الشهامة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ تعريف الشهامة 2/ أهمية الشهامة ومكانتها 3/ من صور غياب الشهامة 4/ فوائد الشهامة 5/ خطر غياب الشهامة

اقتباس

ومن صور ضعف الشهامة في مجتمعاتنا أن تجد بعض الأبناء يتقاعسون عن خدمة آبائهم وأهليهم، فتجد الأب المسكين أو الجد العاقل يتحرك ويسارع، ويقدم هذا ويؤخر ذاك، والابن يتفرج وينتظر من أبيه أن يأتيه ليخدمه، وهو ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، له الحمد -سبحانه وتعالى- أن وفقنا بالإسلام إلى الطاعة، وهدانا بالإيمان إلى الاستقامة، وأمدنا من اليقين بالقوة، ووفقنا بالإسلام إلى الشهامة.

 

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.

 

عباد الله: حديثنا اليوم إليكم عن الشهامة؛ أتدرون ما الشهامة؟.

 

إن الشهامة مأخوذة من "شهم" التي تدل على الذكاء والفطنة، ويقال فلان شهم إذا كان متقداً بالفطنة، ممتلأً بالذكاء الذي يظهر في تصرفاته المنضبطة, وحركاته المتزنة التي تدل على شهامته ومروءته.

 

إن الشهامة هي الحرص عند الشدائد على ما يوجب الذكر الجميل، وتسجيل المواقف العظيمة عند العظائم، وتخليد المواقف الخالدة في الأوقات العصيبة التي تتطلب تسجيل المواقف والقيام بالدور المطلوب.

 

إنه موضوع هام يجب أن نُذكّر به أنفسنا، ونثيره دائماً في مجالسنا، وبين أولادنا وأفراد مجتمعنا؛ لأن الشهامة إذا غابت عنا وقع بيننا التخاذل، وحصل منا التراخي والليونة والضعف.

 

أيها المسلمون: إن الإسلام يربي المسلم على الشهامة والإقدام، ويحب من المسلم أن يكون مقداماً في كل شيء، شهماً في كل تصرفاته، مسارعاً في كل أعماله، ويكره الرجل المتقهقر العاجز الذي تنقصه الشهامة وتعتريه الدناءة.

 

فلذلك يجب علينا أن نربي أنفسنا ونربي أبناءنا على الشهامة، وإذا ظهرت من أحدهم تصرفات تخل بالشهامة أو تدل على غيابها عنهم فيجب أن نزجرهم، ونقف معهم وقفة محاسبة وعتاب حتى لا تغيب الشهامة من نفوسهم.

 

لقد ظهرت في مجتمعنا صور كثيرة تدل على غياب الشهامة أو ضعفها عند بعضنا، ومن هذه الصور:

 

تهرب بعضنا من القيام بدوره عند الأزمات، وغيابه وقت الملمات، وتقهقره وقت الحاجة إليه، وهذه مظاهر مؤلمة منتشرة كثيراً في واقعنا، فتجد بعض الناس يغيب في وقت عصيب لا يتخلف فيه إلا من عدم الشهامة؛ كمن يتخلف عن الدفاع عن الدين والنفس والعرض في ساعة يداهم العدو فيها بلده، أو يغزوه يريد أن ينتهك عرضه ويسرق ماله، فتجده لا يكلف نفسه حتى بالقيام في الدفاع عن دينه ونفسه وماله؛ فما أعدم شهامته!.

 

يقول الله -تبارك وتعالى- محذراً من التولي يوم الزحف، والتغيب عند لقاء العدو، والتراجع عن مواجهته إذا داهم واعتدى وبغى يريد أن يهتك العرض ويغتصب الأرض: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال:16-17]. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ" [البخاري:2766]. والتولي يوم الزحف هو الفرار عن القتال يوم ملاقاة العدو، والتهرب من الزحف إليه.

 

وبعضهم يسمع المكروب يستغيث طلباً للنجدة, ويهتف طالباً للنصرة فلا يلتفت إليه، ولا يخرج لنجدته، ويتركه يصيح لوحده دون أن ينصره أو يقف معه في مصيبته ومحنته؛ فأي شهامة هذه يحملها مثل هذا القلب؟!.

 

وأي رجولة يملكها مثل هذا الشخص الذي يرى أخاه يناديه لينقذه؛ من غرق، أو حفرة، أو حريق، أو يطلب منه إعانة في القضاء على معتدي يريد أن يعتدي عليه، أو سارق يريد أن يسرق ماله، فلا يعينه، ولا يقوم بنصرته؟.

 

يقول الله -سبحانه وتعالى- حاثاً لنا على الشهامة، والنجدة، ونصرة المسلمين: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) [الأنفال:72]. يمدح الله في هذه الآية الكريمة من صبر، وصابر، وجاهد، وآوى ونصر، وهاجر، وقام بنصرة إخوانه، ولا يقوم بهذه الأعمال كلها إلا من كان شهماً مقداماً.

 

ويقول -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9]. وإيثار الآخرين على النفس وتقديمهم على الذات وترك الشح والبخل، كل هذا من صفات الشهامة ولا يتحلى بها إلا من كان شهماً.

 

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ" [البخاري:2444، مسلم:6747].

 

أيها المسلمون: ومن صور غياب الشهامة عند بعض الناس الرضا بالتقليد الأعمى للفجرة والكفرة، ومحاكاتهم في لباسهم وتصرفاتهم وحركاتهم، والظهور أمام الناس بمظاهر التخنث وألبسة التعري والتفسخ, التي تدل على أن لابسها قد ضعفت شهامته، وغابت مروءته، وانهارت رجولته، وقلّ حيائه.

 

بين الندامى والمدامة *** ضاع الحياء والاستقامة

وعلى الغواني والظبى *** بعنا المروءة والكرامة

وعلى الجميلة والجميـ *** ـل قد انقضى عهد الشهامة

وتسرّبت منا الدرا *** هم في الفجور ولا ندامة

والدار بعناها لند *** رك وصل هند أو أُمامة

ونفائس الميراث قد *** رهنت على ثمن المدامة

والدين إن كُتب السدا *** دُ له ففي يوم القيامة

فسد الزمان وأهله *** يا رب نسألك السلامة

هذا تمدن معشر *** جعلوا الفسوق له علامة

من كل مياس القوا *** م له على الخدين شامة

يهتز إعجابًا كما *** هزت معاطفها الحمامة

وإذا رأى أهل المعا *** رف ظل يهزأ بالعمامة

يأتي الصباح ولم يدع *** في غير زينته اهتمامه

ويطل في المرآة هل *** في الحسن قد وفَّى نظامه

ويظل ينظر خلفه *** حينًا وآونة أمامه

وكأنما بلغ الوزا *** رة والإمارة والإمامة

 

ومن صور غياب الشهامة أن يعتمد الشخص على الآخرين في أموره، ويتكل على الناس في خدمته، فتراه كسلاناً خاملاً لا يريد أن يعمل ولا أن يشتغل، وإنما همه في الاعتماد على الآخرين، وعينه تنظر إلى ما في أيدي الناس، وفكره فيهم ينظر من أعطاه ومن منعه.

 

إن هؤلاء الكسالى والعاجزين بحاجة إلى أن تصيح بهم الشهامة؛ ليهبوا من رقادهم، ويشمروا عن ساعد الجد للعمل والمغالبة في ميدان الحياة، والخروج إلى معتركها، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أيها المسلمون: ومن صور ضعف الشهامة في مجتمعاتنا أن تجد بعض الأبناء يتقاعسون عن خدمة آبائهم وأهليهم، فتجد الأب المسكين أو الجد العاقل يتحرك ويسارع، ويقدم هذا ويؤخر ذاك، والابن يتفرج وينتظر من أبيه أن يأتيه ليخدمه، وهو متسربل بثياب الرضوخ للمهانة والضَّعَة، قد فقد أخلاق الشهامة والشمم والعزة؛ فكيف يرضى بهذه الخسة من لديه شيء من الشرف والشهامة؟! أين الشمائل العربية؟! أين الشهامة الإسلامية؟! أين النفوس الأبية؟! أين القلوب الحية؟! أين الأبصار الحيية؟! رحم الله أمجادنا الشرقية!.

 

ومن صور ضعف الشهامة أن يكون ولي الأمر مقاداً لا قائداً، ومحكوماً لا حاكماً، يتصرف فيه من هو أدنى منه، ويتحكم فيه من هو دونه، ومثل هذا في مجتمعنا كثير، فتجد الزوجة تتحكم في زوجها، والابن في أبيه، وهكذا يمحى أثر الشهامة، وتُخمد حرارة الغيرة.

 

عباد الله: الله الله في الشهامة، فإن بالشهامة تسود الأمم وتعتز، وتبلغ المعالي وتصل الذروة، ومن ماتت شهامته ضعفت عزته، وانهارت نخوته وحميته، وسرت أخباره السيئة بين الناس، وبالعكس فإن من اتصف بالشهامة عرف بين الناس بالنبل والشهامة، والسخاء والإقدام، وسرت سمعته الطيبة برفضه للمذلة والهوان والاستسلام.

 

إن الشهامة إذا ضعفت عند الإنسان غابت عنه العاطفة، ومات الإحساس في قلبه, وذهبت كل وسائل الغيرة والحمية من نفسه، فلا يجرؤ على اقتحام المهالك، ويعدم الصفات التي بها يتمكن من دفع المؤذيات والذب عن حوضه وكيانه، بل تجده كثير التواني في حقوقه الشخصية والدينية، لا يحرك ساكنًا في سبيلها, قد ضربت عليه الذلة والمسكنة، وعاش طول حياته كسيف الضمير حزينًا حسيرًا.

 

يقول أَنَس بْن مَالِك -رضي الله عنه-: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَاجِعًا، وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: "لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا" [البخاري:2908، مسلم:2307]، أي روعاً مستقراً فلا تخافوا، فصلى الله وسلم عليه فقد ضرب لنا أروع الأمثلة في السبق والشهامة، والنجدة والكرامة.

 

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

 

اللهم ارزقنا الشهامة والاستقامة وحلينا بالنبل والكرامة وعافنا واعف عنا في الدنيا والآخرة

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].

 

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات