الشيطان يعدكم الفقر

محمد بن عبدالله السحيم

2022-01-28 - 1443/06/25 2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/التخويف بالفقر من أساليب الشيطان 2/من آثار خوف الفقر 3/العلاج الرباني للخوف من الفقر 4/من أقوال السلف عن الفقر والغنى

اقتباس

قيل لبعضِهم: مِن أينَ تأكلُ؟ قال: "الذي خلَقَ الرَّحى يأتيها بالطحينِ، والذي شَدَقَ الأشداقَ هو خالقُ الأرزاقِ", وقيل لأبي أُسيدٍ: من أين تأكلُ؟ فقال: "سبحانه اللهُ, واللهُ أكبرُ! إنَّ اللهَ يرزقُ الكلبَ؛ أفلا يرزقُ أبا أُسيدٍ؟!...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

 

أما بعدُ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

أيُّها المؤمنون: عداءُ الشيطانِ للبشرِ عداءٌ أزليٌّ؛ وُجِدَ منذُ نشأتِهم، ولن تَنِيَ ضراوتُه حتى يَفنى آخرُ دارجٍ منهم, وله في حربِهم وإضلالِهم أساليبُ شتّى، يأتي في مُقَدَّمِها أسلوبُ التخويفِ، سيما ما يتعلّقُ بإملاقِ الرزقِ وانقطاعِه والوعدِ بالفقرِ، كما قال -تعالى-: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)[البقرة: 268].

 

وما تسلَّطَ على الخلْقِ بمثْلِ ذلك التخويفِ والتهديدِ، وأجلبَ عليهم فيه؛ إلا لِعلمِه بما جُبِلَتْ عليه نفوسُهم من حبِّ المالِ، كما قال -سبحانَه-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 20]، وولعِهم بالمحسوسِ المُعاينِ عن الغائبِ الموعودِ، وإيثارِهمُ العاجلةَ وحبَّ التَّرَفُّهِ، وانفتانِهم بسوابغِ نعمِ الدنيا التي يُبتلى بها البعضُ، وما يُحدثُه ذلك التخويفُ في قلوبِهم من هزِّ الثوابتِ، وتسهيلِ ارتكابِ المآثمِ، بل الموبقاتِ؛ فما مُنِعتِ الحقوقُ، ولا امتدتْ يدُ الإثمِ بأخذِ المالِ المصونِ، ولا سُفِكَ الدمُ المعصومُ، ولا اسْتُبيحَ الفرجُ الحرامُ، ولا أُسيءَ الظنُّ باللهِ، ولا انقطعَ الرِّفْدُ ورعايةُ الضعيفِ، وفَشَتِ الأَثَرةُ، وغدا المالُ مَعْقِدَ الإخاءِ والقطعيةِ بمثْلِ ذلك التخويفِ الشيطانيِّ؛ ولذا قُرِنَ وعْدُ الشيطانِ بأمْرِه بالفحشاءِ، وهي المنكراتُ البالغةُ في السوءِ والفُحْشِ مبْلغًا عظيمًا؛ لقوةِ إفضائه لها, قال سفيانُ الثوريُّ: "ليس للشيطانِ سلاحٌ كخوفِ الفقرِ، فإذا قَبِلَ ذلك منه؛ أخذَ بالباطلِ، ومنعَ من الحقِّ، وتكلَّمَ بالهوى، وظنَّ بربِّه ظنَّ السوءِ".

 

وربما نفَثَ الشيطانُ سُمَّ ذلك التخويفِ في النفوسِ بإلقاءِ الوساوسِ، وربما اكتفى بما يُلقيه على ألسنِ مَن فتَنَهم وأسكرَهم حبُّ الدنيا؛ فباتوا يُخوِّفون الناسَ من المستقبلِ المجهولِ، والفقرِ المائيِّ، والتَّصَحُّرِ الجُغرافيِّ، والانفجارِ السكانيِّ، وتفشِّي البطالةِ، ونُضوبِ الثرواتِ, فكيف كان العلاجُ الربانيُّ للسلامةِ من ذلك التخويفِ الشيطانيِ؟.

 

عبادَ اللهِ: إنَّ خالقَ الإنسانِ، وعالِمَ ضعْفِه، والخبيرَ بتسلُّطِ الشيطانِ عليه, قد أرشدَ برحمتِه وهدايتِه إلى طريقِ النجاةِ من ذلك الفخِّ الوخيمِ؛ الذي به يُحقَّقُ الإيمانُ، وينخَنسُ الشيطانُ، ويَملأُ حسنُ الظنِّ باللهِ أركانَ الوجودِ، ويُضيئُ بنورهِ حنادسَ المضائقِ، ويُبدِّدُ بقوتِه جحافلَ المخاوفِ، وتَطِيبُ الحياةُ، ويُبارَكُ الرزقُ، وتُقامُ الحقوقُ، وتُحفظُ الكرامةُ، ويُنصَرُ الدِّينُ.

 

وأساسُ بناءِ تلكمُ النجاةِ اليقينُ الجازمُ بتفردِ اللهِ بالرزقِ، وتقديرِه له قبلَ خلْقِ الخلْقِ، وتكفُّلِه به، وأنه لا معطيَ لما مَنَعَ، ولا مانعَ لما أعطى، وأنَّ رِزقَ اللهِ لا يَجُرُّه حِرْصُ حريص، ولا يردُّه كراهيةُ كارهٍ، وأنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستوفيَ رزقَها, قال اللهُ -تعالى-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود: 6]، ويقولُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيد"(رواه مسلمٌ), ويقولُ: "إنَّ رُوحَ القدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ رزقَها؛ فاتقوا اللهَ، وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ"(رواه أبو عبيدٍ وصحّحه الألبانيُّ), ويقولُ: "لا تستبطئوا الرزقَ؛ فإنه لم يكنْ عبدٌ لِيموتَ حتى يَبلغَ آخرَ رزقٍ هو له، فأجْملوا في الطَّلبِ؛ أَخْذُ الحلالِ، وترْكُ الحرامِ"(رواه الحاكمُ وصحّحه على شرطِ الشيخين ووافقه الذهبيُّ), قال أبو سليمانَ الدارانيُّ: "مَن وَثِقَ باللهِ في رزقِه؛ زاد في حُسْنِ خُلُقِه، وأعْقبَه الحِلْمَ، وسَخَتْ نفسُه في نفقتِه، وقلّتْ وساوسُه في صلاتِه".

 

والالتجاءُ إلى اللهِ، والاحتماءُ بحِماه عاصمٌ -بإذنه- من ذلك النزغِ الشيطانيِّ، يقولُ -تعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأعراف: 200]، وإنْ جُمِعَ مع الاستعاذةِ الاستغفارُ فذاك أقوى في طلبِ السلامةِ؛ إذ ما سُلِّطَ الشيطانُ إلا بذنبٍ، يقولُ عبدُاللهِ بنُ مسعودٍ -رضي اللهُ عنه-: "إِنَّ لِلْمَلِكِ لَمَّةً، وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ الْمَلِكِ إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَهَا فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ"(رواه عبدُالرزاقِ وحسَّنه الألبانيُّ)، وفي روايةِ الطبرانيِّ: "وإذا وجدتم لمّةَ الشيطانِ؛ فاستعيذوا باللهِ، واستغفروه".

 

والقناعةُ بقسمةِ اللهِ الرزقَ، والرضا عنه، واستحضارُ حياةِ الواثقين باللهِ الذين عاشوا هذه القناعةَ والرضا واليقينَ حالًا وواقعًا في حياتِهم؛ فكانت مواقفُهم للمؤتسين عزاءً وسَلْوةً من أبلغِ ما تُطْرَدُ به وساوسُ الشيطانِ ومخاوفُه، ومن أقوى ما يقوّي قلبَ المرءِ إزاءَ إجلابه عليه بسلاحِ الفقرِ، وإمامُهم الرائدُ في ذلك رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يُخرجُه الجوعُ من بيته بحثًا عن لقمةٍ تُسَكِّنُه، وكان يرِبطُ الحجرَ على بطنِه، ويَمضي عليه الشهران لا يجدُ طعامًا سوى الأسودين؛ الماءِ والتمرِ.

 

وعلى نهْجِه سارَ أئمةُ الهدى من أصحابِه وتابِعِهم بإحسانٍ؛ لا يَحملُهم تخويفُ الشيطانِ وتهديدُه بقطْعِ الأرزاقِ على سوءِ الظنِّ بربِّهم، أو يصدُّهم خوفُ الإقتارِ عن الإنفاقِ، أو يُلْجِؤُهم إلى الدَّنيةِ والمذلةِ؛ ثقةً بحسنِ جزاءِ ربِّهم، وجزيلِ خلَفِه، وحفْظِه لمن قامَ بأمرِه, قيل لبعضِهم: مِن أينَ تأكلُ؟ قال: "الذي خلَقَ الرَّحى يأتيها بالطحينِ، والذي شَدَقَ الأشداقَ هو خالقُ الأرزاقِ", وقيل لأبي أُسيدٍ: من أين تأكلُ؟ فقال: "سبحانه اللهُ, واللهُ أكبرُ! إنَّ اللهَ يرزقُ الكلبَ؛ أفلا يرزقُ أبا أُسيدٍ؟!", وقيل لحاتمٍ الأصمِّ: من أين تأكلُ؟ فقال: "من عندِ اللهِ،" فقيل له: اللهُ يُنزِلُ لك دنانيرَ ودراهمَ من السماءِ؟! فقال: "كأنَّ ما له إلا السماءُ؟! يا هذا: الأرضُ له، والسماءُ له، فإنْ لم يُؤْتني رزقي من السماءِ ساقه لي من الأرضِ"، وأنشدَ:

 

وكيف أخافُ الفقرَ واللهُ رازقي *** ورازقُ هذا الخلْقِ في العسرِ واليسرِ

تكفَّلَ بالأرزاقِ للخلْقِ كلِّهم *** وللضبِّ في البيداءِ والحوتِ في البحرِ

 

وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: كَيْفَ أَخَافُ الْفَقْرَ، وَلِمَوْلايَ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِمَا، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى؟! قال بعضُ أهلِ العلمِ: "قرأتُ في تسعينَ موضعًا من القرآنِ أنَّ اللهَ قدَّرَ الأرزاقَ وضمِنها لخلْقِه، وقرأتُ في موضعٍ واحدٍ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)[البقرة: 268]، فشككنا في قولِ الصادقِ في تسعين موضعًا، وصدَّقنا الكاذبَ في موضعٍ واحدٍ!".

 

شكا رجلٌ إلى إبراهيمَ بنِ أدهمَ كثرةَ العيالِ، فقال: "ابعثْ إليّ منهم مَن لا رزقهُ على اللهِ", فسكتَ الرجلُ. وقال حاتمُ الأصمُّ: "لي أربعةُ نسوةٍ، وتسعةٌ من الأولاد، ما طَمِعَ الشيطانُ أنْ يوسوسَ إليَّ في شيءٍ من أرزاقِهم", وقال مسروقُ بنُ الأجدعِ: "أوْثقُ ما أكونُ بالرزقِ حين يجيءُ الخادمُ، فيقولُ: ما في البيتِ طعامٌ، ولا دقيقٌ، ولا ماءٌ", وأصبحَ يومًا وليس لعيالِه رزقٌ، فجاءتُه امرأتُه قُميرٌ، فقالت له: يا أبا عائشةَ! إنه ما أصبحَ لعيالِك اليومَ رزقٌ، فتبسمَ وقال: "واللهِ ليأتينَّهم اللهُ برزقٍ", وَقَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ: "كُنْتُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّي، وَكَانَ يُؤْتَى بِرِزْقِي حَتَّى يُوضَعَ فِي فَمِي، حَتَّى إِذَا كَبِرْتُ وَعَرَفْتُ رَبِّي سَاءَ ظَنِّي، فَأَيُّ عَبْدٍ أَشَرُّ مِنّي؟!".

 

قال عبدُاللهِ بنُ عبدِالحكمِ للشافعيِّ: إنْ عزمتَ أنْ تسكنَ مصرَ؛ فليكنْ لك قوتُ سنةٍ، ومجلسٌ من السلطانِ تتعزَّزُ به، فقال له الشافعيُّ: "يا أبا محمدٍ! مَن لم تُعِزّه التقوى فلا عزَّ له، ولقد وُلِدتُ بغزةَ، ورُبِّيتُ بالحجازِ، وما عندنا قوتُ ليلةٍ، وما بِتْنَا جياعًا"، وقال: "لا يستوحشْ أحدُكم من الإفلاسِ؛ فإني قد أفلستُ ثلاثَ مراتٍ، ثم أيْسَرْتُ", وقال مُحَمَّدُ بن بَحرٍ الشجينيُّ: "كنتُ أخافَ الفقرَ مع ما كنتُ أملكُ من المالِ، فَقالَ لي يَوْمًا أبُو حَفْصٍ النيسابوري: إنْ قضى اللهُ عَلَيْك الفقرَ لا يقدرُ أحدٌ أنْ يُغْنِيك؛ فَذهبَ خوفُ الفقرِ من قلبِي رَأْسًا".

 

وقال أحمدُ بنُ سلمانَ القطيعيُّ: "أضقتُ إضاقةً، فمضيتُ إلى إبراهيمَ الحربيِّ؛ لأبثَّه ما أنا فيه، فقال لي: لا يضيقُ صدرُك؛ فإنَّ اللهَ من وراءِ المعونةِ، وإني أضقتُ مرةً حتى انتهى أمري في الإضاقةِ إلى أنْ عَدِمَ عيالي قوتَهم، فقالت لي الزوجةُ: هبْ أنّي وإياك نصبرُ؛ فكيف نصنعُ بهاتين الصبيتين؟! فهاتِ شيئًا من كتبِك حتى نبيعَه أو نرهنَه، فضننتُ بذاك، وقلتُ: اقترضي لهما شيئًا، وأنظريني بقيةَ اليومِ والليلةِ، وكان لي بيتٌ في دهليزِ داري فيه كتبي، فكنتُ أجلسُ فيه للنسخِ والنظرِ، فلما كان في تلك الليلةِ إذا داقٌّ يدقُّ البابَ، فقلتُ: مَن هذا؟ فقال: رجلٌ من الجيرانِ، فقلتُ: ادخلْ، فقال: اطفئِ السراجَ حتى أدخلَ، فكببتُ على السراجِ شيئًا، وقلتُ: ادخلْ، فدخلَ وتركَ إلى جانبي شيئًا، وانصرفَ، فكشفتُ عن السراجِ ونظرتُ فإذا منديلٌ له قيمةٌ، وفيه أنواعٌ من الطعامِ، وكاغدٌ فيه خمسمائةِ درهمٍ، فدعوتُ الزوجةَ، وقلتُ: أنبهي الصبيانَ حتى يأكلوا، ولمّا كان من الغدِ قضينا دَيْنًا كان علينا من تلك الدراهمِ، وكان وقتَ مجيءِ الحاجِّ من خراسانَ، فجلستُ على بابي من غدِ تلك الليلةِ، وإذا جمّالٌ يقود جملين عليهما حِمْلانِ وَرِقًا (فضةً), وهو يسألُ عن منزلِ إبراهيمَ الحربيِّ، فانتهى إلي، فقلت: أنا إبراهيمُ الحربيُّ، فحطَّ الحِملينِ، وقال: هذان الحِمْلانِ أنفذَهما لك رجلٌ من أهلِ خراسانَ، فقلتُ: مَن هو؟ فقال: قد استحلفني أن لا أقولَ مَن هو!".

 

وزرعَ قومٌ مِنَ الأَعْرَابِ زَرْعًا، فَلَمَّا بَلَغَ أَصَابَتْهُ آفَةٌ فَذَهَبَتْ بِهِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى رُؤِيَ فِيهِمْ، فَخَرَجَتْ أَعْرَابِيَّةٌ مِنْهُمْ، فَقَالَتْ: "مَا لِي أَرَاكُمْ مُتَغَيِّرَةً أَلْوَانُكُمْ، مَيِّتَةً قُلُوبُكُمْ؛ هُوَ رَبُّنَا؛ فَلْيَفْعَلْ بِنَا مَا يَشَاءُ، وَرِزْقُنَا عَلَيْهِ، يَأْتِي بِهِ مِنْ حَيْثُ يَشَاءُ، ثُمَّ أَنْشَدَتْ تَقُولُ:

 

لَوْ كَانَ فِي صَخْرَةٍ فِي الْبَحْرِ رَاسِيَة  *** صَمَّاءَ مَلْمُومَةٍ مُلْسٍ نَوَاحِيهَا

رِزْقُ نَفْسٍ بَرَاهَا اللَّهُ لانْفَلَقَت *** حَتَّى تُؤَدِّي إِلَيْهِ كُلَّ مِا فِيهَا

أَوْ كَانَ بَيْنَ طِبَاقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا *** لَسَهَّلَ اللَّهُ فِي الْمَرَاقِي مَرَاقِيهَا

حَتَّى تَنَالَ الَّذِي فِي اللَّوْحِ خُطَّ لَهَا *** فَإِنْ أَتَتْهُ وَإِلا سَوْفَ يَأْتِيهَا

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.

 

أما بعدُ: فاعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

أيها المؤمنون: شتانَ بين وعْدِ الفقرِ الشيطانيِّ ووعْدِ الفضلِ الربانيِّ؛ (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 268], قال ابنُ القيمِ: "هذا، وإنَّ وعْدَه له الفقرَ ليسَ شفقةً عليه، ولا نصيحةً له كما ينصحُ الرجلُ أخاه، ولا محبةً في بقائه غنيًا، بل لا شيءَ أحبَّ إليه من فقرِه وحاجتِه، وإنما وعْدُه له بالفقرِ وأمْرُه إياه بالبخلِ؛ ليسيءَ ظنَّه بربِّه، ويتركَ ما يحبُّه من الإنفاقِ لوجهِه؛ فيستوجبَ منه الحرمانَ, وأمّا اللهُ -سبحانَه- فإنَّه يَعِدُ عبدَه مغفرةً منه لذنوبِه، وفضلًا بأنْ يَخْلِفَ عليه أكثرَ مما أنفقَ وأضعافَه؛ إمّا في الدنيا، أو في الدنيا والآخرةِ، فهذا وعْدُ اللهِ، وذاك وعْدُ الشيطانِ؛ فلينظرِ البخيلُ والمنفقُ أيَّ الوعْدين هو أوثقُ؟ وإلى أيِّهما يطمئنُ قلبُه وتسكنُ نفسُه؟ واللهُ يوفقُ مَن يشاءُ، ويخذلُ مَن يشاءُ، وهو الواسعُ العليمُ".

 

دلّاهمُ بغُرورٍ ثم أوْردهم *** إنَّ الخبيثَ لمن والاه غرَّارُ

 

هذا، وإن مما يُعلمُ ضرورةً من الدِّينِ أنه لا تعارضَ بين تيقُّنِ الرزقِ وعدمِ الخوفِ من الفقرِ وسعْيِ المرءِ في طلبِ الرزقِ من أسبابِه المشروعةِ، وحسنِ تدبيرِه نفقتَه ومعيشتَه؛ بل ذاك من تكليفِ الشرعِ، وحصيفِ الأمرِ، ومما يقوي الثقةَ باللهِ؛ إذ ذاك أمْرُه كما كان تفردُّه بالرزقِ وتخويفُ الشيطانِ بالفقرِ خبرُه؛ وكَانَ يُقَالُ: "حُسْنُ التَّدْبِيرِ مِفْتَاحُ الرُّشْدِ، وَبَابُ السَّلَامَةِ الِاقْتِصَادُ"، وقال أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ! إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْكَ فَوَسِّعْ، وَإِذَا قَتَّرَ عَلَيْكَ فَاقْتُرْ، وَلَا تُجَاوِدِ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّهُ أَكْرَمُ، وَأَقْدَرُ، وَأَجْوَدُ".

 

 

المرفقات

الشيطان يعدكم الفقر.pdf

الشيطان يعدكم الفقر.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات