخطاءِ، ولكنَّهُ خصَّ الاختيارَ الخاطئَ للصّديقِ، لأنَّها الغلطةُ الكبرى التي كانَ لها التأثيرُ السيئُ في حياتِه.
أيُّها الحبيبُ: لا يغرنَّكَ كثرةُ الأرقامِ في جوالِكَ، فهناكَ أصدقاءُ وهناكَ معارفُ، فالمعارفُ كثيرٌ، وأما الأصدقاءُ فهم قليلٌ، فاعرفْ من شئتَ، ولكن صادقْ من إذا خَدَمتَه صَانكَ، وإن صَحبتَه زَانكَ، ومَن إذا مَددتَ يَدكَ للخيرِ مَدَّها، وإن رأى مِنكَ حَسنةً عَدَّها، وإن رأى منك سَيئةً سَدَّها، واسمعْ إلى نصيحةِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وهو يقولُ: "لا تُصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكلْ طعامَك إلا تقيٌّ".
فالصَّداقة الحقيقيةُ لا تزالُ موجودةً، فلا ينبغي لنا أن نُسيءَ إلى الصَّداقة؛ لأنَّنا أخطأنا في اختيارِ الصَّديقِ، أو أنَّنا خُدعنا فيمن نظنُّه صديقًا وهو مجردُ عابرُ سبيلٍ في حياتِنا، قضى مصلحتَه ثُمَّ راحَ وتركَنا، فاخترْ صَديقًا مُحبًّا صَالحًا صادقًا مُخلِصًا ناصحًا مُعينًا صَافيًا وفيًّا أمينًا، فإذا لم تفعل، فلا تَقُلْ في المجالسِ: إنَّ الصَّداقة شيءٌ قبيحٌ، ولكن قُل: لقد أخطأتُ في اختيارِ الصَّديقِ الصَّحيحِ.
اللهم ارزقنا خير الأصدقاء، وعيشة السعداء، وميتة الشهداء، وحياة الأتقياء، ومرافقة الأنبياء، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أدمْ علينا نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصةً، وعن سائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين.
اللهم وَفِّقْ ولاة أمرنا لكل خير، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تعينهم على الخير وتدلّهم عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم