الصحة والفراغ

الشيخ عبدالعزيز بن محمد النغيمشي

2021-05-21 - 1442/10/09 2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/فضل نعمتي الصحة والفراغ 2/خطورة تتضيع الأوقات 3/أهمية اغتنام أوقات الفراغ 4/خطورة أوقات الفراغ على الشباب 5/طول فترة الإجازة ومخاطرها.

اقتباس

ألا ما أعظمها من مخاطِرَ تتورَدُ على الشابِ والفتاةِ في أوقاتِ فراغِهِما. وفي عصر التواصُل التقَنيِّ والثورات المعلوماتية، والانفتاحِ الأُمَمي، والغزوِّ الثقافي، والانحطاطِ الأخلاقي، والضعفِّ العلمي والإيماني أجراسُ الخطرِ تُدَقُّ في كُلِّ حين، شبابٌ وفتياتٌ يواجهونَ أشرسَ المؤامرات وأخطرها فلا الحواجزُ تحمي، ولا الحدودُ تَقي. سمومُ شهواتٍ مستعرةٍ، أو شبهاتٍ مُدَمِّرة..

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أيها المسلمون:

مُتَقَلِّبٌ في العيشِ طابَ مُقامُه *** في صحةٍ في مأمَنٍ في مطعَمِ

مُتَفَرِّغٌ مِن شُغْلِهِ، مستأمِنٌ في دارِهِ، متمتعٌ في أهلِه، يروحُ ويغدو في عافية، ينام ويصحو في عافية، ما النعيمُ إن لم يَكُن هذا نعيمٌ؟ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت:67].

 

هي نِعمةٌ عَمَّت ربوعَ حِمانا *** نِعْمَ عبدٌ قام يسعى في بقاها

أَمْنٌ في الدار وقرار *** ورغدٌ في العيشِ وَشِبَع

 

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش:3-4]، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[التكاثر:8]، قال السعدي -رحمه الله-: "لتُسألُنَّ عن النعيمِ الذي  تنعمتم به في دار الدنيا، هل قمتم بشكره، وأدّيتم حق الله فيه، ولم تستعينوا به على معاصيه، فَيُنَعِّمَكُمْ نَعِيْمًا أَعْلَى مِنْهُ وَأَفْضَلُ في الآخرة. أم اغتررتم به ولم تقوموا بشكره؟ بل ربما اسْتَعَنْتُمْ به على معاصي الله، فيعاقبكم على ذلك، (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)[الأحاق:20].

 

عباد الله: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ نعمتانٍ لا تُقَدَّرَانِ بِثَمَن، قَلَّ قدرُهُما في قلوبِ قومٍ فخابوا. عَنِ ابنِ عباسٍ -رضي اللهُ عنهما- قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "نِعمَتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصَّحَّةُ والفَّراغُ"(رواه البخاري).

 

وإنَّ الحياةَ قُلَّب، وإن دوامِ الحالِ على حالٍ مُحال، وإنَّ استثمارَ زهرةِ الحياةِ بطيبِ العملِ مَغْنَم، وإنَّ ضياعَ العُمرِ وقتَ ربيعِه غَبْنٌ وخُسران.  قال ابن القيم -رحمه الله-: "إنَّ أعظمَ الإِضَاعَاتِ إضَاعَتَان، هُما أَصْلُ كُلِّ إضاعة: إضاعةُ القلبِ، وإضاعةُ الوقت؛ فإضاعةُ القلبِ من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقتِ من طول الأمل، والصلاحُ كُلُّهُ في اتباعِ الهُدَى والاستعدادِ للقاء الله".

 

والوقْتُ أَنْفَسُ ما عَنِيتَ بِحِفْظِهِ ***  وَأَرَاهُ أسهَلَ ما عليك يَضِيعُ

 

والصحةُ تاجٌ على رؤوس الأصحاءِ يُبْصِرُه بجلاءٍ المرضى، هي كنزٌ ثمينٌ، وعطاءٌ سمينٌ، وركنٌ متين. بالصِحَّةِ تُشْرِقُ الحياةُ، وتَتَنَفَّسُ النفسُ، تَبْتَسِمُ الرُّوحُ. فلا يحلو عيشٌ لعليل، ولا يطيب نعيمٌ لسقيم.

ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ ***  يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا

 

والصحةُ والفراغُ إذا اقترنا كانا أسباب عِزٍّ وسعادةٍ وتمكينٍ لِمَن وُفِّقَ وهُدي. فأوقاتُ الفراغِ هي ميادينُ الكسبِ والعمل، وهي ساحاتُ السَّعيِ والطلب، وهي مصاعِدُ الرُّقِيِّ والتفوقِ. فَكَم حُقِّقَ في الفراغ مغنم، وكم ندمَ مشغولٌ على ساعة فراغٍ رَحَلَت دونَ أنْ يَغْتَنِمْهَا. 

 

إنَّ تحقيقَ الشرفِ في الدنيا لَمْ يُنَل بالكسل، وإن تحقيق الفوزِ في الآخرةِ لم يُنَل بالتواني.  هو جِدٌّ وهو بذلُ، هو سعيٌ في سبيلِ المكرُمات. هو حِفْظٌ للثواني هو نأيٌ عن طريق الملهيات.  لم يُحَقِّقْ من تألق مغنماً في غيرِ كّدِّ.. مَنْ أضاع العُمرَ في نومٍ وَصَدِّ، تاهَ في دنيا المغريات.  مَن أضاع الوقت في أخذٍ ورَدِّ، غُمَّ في وقت المُنْجَزَات. 

 

هذه الأعمارُ تمضي، كَم عليلٍ كان في الصحةِ لاهٍ، يتمنى لو تعودَ العافية!  كم صحيحٍ قد أحاطته المشاغِلُ يتمنى يومَ كانت صافية!، هذه الأوقاتُ حُبْلى، حَمْلُها ما تَصنعون، ما تعملون، ما تفعلون. مَن قضاها في كريم السعيِ سَرَّهُ ما أنجَبَت. من قضاها في ضياعٍ ساءَه ما خَلَّفَت.  فأَوْدِعِ الأوقاتَ أعمالاً تَسُرُّك، لا تُبددها يباباً؛ فإنها حتماً تَضُرُّك.

 

دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قَائِلَةٌ لهُ *** إنَّ الحَيَاةَ دَقَائقٌ وثَوَان

فارفعْ لِنَفْسِكَ بعدَ موتِكَ ذِكْرَهَا *** فالذِّكْرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثَانِي

 

نهارٌ يَغْشَاهُ ليلٌ وليلٌ يَغْشَاهُ النهار. قمرٌ تتلوهُ شمسٌ، وشمسٌ يتلوها القَمَر (وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)[إبراهيم:33]، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان:62]، عُمْرٌ بِهِ الإنسانُ في الدنيا يُعَمَّرُ.. وهو عنهُ سوفَ يوماً يُسأل، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ"(رواه الترمذي).

  

عباد الله: إن ضياعَ الأوقاتِ بلا ثَمَن غَبْنٌ خُسرانٌ مُبين، فابتدر وقت فراغٍ، خُطَّ في المجدِ فضيلة.  كم حسنةٍ في الدقيقةِ تُكتَسَب!، كَم طموحٍ في الفراغ يُحقق!، وعند الصباحِ يحمدُ القومُ السُّرى.

 

 اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ *** فعسى أن يكون موتك بغتـه

كم صحيحٍ رأيتَ من غير سُقمٍ *** ذهبت نفسه العزيزة فلـتـه

 

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان:62]، بارك الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين.

 

عباد الله: ولئن كان الحديثُ عن ضَرَرِ الفراغ يوماً ضرورة. فإنه في هذه الأيامِ آكدُ ما يكونُ.  إنَّ الفراغَ خطرٌ على الشبابِ مُحْدِق، وهو على الفتيات أعتى وأقسى. 

 

مجتمعٌ يقضي أيامَ إجازةٍ وأمامَه مِنها وقتٌ طويل. تمتدُّ فيها الأوقاتُ، وتتطاوَلُ فيها الساعات لدى كثيرٍ مِن الشبابِ والفتيات. فراغٌ إن لم يُقضَ بأمرٍ نافعٍ قُضيَ بما يَضُر.  وإن لم يُغتَنَم بجَلْبِ رزقٍ أو كسبٍ معاشٍ، أو طلبِ علمٍ أو عملٍ معروفٍ، أو نشرِ خير أو عملٍ مباح بُدِّدَ بسفاسِفَ وتفاهاتٍ، وقُضيَ بنومٍ وبطالةٍ وجهالات. ولربما قُضي برزايا ومهلكات.

 

إن طول الفراغ يجلبُ قرين السوءِ، ويُقَرِّبُ عمل المنكر، ويَفْتَحُ أبواب الفسادِ، ويُضعِفُ حصانةَ النفسِ، ويورِدُ خواطِرَ الهوى ووساوسَ الشيطان.

 

ألا ما أعظمها من مخاطِرَ تتورَدُ على الشابِ والفتاةِ في أوقاتِ فراغِهِما. حقيقةٌ أبصرها الحكماءُ الأقدمون كما أبصرها العقلاءُ في كُل القرون. قالها أبو العتاهيةِ في بيتٍ توارثَتْهُ الأجيالِ وبِه يَسْتَشْهِدُون 

إنّ الشبابَ والفراغَ والجِدَة  ***  مَفْسَدَةٌ للمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَة

 

وفي عصر التواصُل التقَنيِّ والثورات المعلوماتية، والانفتاحِ الأُمَمي، والغزوِّ الثقافي، والانحطاطِ الأخلاقي، والضعفِّ العلمي والإيماني أجراسُ الخطرِ تُدَقُّ في كُلِّ حين، شبابٌ وفتياتٌ يواجهونَ أشرسَ المؤامرات وأخطرها فلا الحواجزُ تحمي، ولا الحدودُ تَقي. 

 

سمومُ شهواتٍ مستعرةٍ، أو شبهاتٍ مُدَمِّرة. تُرمى في فضاء التقنية عبرَ أبوابِ تواصُلِها فتُلقى في أحضانٍ شابٍ أو فتاةٍ غافلين. فلربما وقعَا في شِراكِها مَهزومَين. شهوةٌ تُحرقُ القلبَ، أو شبهةٌ تُفسدُ العقلَ والدين.

 

عباد الله: في أوقاتِ الإجازات يجبُ أن تُوْلَى أوقاتُ الشبابِ والفتياتِ كُلَّ عنايةٍ واهتمام.  يقترِبُ رَبُ الأسرةِ من أسرَتِه إن رامَ لها الوقايةَ والنجاة. وتحفظ الأمُّ في الدارِ قرارها ووقارَها إن رامت لأولادها السعادةِ والفلاح.

 

في أوقات الإجازات تُستَنفَرُ جهودُ المصلحين في كُلِّ محضنٍ تربوي، وفي كُل دائرةٍ عائليةٍ، وفي المجاميعِ التواصلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، لإقامة المشاريعِ النافعة والمشاركات الهادفةٍ والتوعيةِ المضيئة.

 

وإن قضاء أوقاتِ فراغ الشباب والفتياتِ في أماكنَ تكثر فيها المخالفاتُ الشرعية. وفيها يكون الاختلاط وتقعُ التجاوزات أمرٌ يفاقِمُ الخطرَ ويزيد الضرر. 

 

وأعظمُ أمرٍ يستعين به الولي على صلاح أهلِه ومجتمعه صدقٌ في البذلِ، وإخلاصٌ في النصحِ، وتصرعٌ في الدعاء

 

اللهم أصلح لنا أحوالنا..

 

 

المرفقات

الصحة والفراغ.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
01-06-2021

نفع الله بكم وهدى