عناصر الخطبة
1/حتمية لقاء الله تعالى 2/من فوائد وحسنات اليقين بلقاء الله 3/رؤية الله تعالى غاية المحبين المشتاقين للقاء رب العالميناقتباس
الشوق إلى لقاء الله نسيمٌ يهب على القلب، يُروِّحُ عنه وهجَ الدنيا، ويُخفِّف عنه آلامَها، ومَنْ أَنِسَ بالله واشتاقَ إلى لقائه فقد فازَ بأعظمِ لذةٍ يُمكن لبشرٍ الوصولُ إليها في هذه الدار؛ والشوقُ إلى لقاءِ اللهِ حادٍ يَحْدُو العبدَ إلى التقربِ إلى مولاه، بل هو ثمرة حُسن العَلاقة مع الله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الرحيم الودود، تودد إلى عباده بصفات كماله، وهو الغني الحميد، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوث بالرحمة إلى جميع العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الوعيد.
أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون: اتقُوا ربَّكم؛ فتقواه خير الزاد، وأفضل ما قدمه العباد ليوم المعاد؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)[الْحَجِّ: 1].
أيها الناسُ: لقاءُ اللهِ -تعالى- حتمٌ لا مفرَّ منه، وهو واقعٌ بالجنِّ والإنسِ لا محيدَ لهم عنه؛ وذلك يومَ الحشرِ للجزاء على أعمالِهم، فملاقٍ ربَّه فائزٌ قد قرَّت عينُه بمحبوبِه، فذاكَ لقاءُ الفوزِ والكرامةِ، وملاقٍ خاسرٌ فذاكَ لقاءُ خزيٍ وندامةٍ، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الِانْشِقَاقِ: 6]، وقال عليه الصلاة والسلام: "وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلَكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ".
عبادَ اللهِ: اليقينُ بلقاءِ اللهِ -تعالى-، ودوامُ استحضارِه مِنْ أعظمِ ما يُعِين العبدَ على الوفاء بعهده مع ربِّه، والثباتِ على دِينِه، والصبرِ على طاعتِه، ورجاءِ حُسنِ ثوابِه والخوفِ من أليمِ عقابِه؛ (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[الْبَقَرَةِ: 223]، وهو عُدَّةُ العبدِ في مواجَهةِ الشدائدِ والكربِ، وعواصف الفتن والنوب؛ (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 249].
وحُقَّ لكلِّ عبدٍ عَمِلَ للقاءِ ربِّه واستعدَّ لذلك اليوم أَنْ يشتاقَ إلى لُقياه جلَّ ثناؤُه؛ فإنما يُلاقي العبدُ مولاه الذي آثَر حبَّه على جميع محابِّه، وقدَّم مرضاتَه على كلِّ رغائبِه.
عبادَ اللهِ: الشوق إلى لقاء الله نسيمٌ يهب على القلب، يُروِّحُ عنه وهجَ الدنيا، ويُخفِّف عنه آلامَها، ومَنْ أَنِسَ بالله واشتاقَ إلى لقائه فقد فازَ بأعظمِ لذةٍ يُمكن لبشرٍ الوصولُ إليها في هذه الدار؛ والشوقُ إلى لقاءِ اللهِ حادٍ يَحْدُو العبدَ إلى التقربِ إلى مولاه، بل هو ثمرة حُسن العَلاقة مع الله، فإنَّما يُحِبُّ لقاءَ اللهِ ويشتاقُ إليه مَنْ عمَّر قلبَه بتوحيد الله ومحبتِه ورجائه وخوفِه، وأكثَر مِنْ ذِكرِه، وَعَمِلَ عملًا صالحًا خالصًا لمولاه، لا يرجو فيه أحدًا سواه؛ (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الْكَهْفِ: 110].
والشوق إلى الله ومحبة لقائه -يا عباد الله- ثوابٌ عظيمٌ معجَّلٌ لأهلِ ولايةِ اللهِ، يُواسِيهم به، ويُذِيقهم من حلاوة لقائه قبلَ الوفود عليه، ويستقبلُهم به قبلَ قدومهم إليه، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْعَنْكَبُوتِ: 5]، وقال عليه الصلاة والسلام: "المؤمنُ إذا حضرَه الموتُ بُشِّرَ بكرامةِ اللهِ ورضوانِه، فليس شيءٌ أحبَّ إليه ممَّا أمامَه، فأحبَّ لقاءَ اللهِ فأحبَّ اللهُ لقاءَه"؛ وفي هذا الحديث بشارةٌ عظيمةٌ لأهل الإيمان، وتهوينٌ لكُرُباتِ الموتِ، وتسليةٌ للمسلمينَ في فَقْدِ أصفيائهم.
وهذا إمامُ المتقينَ، وقدوةُ السالكينَ، قد ملأ قلبَه الشوقُ إلى لقاء ربِّه، فاختاره على الخُلد في الدنيا مع مفاتيح خزائنها ثم الجنةَ بعد ذلك؛ فعَنْ عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن أبي مويهبة رضي الله -تعالى- عنه مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل، فقال: "يا أبا مويهبة، إني أُمرتُ أن أستغفر لأهل البقيع فانطلِقْ معي"، فانطلقتُ معه، فلما وقَف بين أظهرهم قال: "السلام عليكم يا أهل المقابر، لِيَهْنِ لكم ما أصبحتُم فيه ممَّا أصبَح فيه الناسُ، أقبلتِ الفتنُ كقطعِ الليلِ المظلمِ، يَتبَعُ آخَرُها أولَها، الآخرةُ شرٌّ مِنَ الأُولى"، ثم أقبَل عليَّ، فقال: "يا أبا مُوَيْهِبَةَ، إني قد أُوتيتُ مفاتيحَ خزائن الدنيا والخُلْد فيها ثم الجنة، فخُيرتُ بين ذلك ولقاء ربي والجنة"، قال: قلتُ: بأبي أنتَ وأمي، فخُذْ مفاتيحَ خزائن الدنيا والخُلْدَ فيها ثم الجنةَ، قال: "لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترتُ لقاءَ ربِّي والجنةَ"، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبُدئ برسول الله وجعُه الذي قُبِضَ فيه، وفي لفظ أحمد في مسنده: "فَمَا لَبِثَ بعدَ ذلكَ إلا سبعًا أو ثمانيَ حتى قُبِضَ".
وفي هذا الخبر دلالةٌ بينةٌ على أنَّ نبيَّنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان أشدَّ الْخَلْقِ حُبًّا للهِ، فإنَّه خُصَّ بهذا التخييرِ الذي منتهاه إلى لقاء الله والجنة، فاختار التعجيلَ بلقاء مولاه ومحبوبه، وهذه حقيقة الحنيفية، ملةِ إبراهيمَ -عليه السلام-؛ وكان آخِرُ ما قال عليه الصلاة والسلام في هذه الدنيا: "اللهمَّ اغفِرْ لي وارحمني، وأَلْحِقْنِي بالرفيقِ الأعلى".
وكان من دعائه -عليه الصلاة والسلام-: "وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة"، فجمَع -عليه الصلاة والسلام- في دعوته المبارَكة بين أعلى نعيم المؤمن في الدنيا والآخرة، ولكل مقتد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخير والبر والطاعة، وحسن الإيمان نصيب من الرغبة والشوق للقاء الله، بحسب إيمانه الذي تصدقه الأعمال الصالحة، الموجبة صدق التعلق بالله، والشوق إلى لقائه، والتقرب إليه حتى ساعة القدوم عليه.
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعَل مآلَ أوليائه إلى الفرح بلقائه، والصلاة والسلام على سيد رسله وأنبيائه.
أما بعدُ: فإن غاية إكرام الله لمن أحب لقاءه أن يرى المشتاق للقائه الْمُحِبِّ لربِّه ربَّه في دار النعيم المقيم، وبذلك بشَّر المحسنُ -سبحانه- عبادَه المحسنينَ، في قوله -تعالى-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يُونُسَ: 26]، ثم نقل البُشرى رسولُه مفسرةً بأبلغ تَبْيِينِ، فقال عليه الصلاة والسلام: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى المُنَادِي: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُون: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ يُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، أَلَمْ يُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا أَعَطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الزِّيَادَة، ثُمَّ تَلَا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيةَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يُونُسَ: 26]".
اللهُمَّ إنَّا نسألك نعيمًا لا ينفد، ونسألكَ قرةَ عينٍ لا تنقطع، ونسألك الرضا بالقضا، ونسألك بَرْدَ العيشِ بعدَ الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظر إلى وجهِكَ، والشوقَ إلى لقائِكَ، في غير ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مضلةٍ.
اللهُمَّ زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهُمَّ صل على نبينا محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهُمَّ ارض عن أصحاب نبيك أجمعين، وعن تابعيهم ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، وانصر عبادك المؤمنين يا قوي يا عزيز.
اللهُمَّ كن لإخواننا المستضعَفين المظلومين في فلسطين معينًا وظهيرًا، ومؤيدا ونصيرًا، اللهُمَّ اكشف كربهم، وفرج همهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهُمَّ آمِنَّا في أوطاننا ودورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهُمَّ وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهُمَّ أعنه وولي عهده على ما فيه خير العباد والبلاد، وصلاح أمر المعاش والمعاد.
عبادَ اللهِ: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم؛ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم