عناصر الخطبة
1/ من فضائل الصبر 2/ معنى الصبر 3/ لزوم الصبر وأهميته 4/ أسباب زيادة الجزع 5/ أسباب تسهيل المصائب 6/ أنواع الصبراقتباس
والصبر خلق عظيم، يملك به المسلم حبس نفسه عن الجزع والهلع عند وقوع البلاء، ويمنع لسانه عن التشكي والتسخط، ويمنع جوارحه عن اللطم والإفساد والتهور وغير ذلك... وهو خلق يظهر به حسن أدب المسلم عند وقوع البلاء به، ويظهر به غناه بربه وتعلقه به عن أن يظهر الشكوى والسخط ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: من الأمور المهمة التي يجب على المسلم أن يتعلمها ويعمل بها الصبر، فيجب على كل واحد منا أن يعرف أهميته وفضله وأنواعه ومجاله الواسع الرحب، وما هي الأسباب التي تسبب هلع الكثيرين وزيادة جزعهم وسخطهم عندما تحل بهم مصيبة من المصائب، وفي المقابل ما هي الأسباب التي يجب أن يتخذها العبد حينما تحل به مصيبة أو ينزل به بلاء حتى تسهل عليه مصيبته، وتهون ويستطيع أن يتحملها بثبات ورضا.
فالصبر -أيها المسلمون- حصن حصين، وعطاء عظيم، يمنحه الله لعباده المختارين، فهو -كما قال الحسن رحمه الله-: كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله -عز وجل- إلا لعبد كريم عنده، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر"، فمن عظيم فضله أنه ما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب، إلا الصبر، كما قال -عز وجل-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]، أجر عظيم غير معدود ولا محدود، ولأجل كون الصوم من الصبر قال تعالى: "الصوم لي، وأنا أجزي به".
وقد وعد الله الصابرين بخيرات كثيرة، وخصهم بأمور عزيزة، فمنها أنه -عز وجل- جعل الصبر والنصر قرينين، وجعل الإمامة في الدين منوطة بالصبر فقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "واعلم أن النصر مع الصبر"، وأخبر سبحانه الصابرين أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين وعونه الأكيد فقال: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]، وأخبر أنه مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العدو، فقال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120]، وأخبر -عز وجل- عن محبته لأهل الصبر فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146]، وبشر الصابرين بثلاثٍ كلٌّ منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون فقال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155 ـ 157].
وجعل الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون؛ فقال -عز وجل-: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون:111]، وخص في الانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييزًا لهم بهذا الحظ الموفور؛ فقال في أربع آيات من كتابه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم: 5، لقمان: 31، سبأ: 19، الشورى: 33].
والصبر -أيها المسلمون- خلق عظيم، يملك به المسلم حبس نفسه عن الجزع والهلع عند وقوع البلاء، ويمنع لسانه عن التشكي والتسخط، ويمنع جوارحه عن اللطم والإفساد والتهور وغير ذلك... وهو خلق يظهر به حسن أدب المسلم عند وقوع البلاء به، ويظهر به غناه بربه وتعلقه به عن أن يظهر الشكوى والسخط، وهو خلق إذا اكتسبه المسلم وجدته منشرحًا في كل حين، لذا يجيد التفكير في الأمور؛ فـ"الصبر ضياء"، حتى وهو يتجرع المرارة لا تجد به عبوسًا وضيقًا، وكيف يضيق من كان قلبه وفكره مع من بيده مفاتيح الفرج وتفريج الكرب؟! وكيف يشكو لمن هو محتاج للرحمة ومعه من بيده خزائن الرحمة؟! وقد سمع أحد الصالحين رجلاً يشتكي إلى أخيه فقال له: يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.
وفي ذلك قيل:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما *** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
فإن من الناس من أدمنوا شكوى الخالق للمخلوق، حالهم دائمًا الضجر والتأفف، واستعراض بلاياهم ومصائبهم في كل مكان وفي كل مجلس، فشيمتهم التشكي، وطبيعتهم التأفف والتضجر، وإنما الشكوى النافعة هي الشكوى إلى الله؛ فهي لا تنافي الصبر، فهذا يعقوب عليه السلام مع قوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يقول: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) [يوسف: 86]، وكذلك أيوب عليه السلام قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [لأنبياء:83]، مع قول الله -عز وجل- فيه: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص: 44]، فشيمة المؤمن إذًا -إن حَلَّت به المصيبة- أن يكون تعلقه بربه، إن شكى شكى له، وإن دعا دعاه ناطقًا بذلك الذكر العظيم: "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها".
عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَا مِن مسلمٍ تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها". فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟! أول بيت هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والصبر -أيها المسلمون- لا يكون بمجرد حبس اللسان عن الشكوى، وإظهار التجلد، وإنما لابد في الصبر من حبس القلب عن التسخط على المقدور، فمن تجلَّد في الظاهر وقلبه ساخط على القدر فليس بصابر، ومن كان قلبه خاليًا من السخط والجزع فهو صابر، وإن دمعت عينه.
والصبر عدة لازمة لكل حي؛ لأن الحياة لا تخلو من بلاء، وقد قيل في منثور الحِكَم: من أحب البقاء، فليُعِد للمصائب قلبًا صبورًا. وقال ابن عباس: أفضل العدة الصبر على الشدة. واعلم -أخي المسلم- أن من حسن التوفيق وأمارات السعادة: الصبر على الملمات، والرفق عند النوازل.
هذا، وقد يصاب الكثيرون بجزع متزايد عند المصيبة، ولذلك أسباب كثيرة يعميه بها الشيطان عن رؤية أي خير أو سلوى وراء تلك المصيبة؛ فمنها تذكر المصاب أو المصيبة حتى لا يتناساه، وتصور المصيبة في كل حين حتى لا تغرب عنه، فدوام تذكر المصيبة وبؤسها يزيد الجزع، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لا تستفزوا الدموع بالتذكر.
وقال الشاعر:
ولا يبعث الأحزان مثل التذكر
أما إن تذكر المصيبة إجمالاً للاتعاظ والعبرة فلا بأس، فهذا غير ذكرها من باب الحزن والحسرة.
ومنها أن يصور له الشيطان أن لا خلف ولا خير من بعد هذه المصيبة، فيصاب بالأسف وشدة الحسرة، فلا يرى من مصابه خلفًا، ولا يجد لمفقوده بدلاً، فيزداد بالأسف ولهًا، وبالحسرة هلعًا، ويغفل عن فضل الله ووعده، وحكمته وتدبيره في ملكه، ويغفل عن قوله -تبارك وتعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 22، 23].
يغفل ذلك المتسخط عن حكمة الله -عز وجل-، ويروح يكثر الشكوى والتسخط، ويبث الجزع والتضجر، تاركًا الصبر الجميل، فقد قيل في قوله تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً) [المعارج: 5]، قيل: إنه الصبر الذي لا شكوى فيه.
وحكي أن أعرابية دخلت من البادية، فسمعت صراخًا في دار، فقالت: ما هذا؟! فقيل لها: مات إنسان. فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرمون، وعن ثوابه يرغبون.
ولما مات ابنٌ لأبي طلحة تجملت له أم سليم وتزينت ولم تجزع. ولما مات عبد الله بن مطرف، خرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادَّهن، فغضبوا وقالوا: يموت عبد الله ثم تخرج في ثياب من هذه مدَّهنًا. قال: أفأستكين لها وقد وعدني ربي -تبارك وتعالى- ثلاث خلالٍ، كلٌّ خصلة منها أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؟! قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:156، 157].
هذا، وقد وعد الله بالجنة من ابتلي بفقد عينه فصبر، ومن ابتلي بفقد صفِيِّه أو خليله من الدنيا فصبر، ومن ابتلي بفقد ولده فحمد واسترجع، وأنه يبنى له في الجنة بيتًا يقال له: بيت الحمد.
ومن أسباب زيادة الجزع أن يغري الشيطان صاحب المصيبة بالنظر إلى غيره ممن عافاه الله منها، وبملاحظة من حيطت سلامته، وحرست نعمته، حتى اِلْتَحَفَ بالأمن والدعة، واستمتع بالثروة والسعة، فيرى أنه قد خُصَّ من بين الناس بالرزية والمصيبة بعد أن كان مساويًا لهم، فحينئذ لا يستطيع صبرًا على بلوى، ولا يلزم شكرًا على نُعمى.
وفي مقابل هؤلاء، من يتلقى المصيبة بتصورات ومشاعر غير هذه، فتسهل عليه المصائب، وتخف عليه الشدائد، ولذلك أسباب تؤدي إلى هذا التحمل والصبر: فمنها أن يعلم أن ما يقدره الله له خير مما يريده لنفسه.
* ومنها: أن يتذكر -عند نزول المصيبة- طبيعة الدنيا وأن ذلك شأنها؛ إذ إن لكل ما فيها آجالاً منصرمة، ومددًا منقضية؛ إذ ليس للدنيا حال تدوم، ولا لمخلوق فيها بقاء. قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما مثلي ومثل الدنيا إلا كمثل راكب، قال إلى ظل شجرة في يوم صائف، ثم راح وتركها".
وسئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن الدنيا فقال: تَغُرُّ، وتَضُرُّ، وتَمُرُّ.
ومن أسباب تسهيل المصائب، أن يتصور انجلاءها، وأن يتخيل الزمان قد مرّ وتبدلت الأحوال الحزينة والأحداث الكئيبة بأحوال سعيدة، ويتذكر أنه ما من شدة إلا وتنجلي، وما من هم إلا وينكشف، فالمصائب والهموم والشدائد تتقدر بأوقات محددة لا تنتهي قبلها ولا تدوم بعدها، وأن كل يوم يمر على المصيبة والشدة يذهب بجزء منها، حتى تنجلي وهو عنها غافل. وحكي أن أحد الخلفاء حبس رجلاً، ثم سأل عنه بعد زمان، فقال المحبوس: قل له -أي للخليفة-: كل يوم يمضي من نعيمك، يمضي من بؤسي مثله. ويقصد حتى ينجلي بؤسي وينتهي نعيمك.
وأنشد بعض الشعراء:
عواقب مكروه الأمور خيار *** وأيام ضر لا تدوم قصار
وليـس بباق بؤسها ونعيمها *** إذا كـر ليل ثم كر نهار
ومن أسباب تسهيل المصائب أن يتذكر العبد أن الله إن كان قد ابتلاه بمصيبة فقد دفع عنه مصائب كثيرة أعظم منها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، قد يكون الله ابتلاه بالمصيبة ليكفر عنه خطيئة من خطاياه، فيعجل له العقوبة في الدنيا، ليدفع عنه عقوبة الآخرة، وليرفع درجته يوم القيامة، وفي ذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة".
أو يتذكر أن البلاء -في المقابل- قد يكون تنبيهًا للغافل ليرجع إلى ربه ويتوب ويتضرع، كما قال -عز وجل-: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام: 42]، وقال -عز وجل-: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76]، (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168].
ومن أسباب تسهيل المصائب: أن يتأسى بأصحاب الفضل السابقين، ويتذكر ما أصابهم من بلاء، فيعلم أنه إن كان قد أصيب بشيء فقد ابتلي بأعظم منه من هو أفضل منه، والصالحون الفضلاء من النبيين والصديقين والشهداء، كلهم ذاقوا المصائب والمحن والابتلاءات، فلم تُسبب جزعهم، ولم تُنقص من فضلهم.
فلا عَجب للأسد إن ظفـرت بها *** كلاب الأعـادي من فصيح وأعجم
فحربة وحشي سقت حمزة الردى *** ومـوتُ عليٍّ من حسام ابن مُلجم
ومن أسباب تسهيل المصائب: أن يتذكر فائدتها في منحه خبرة بزمانه، وبأحوال الدنيا، فلا يغتر بحال ولا يركن إلى بقاء، كما يتذكر كذلك ما تمنحه المصائب له من بدائل نافعة؛ منها أن يصلُبَ عوده بالشدائد، ويستقيم عموده، ويكتسب حنكة في مواجهة الشدائد والمحن، وسيبقى له ما اكتسبه، أما الشدة فهي زائلة، وستذهب آثارها المؤلمة، وتبقى آثارها النافعة، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19]، فما للمرء وما للجزع، وما للنفس وما للفزع، وما للقلب وما للسخط، أنشد ابن دريد عن أبي حاتم:
إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ القُلُوْبُ *** وَضَاْقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيْبُ
وأَوْطَنَـتِ المَكَارِهُ واطْمَأَنَّـتْ *** وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الخُطُوْبُ
وَلَمْ تَرَ لانكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا *** وَلاَ أَغْـنَى بِحـيْلَتِهِ الأَرِيْـبُ
أَتَاكَ عَلَى قُنُوْطٍ مِنْـكَ غَوْثٌ *** يَمُـنُّ بِـهِ اللَّطِيْفُ المُسْتَجِيْبُ
وَكُـلُّ الحَادِثَاتِ إذَا تَنَاْهَـتْ *** فَـمَوْصُولٌ بِهَـا فَرَجٌ قَرْيَبُ
وينسب للشافعي -رحمه الله-:
دع الأقـدار تفعـل ما تـشاء *** وطب نفسًا إذا حكم القـضاء
ولا تـجزع لـحـادثة اللـيالي *** فمـا لـحوادث الدنـيا بقاء
وكن رجـلاً على الأهوال جلدًا *** وشيـمتك السماحـة والوفـاء
ورزقـك ليـس ينقصـه التأني *** ولـيس يزيد فـي الرزق العناء
ولا حـزن يـدوم ولا سـرور *** ولا بـؤس عليك ولا رخـاء
إذا مـا كـنت ذا قلب قـنوع *** فـأنت ومـالك الدنيا سـواء
اللهم ارزقنا الصبر على البلاء، والشكر في النعماء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالصبر -أيها المسلمون- لا يقتصر على الصبر في المصيبة والبلية ذاتها، بل يدخل فيه كذلك الصبر على المتوقع من المصائب، بمعنى عدم الجزع من أمر يخشى حدوثه، أو رهبة يخافها، أو نكبة يحذر من وقوعها، فيبيت قلقًا فزعًا، فذلك من قلة الصبر، وربما كان توقع البلاء أشد من وقع البلاء نفسه؛ ولذلك قال الحسن البصري -رضي الله عنه-: لا تحملن على يومك هم غدك، فحسب كل يوم همه.
ويقابل الصبر على الشدة قبل وبعد وقوعها الصبر على الرخاء قبل وبعد وقوعه؛ فالبعض إن حلت به نعمة لم يطق الصبر عليها، بل يطغى ويتبطر ويختال، ويصاب بهوس من شدة الطرب، وكذلك قد يتوقع الرجل مالاً يصل إليه أو منصبًا يناله، فيبيت قلقًا من الشوق للنعمة، ويصاب بالدهش من شدة التعلق بها والتوقع لها؛ حتى إنه قد يندفع للخطأ لتحقيق مطامعه، وقد يزول وقاره وانضباطه بسبب قلة صبره على ما يتوقعه من نعمة.
إذن فالمصيبة تحتاج لصبر على توقعها، وصبر على وقوعها، والنعمة تحتاج إلى صبر على توقعها وانتظارها، وصبر على حلولها: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد: 23].
والصبر على النعمة أشد من الصبر على المحنة، ومثل الصابر في النعمة والصابر في المحنة كالجائع عند حضور الطعام اللذيذ والجائع عند غيبة الطعام، فالأول أصبر من الثاني، وقال عبد الرحمن بن عوف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
وذلك لأن الإنسان يتخدر ويغفل في الرخاء، أما في الشدة فينتبه ويتحفز؛ ولذلك كان المشركون يغفلون عن الله في الرخاء، ويخلصون له في الشدة، ولذا قال تعالى: (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [المنافقون: 9]، فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية كما يصبر على الشدة.
وهنالك أنواع أخرى من الصبر غير الصبر على الضراء والسراء؛ فمنها الصبر على أداء الطاعات، ويعقبه صبر آخر بعدها، وهو الصبر عن إفشائها والتفاخر بها. ومن أنواع الصبر: الصبر عن فعل المعاصي والمنكرات، والصبر على تحمل الأذى والفتنة التي قد تسلط بها عدو من أعداء الله على عباد الله المؤمنين، أو ما يحل على من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
فالصبر -أيها المسلمون- باب واسع عظيم، ولكن قد يعرف بأسماء غير اسم الصبر حسب ما يكون فيه، فإن كان صبرًا عن شهوة البطن والفرج سُمِّي عفة، وإن كان صبرًا في قتال سُمِّي شجاعة، وإن كان في كظم غيظ سُمِّي حلمًا، وإن كان في نائبة مضجرة سُمِّي سعة صدر، وإن كان في إخفاء أمر سُمِّي كتمان سر، وإن كان في فضول عيش سُمِّي زهدًا، وإن كان صبرًا على قدر يسير من الحظوظ سُمِّي قناعة.
وأما المصيبة فإنه يقتصر فيها على اسم الصبر، فقد بان بما ذكرنا أن أكثر أخلاق الإيمان داخلة في الصبر؛ لأن في كل ما ذكرنا نوعًا من حبس النفس عن شيء من الأشياء، وذلك من معنى الصبر، وإن اختلفت الأسماء باختلاف المتعلقات، فالعبد لا غنى له عن الصبر في جميع أحواله: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل: 126].
ولا يكون أمر المؤمن خيرًا كله إلا بالصبر، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".
اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين الشاكرين، ولا تجعلنا من القانطين المغرورين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم