الصبر عند أول الصدمة

د عبدالعزيز التويجري

2022-10-07 - 1444/03/11 2022-10-19 - 1444/03/23
عناصر الخطبة
1/وقع المصيبة على النفس بداية حدوثها شديد والصبر بدايتها يهون تبعاتها 2/صور من صبر النبي عليه الصلاة والسلام وثباته 3/دموع المصاب رحمة وتنفيس وليس بالضرورة أن تكون جزعا 4/الصبر مع الصلاة دعامتان راسختان لمواجهة البلايا والرزايا

اقتباس

والمصائب والآلام وحوادث الزمان يرفع الله بها للعبد المقام، وتكفر بها السيئات والآثام، قال أحد السلف وقد رفسته بغلة فكسرت قدمه "لولا المصائب لقدمنا على الله مفاليس".

الخطبة الأولى:

 

الحمدلله نورَ قلوبَ العارفين بالإيمان واليقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين؛ أما بعد:

 

أخرج البخاري ومسلم عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أنه قال لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ: تَعْرِفِينَ فُلاَنَةَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِهَا وَهِيَ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: "اتَّقِي اللَّهَ، وَاصْبِرِي"، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِي، وَمَا تُبَالِي فيها، قَالَ: فَجَاوَزَهَا وَمَضَى، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ فَقَالَ: مَا قَالَ لَكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَتْ: مَا عَرَفْتُهُ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ الصَدْمَةٍ".

 

ووقع المصيبة في بدايتها على النفس شديد، وعلى النفس حمل ثقيل، وفي هذا الحديث توجيه نبوي تربوي نفسي على أن الصبر والتجلد والتحمل وترويض النفس في أول وقع المصيبة يهون على النفس ما بعدها، ويستطيع أن يتكيف مع فصولها وأحداثها ويهون المخرج منها "إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ الصَدْمَةٍ"؛ فإذا تجاوز الإنسان أولها بصبر وثبات وتجلد، هان عليه آخرها ولو اشتدت ..

 وتَجَلُّدِي للشامِتين أُرِيهِمُ *** أنِّي لرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَضَعْضَعُ

 حتّى كأنّي للحوادثِ مَرْوَةٌ *** بصَفَا المُشَّرقِ كلَّ يومٍ تُقْـــرَعُ

 ولقد أَرَى أنّ البكاءَ سفاهةٌ *** ولسوف يُولَعُ بالبُكا من يُفْجَعُ

 

تمر بالإنسان مخاوف وأخطار، ومحن وأكدار، ومصائب الدنيا لا ينجوا منها أحد؛ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ).

ابتلاء ومصائب بالنفس أو بالمال أو بالولد، وأعظمها المصيبة في الدين؛ (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

 

 طُبعت على كدرٍ وأنت تريدُها *** صفواً من الأقذاء والأكدار

 ومكلّف الأيَّامٍ ضدَّ طباعها *** متطلّبٌ في الماءِ جذوة نار

 بينا يُرى الانسانُ فيها مخبراً *** حتى يُرى خبراً من الاخبار

 

ومن أصيب في أولاده، أو ماله أو جسده أو أوذي في دينه، فليتعزى برسول الأنام -عليه الصلاة والسلام-؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)؛ فقد مات بعضُ أبنائه بين يديه.. قال أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى ابنه إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ابنه إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ"، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ: "إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ".

 

 وأَرْسَلَتِ إحدى بنات النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ، فَأْتِنَا، فقال: "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ"، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فدخل فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: "هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"(أخرجه البخاري).

 

ورميت زوجته الصديقة، قالت عائشة -رضي الله عنها- فَبَكَيْتُ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، واسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَاسْتَعْذَرَ وقال "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا"(الحديث أخرجه البخاري).

 

وأوذي في ذات الله، قالت عائشة -رضي الله عنها- يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ "، إِنْ شِئْتَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ "، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".

 

 وكلما صرعتكَ النائباتُ فقلْ *** يا سيدي ويا إلهي خذْ بيدي

 

والصبر مفتاح الفرج (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).

 

 واصْبرْ لمرِّ حوادِثِ الدّهْرِ *** فَلتَحْمدَنّ مغبّةَ الصّبرِ

 

(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

 

والمصائب والآلام وحوادث الزمان يرفع الله بها للعبد المقام، وتكفر بها السيئات والآثام، قال أحد السلف وقد رفسته بغلة فكسرت قدمه "لولا المصائب لقدمنا على الله مفاليس".

 

وأعظم ما يثبت القلب عند نزل المصيبة قول: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فهي الطمأنينة والسكينة والاطمئنان؛ (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

 

ويعقوب -عليه السلام- لما فقد يوسف وطال عليه الأمد وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ؛ أي لم يظهر الشِّكَايَةَ مَعَ أَحَدٍ من الخلق، وإنَّما قال (إنما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ).

 

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاِتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

 

أستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات إن ربنا لغفور شكور

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا وصلى الله وسلم على عبده ورسوله المصطفى؛ أما بعد:

 

حين يطول الأمدُ بانتفاشِ الباطلِ، وقلةِ الناصرِ، وطول الطريقِ الشائكِ، ويشقُ الجهدُ على النفوسِ من ضيقِ الحالِ، واختناقِ المعيشةِ، عندها قد يضعف الصبرُ أو ينفد، إذا لم يكن هناك زادُ ومدد.. هنا تأتي الصلاةُ لتعضدَ الصبرَ، وتُثَبتَ الجنانَ؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزادُ الذي لا ينفد.. المعين الذي يجددُ الطاقةَ؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع، لتُضيفَ الصلاةُ للصبرِ الرضى والبشاشةَ، والطمأنينةَ والثقةَ...  "أرِحْنا بالصَّلاةِ يا بلالُ "، يقولها عليه الصلاة والسلام عندما تشتدُ الحالُ ليقوى الصبر على مشاق الحياة، فتضفي الراحةَ والطمأنينةَ والثقةَ الموقدةَ للعملِ والجهادِ، والتعليمِ والمجاهدة.

 

الصبر مع الصلاة.. هما الوسيلةُ الفعالةُ للنجاح والتغلبِ على الصعاب.. "قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى تَفَطَّرَت وتشققت قَدَمَاهُ"؛ ليتحمل بعدها أعمالا تتشقق من عظمها الجبالُ الراسياتُ صبرا وثباتا ..

 

الصبرُ مع الصلاةِ وقودٌ وقوةٌ للعطاءِ والتحمل.. قَالَ حُذَيْفَةُ -رضي الله عنه-: " كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى"(أخرجه أبوداود).

 

(يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ).

 

اللهم طمئن قلوبنا بالرضا واليقين والثبات على الدين وصل وسلم على نبينا محمد إمام المرسلين وقائد الغر المحجلين ...

المرفقات

الصبر عند أول الصدمة.pdf

الصبر عند أول الصدمة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات