عناصر الخطبة
1/خطر طرح الرأي الشرعي والرأي الآخر في القنوات 2/مقاصد القنوات من برامج الرأي والرأي الآخر 3/ مقارنة بين حوار الرأي والرأي الآخر في الشريعة وفي الطب من مفاسد البرامج الحواريةاقتباس
ثقافات لا تقيمُ للدين وزنا ولا تضع للنص القرآني مكانة ولا تلتفت إلى السنةِ النبوية من قريب أو بعيد، وثقافاتٌ هذا منهجها وهذه طريقتها تُفسد ولا تُصلح وتهدم ولا تبني...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
الحمد لله رب العالمين، وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد؛ فحديثنا في هذا الخطبة سيدور بمشيئة الله حول موضوع "الشريعة والرأي الآخر".
أيها الإخوة: إن من الشرور التي أُبتلينا بها، شرُّ الثقافات الوافدة إلينا والتي تتدفق على بيوت المسلمين من خلالِ القنواتِ الفضائية المنتشرة هنا وهناك..
إنها ثقافات لا تقيمُ للدين وزنا ولا تضع للنص القرآني مكانة ولا تلتفت إلى السنةِ النبوية من قريب أو بعيد، وثقافاتٌ هذا منهجها وهذه طريقتها تُفسد ولا تُصلح وتهدم ولا تبني، وهذا ما أصبحنا نرى أثره على أجيالِ المسلمين في بقاعٍ شتى من بلاد الإسلام.
أيها الإخوة في الله: ومن الأساليبِ الشائعة لإقناع المشاهدين بأفكارٍ وآراءٍ ضالةٍ مُظلمة طرحُ هذه الآراء من خلال البرامج الثقافية التي تعتمدُ على أسلوبِ الحوار والذي يزعمون أنه حِوارٌ حضاري يفرضه واقعُ الإعلام المعاصر.
وتزعمُ بعضُ القنواتِ الفضائية أن مرادهم من هذه البرامج إيصالُ الآراءِ للمشاهدين ليحكموا عليها وليرجحوا فيها بحسب ما قال هذا وما رد عليه ذاك والحق أنهم بهذا يدفعون الناس للخوض في مسائل كبار هي أكبر وأعظم من أن يتكلم فيها ذو الثقافةِ العامة وهو غالبُ حالِ المشاهدين كما هو معلوم.
ومن العجيب أن عدداً من الناس رحب بهذه البرامج بل صار من المتابعين لها والمتفاعلين مع قضاياها، ويزعم هؤلاء: أن زمان الرأيَ الواحد قد ولى وانقضى وهذا العصر هو عصر الانفتاح ومعرفة الآراء الأُخرى والنظرُ للاتجاه المعاكسِ لزوايا عديدة في قضايا كان الكلامُ حولها دائماً وأبداً من زاوية واتجاه واحد فحسب وقبل أن انتقلَ إلى الكلامِ عن الموقف الصحيح من هذه البرامج أود أن أقف مع زعم القنوات الفضائية السالف الذكر وكذلك ما يزعمه أو يظنه هؤلاء المتابعين لهذه الحوارات.
أيها الإخوة: يحق لنا أن نسأل. هل القنواتِ الفضائيةِ بأسلوب الحوار تريدُ إيصالَ الحقيقةِ للمشاهدين؟
سئُل مديرُ قناةٍ فضائية معروفة عن سبب انتشار هذه البرامج في القنوات الفضائية فكان جوابه أن القناة الناجحة هي التي تستطيعُ أن تجذب المشاهدين إليها وقد وجدنا أن هذه البرامج هي من أقوى الأساليب لكسب المشاهدين وهذا الكلام يعني أن هذه البرامج ما هي إلا أسلوبٌ دعائي لهذه القناة وتلك.
ويتبين لنا من كلامه أن هذه برامج المقصود منها تجاري ويراد فيها خفض التكاليف على القناة وإنقاذها من الخسائر وهم لا يهمهم أن تتضمنَ هذه البرامج أموراً تنقض الدين أو تدمرُ الدنيا.
وفي إحدى الجرائد الوافدة كتب أحدهم يقول إن هذه البرامج خطوةٌ عظيمة لتقرير الديمقراطية بين الشعوب العربية.
إذن فهذه البرامج لا مصداقية لها فهي لمقاصدَ تجارية ولمكاسب دعائية ولتقرير مبدأّ الفوضويةِ الثقافية.
أما قول البعض أن عصرَ الانفتاح يفرض هذا الأسلوب وأن المشاهدَ خيرٌ له أن يدركَ الآراء الأخرى ولو كانت باتجاه معاكس فيجاب عليه أن هذا الكلام يحتاج إلى تمحيص ولا يؤخذُ بعمومه.
ولذا نقولُ -أيها الإخوة-: إن البرامجَ الثقافية التي تحاورُ القضايا السياسية أو تطرحُ قضيةٍ اقتصاديةٍ ما على مائدة الحوار إنما تعودُ في أصلها إلى أمر من أمور الدنيا والكلام فيها يعبرُ عن سذاجة المتكلم أو خبرته وحنكته، وهو عند السامع صادق أو كاذب أو جاهلٌ أو منافق وإن كان مثل الطرح قد يؤدي إلى إضلال الرأي العام إلا أن الخطورة الكبرى هي فيما إذا كان الحوارُ في هذا البرنامجِ الثقافي حول قضية من قضايا الشريعةِ وأصول الدين.
وتتجلى هذه الخطورة حينما تطرحُ قضيةٌ شرعية ما ويُفتحُ البابُ لغير المتخصص ليتكلم فيها بل قد يُفتحُ البابُ ليتكلم ضيفٌ علمانيٌ متطرف أو زنديقٌ ملحد فيصدع برأيهِ الضال وباجتهاده المنحرف في تلكم القضية الشرعية فيضُلُ بذلك أفواجٌ من المشاهدين ولذلك تصبحُ المسائلَ الشرعية مباحةٌ لكلِّ من هب ودب، يخوض فيها العلماني فيرد النص القرآني ويسخر من الحديث النبوي، وقد يتصلُ أحدُهم ويحُرفُ الكلمّ عن مواضعه، وآخر يتصلُ فيجتهدُ بغير علم ويتكلمُ بغير فهم ويأخذه الحماس لتصويب رأيه وتخطئة الآخرين وردِ كلام أئمةِ الدين وتراه يتجرأ على ذلك وهو لا يستطيعُ أن يُقيم الكلمات ولا يُحسنُ تلاوةّ الآيات.
ومع هذا وذاك يزبد ويرعد أن بابَ الاجتهادِ في مسائل الدين مفتوحٌ للجميع وليس الاجتهادُ حِكراً لأحدٍ دون أحد.
وبعد هذا نقول: هل نقبلُ الرأي الآخر في قضيةٍ شرعية من رجل جاهلٍ لا يقيم الحروف وليس مؤهلاً للكلام في جزئياتِ الأحكام فضلاً عن المسائل العظام؟ هل نقبلُ الرأي الآخر في قضيةٍ شرعية من رجل علماني متطرف أو زنديق ملحد لا يقيم للدين وزنا ولا يلتفت للنصوصِ الشرعية من قريب ولا بعيد؟، ولنضرب لذلك مثلاً بالجانب الصحي.
تخيل أن برنامجاً ثقافياً حصل فيه حوار مع طبيبٍ ومُدخن أو شارب للخمر أو متعاطيٍ للمخدرات فلو تكلم الطبيب بكلمات قليلةٍ عن أضرار التدخين وشرب الخمور والمخدرات ثم قام المدخنُ وذكر أكاذيب باطلة واثبت أن شُربَ السجائر له فوائدٌ عديد وقام شاربُ الخمر وذكر فوائد شرب الخمر وشجع عليه وقام متعاطي المُخدرات وذكر أكاذيبَ ملفقة وشجعَ على تعاطي المخدرات؛ فهل يقالُ أن الزمن والعصر تغير ونحن في عصر الانفتاح ومرحباً بالرأي الآخر؛ ألا نعتبرَ أن كلامَ المدخنِ ورأي شارب الخمر ورأي متعاطي المخدرات نوعٌ من الدعوة إلى انحراف المشاهدين وإضلالهم.
وما هو موقفنا من تلك القناة التي بثت هذا البرنامج، ألن نعتبرها قناةً تفسد ولا تصلح وتهدم ولا تبني، هذا في الجانب الصحي فكيف بالجانبِ الشرعي والعقائدي؟!
إن إضلال الناس في دينهم ومعتقدهم أشدُّ خطورةً من إضلالهم في الجانب الصحي والقنواتُ الفضائيةُ بهذه البرامج خاضت في مسائل شرعيةٍ عديدة وتسببت في تشكيكِ المشاهد في بعض منها وإضلاله في البعض الآخر، يتكلم فيها من شاء بما شاء دون حسيب ولا رقيب.
أبعد هذا -يا أيها الإخوة- نبتهج بهذه الحوارات ونتحمسُ لها؟ أم قولُ البعض أن مثل هذه البرامج يتابعُها الكثيرون على سبيل التسلية وإمضاء الوقت فهي مصارعةٌ كلامية يتسلى فيها المشاهد كما يتسلى برؤية المصارعة الجسدية فيقال إن هذا الكلام ليس صحيحاً بإطلاقه فإن من تتبع الجرائد والمجلات وجد أن من الأقلام الصحفية من تتأثر بالرأي الآخر وتفرح به وتدافع عنه، وأيضاً من تتبع المجالس وجد أن هناك من يتأثر بالرأي الآخر فيتشدق به ويُشيعه ويذيعه بين العام والخاص وهذا التأثير الجلي له مفاسد عديدة.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد:
أيها المسلمون: إن من مفاسد البرامج الثقافية التي تعتمد أسلوب الحوار:
أولاً: أنها تهونُ من كلام علماء الشريعة وإذا نُزعت الثقة من العلماء وشكك المشككون في أقوالهم وفتاويهم فإلى من سيرجع عامةُ الناس؟ بطبيعة الحال سيرجعون إلى من يزعم الفكر التنويري والفكر المعاصر.
وثاني هذه المفاسد: أن قضايا الدين ومسائله الشرعية ينزعُ عنها التعظيم، والله -عز وجل- حذر من الفتوى بغير علم كما قال في محكم كتابه: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النحل: 116-117].
وجاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال "من أُفتى بفتيا غيرَ ثبتٍ -أي بغير حجةٍ بينه- فإنما إثمهُ على من أفتاه".
واستشعار ذلك يرهبُ من الخوض بغير علم في قضايا الدين، واستمع إلى القاسم رحمه الله وهو يقول: "والله لأن يٌقطعَ لساني أحبُّ إليَ من أن أتكلمَ بما لا علم لي به".
ومن مفاسد هذه الحوارات الثقافية: أن بعض القنوات من خلال مذيع أو مذيعة يُحضرون رجلاً غير متمكن في العلوم الشرعية وهو يمثلها ويأتون برجل آخر أو امرأة علمانية متطرفة تجول وتصول في ذكر الباطل وتزيينه بالحججُ الواهية فلا يستطيع ذاك الشيخ أن يرد أو يجيب على شبهاتهم فيظن الناس أن الحق مع الباطل وأهله، وهذا مكرٌ ظاهر وخداعٌ للمشاهدين وسبيلٌ لإضلالهم.
ومن مفاسد هذه الحوارات الثقافية: أن فيها دعاية واضحة لأهل الباطل فتجد المذيع يُعرفُ بهم وبكتبهم ويترك المجال لهم ليقولوا ما يقولون فيُعجب فيهم السذج من المشاهدين ويسارعون لمتابعة مقالاتهم وشراء كتبهم وهذا مخالف لما قرره علماء الأمة من وجوب هجر المبتدع وبغض أهلِ الأهواء ومعلوم أن إبراز مثل هؤلاء فيه تمجيدٌ لهم وإعلاءٌ لشأنهم وتوقيرٌ لمكانتهم وهم دون ذلك بكثير.
أيها الإخوة: ويقول البعض أن هذا الحوار قد يهتدي على أثره الزنديق أو العلماني إن كان العالم الشرعي قوي الحُجة ويقال: أن هذا يحصل دون إشاعة الحوار وإذاعته على عوام المسلمين فيمكن أن تعقد المناظرة بين العلماء وهؤلاء (أصحاب الرأي الآخر كما يقال) ويؤخذ بأيديهم إلى الحق دون إعلان فإن المقصود هو هدايتهم لا إضلال الجماهير بهم.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم من ضل فرده إليك رداً جميلاً.
اللهم أهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وبارك لنا فيما أعطيت وقنا شر ما قضيت.
عباد الله: صلوا على نبيكم فلقد أمركم الله بذلكم.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم