عناصر الخطبة
1/ اشتداد ضراوة الكفر وعداوته للإسلام 2/ ضرورة تربية الأمة على المثل والأخلاق العالية وفي مقدمتها الشجاعة 3/ الشجاعة ومجالاتها 4/ صور من شجاعة المسلمين 5/ خسة الجبن والتحذير منه 6/ شجاعة الأنبياء 7/ صور من شجاعة نبينا وأصحابه 8/ الأسباب المعينة على اكتساب الشجاعةاقتباس
الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافعة تحصيلاً وعلى الأمور السيئة دفعًا، وتكون في الأقوال والأفعال، ولا بد فيها من التغلب على رهبة الموقف، قال بعضهم: الشجاعة صبر ساعة. الشجاعة -يا عباد الله- من أعز أخلاق الإسلام، ساعدت المسلمين ..
وبعد: فإن المتتبع لأحوال العالم الإسلامي في العقود المتأخرة، يرى عيانًا أن الأمة مقبلة على ملاحم، بل ومعارك شرسة لا يعلم نهايتها إلا الله وحده.
بل إن الناظر بعين متأملة للتاريخ المعاصر، ومستشرفة للمستقبل، مهتدية بهدي القرآن والسنة، ليبصر حقيقة مُرة، ألا وهي أفول زمن الدعة والراحة، وأن ليس ثمة إلا نصال ونضال، وصهيل وعويل، وإراقة دماء، وتمزق أشلاء.
أيها المؤمنون: في العقود الأخيرة كشّر الكفرة عن أنيابهم، وسنّوا سيوفهم لنحر الإسلام وأهله، فأكثر من نصف مليون قتيل في البوسنة والهرسك في أوائل العقد الثاني من القرن الخامس عشر، ثم بعد ذلك بثلاث سنوات، عشرات الآلاف من القتلى في كوسوفا، وبعدها بسنتين آلاف في إندونيسيا، وأعداد مماثلة في كشمير المسلمة على مر تلك السنوات كلها، وقل مثل ذلك في أرض فلسطين، وما زالت أنهار من دماء المسلمين تروي هذه الأرض.
أمة الإسلام: لقد فرض الصراع بين الحضارات نفسه على بني البشر حتى ولو حاول المتخاذلون تفاديه، أو بذلوا كل ما في وسعهم لإغماض الأعين عن حقائقه، فإنه آتٍ لا محالة، بل إن الصراع بين الحق والباطل هو سبب هذا الوجود، قال الله -جل وعلا-: (تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ * الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَلْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1،2].
عباد الله: المستقبل ما هو إلا امتداد للماضي، والمستقبل يصنعه التاريخ، فلن يكون مستقبلنا القريب بأفضل من تاريخنا القريب، فالكل حقبة زمنية واحدة، وكل شيء بقضاء الله وقدره، والعلم عند الله تعالى.
إن هذه الحقائق توجب على الأمة المسلمة -أفرادًا وجماعات- تكييف حياتها وفق هذه التحديات الضخام التي تواجهنا كلنا، ومن تكييف النفس استعدادًا لتداعيات المستقبل يجب أن يربي المسلمون أنفسهم بطريقة تتناسب مع ما ينتظرهم.
وإن من أهم المعاني التي يجب على المسلمين الأخذ بها وتربية النفس عليها، تلك المعاني التي تبعث في النفس التضحية، والاستعلاء عن الشهوات، وحب الموت والشهادة في سبيل الله، والتطلع إلى معالي الأمور، والتنزه عن سفاسفها، والزهد في الدنيا.
أمة الإسلام: ومن أهم الأخلاق التي ينبغي على الأمة المسلمة التحلي بها: خلق كريم، نبيل الطبع، لا يتصف به إلا السادة، ويرغب عنه العبيد، خلق يحمل النفس على الفضائل، ويحرسها من الاتصاف بالرذائل، هذا الخلق -أيها الإخوة- هو الشجاعة.
الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافعة تحصيلاً وعلى الأمور السيئة دفعًا، وتكون في الأقوال والأفعال، ولا بد فيها من التغلب على رهبة الموقف، قال بعضهم: الشجاعة صبر ساعة.
الشجاعة -يا عباد الله- من أعز أخلاق الإسلام، ساعدت المسلمين على الفتوح والسيادة في الأرض.
الشجاعة ينبوع مكارم الأخلاق والخصال الحميدة.
قال الطرطوشي: "اعلم أن كل كريهة تُرفع أو مكرمة تُكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة. ورؤوس الأخلاق الحسنة أربعة -تحمل على غيرها من محاسن الأخلاق- وهي:
الصبر: فإنه يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى.
العفة: وهي تجنب الرذائل والقبائح.
الشجاعة: وهي صفة تحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق.
العدل: فإنه يحمل على الاعتدال والتوسط.
قال ابن القيم في زاد المعاد: "الشجاعة من أسباب السعادة، فإن الله يشرح صدر الشجاع بشجاعته وإقدامه، وهذا معلوم لأن الهم والقلة والذلة وحقارة الحال تأتي من الجبن والهلع والفزع، وإن السعادة والانشراح والضحك والبسطة تأتي مع الشجاعة والإقدام وفرض الرأي وقول كلمة الحق التي علمها رسول الله أصحابه".
يقال: الشجاع محبب حتى إلى عدوه، والجبان مبغض حتى إلى أمه.
ولا تتصل الشجاعة بحجم البدن، ولا بشكل الإنسان، وليس لها علاقة بقوة البدن وضعفه، يقول كثير عزة:
ترى الرجل النحيف فتزدريه *** وفي أثوابـه أسـد هصـور
ويعجبك الطريــر إذا تراه *** فيخـلف ظنك الرجل الطرير
وقــد عظم البعير بغير لبّ *** فلا عرف لـديه ولا نكيـر
عباد الله: لا يظن ظانٌّ أن الشجاعة تقتصر على القتال والنزال، بل إنها تمتد لتشمل قول كلمة الحق، والخطابة على المنابر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعلان الرأي؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَـاتِ وَلْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:159، 160]، فهذا تربية لشجاعة الرأي، وقد أخرج ابن ماجه، والإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
وروى أبو داود والترمذي: "سيد الشهداء يوم القيامة حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره أو نهاه فقتله".
وقف موسى -عليه السلام- أمام فرعون طاغية مصر، الذي قال لأهلها: ما علمت لكم من إله غيري، فقال له بعد أن وعظه، وتمرد موسى على ذلك، قال له: (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) [الإسراء: 102].
أنكر الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فيما قتل من المسلمين في دمشق وما فعل بهم، واشتد عليه في الإنكار، وسيوف حجاب الأمير حول الأوزاعي تقطر حوله دمًا، حتى قال بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفًا من دم الأوزاعي، فما هاب وما خاف.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا *** ولكن على أقدامنا تقطر الدمـا
الشجاعة -يا عباد الله- سر بقاء البشر واستمرار الحياة وعمران الأرض. قال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد: "احرص على الموت تُوهب لك الحياة". والعرب تقول: "إن الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة".
أمة القرآن: وكمال الشجاعة وزينتها أن تكون بإرشاد العقل، متزنة ومتوافقة مع الحكمة، وأن تعتمد على رأي حصيف وتبصر مع حسن حيلة وحذر وتيقظ، وإلا كانت انتحارًا. فإن الشيء إذا زاد عن حد الحكمة خشي أن يكون تهورًا وسفهًا وإلقاءً باليد للتهلكة، وذلك مذموم كما يذم الجبن، فالشجاعة خلق فاضل متوسط بين خلقين رذيلين هما الجبن والتهور.
قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعـان *** هو أول وهي المحل الثـاني
فـإذا همـا اجتمعا لنفس حرة *** بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعـن الفـتى أقرانـه *** بالرأي قبل تطاعن الأقـران
عباد الله، أمة الإسلام: وأعلى مراتب الشجاعة هو التقدم للتضحية بالنفس في سبيل الله تعالى.
عباد الله: وحتى نميّز حقيقة الشجاعة، لا بد من معرفة ضدها، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء، فالشجاعة ضدها الجبن، الذي يكون نتيجة تغلب المخاوف المرتقبة أو الحاصلة أمام الناظرين فيحجم الإنسان ولا يعود شجاعًا.
الجبن مرض خسيس، يورث المهالك، ويقعد بصحابه عن معالي الأمور، ويرضيه بالأدنى، ويجعله قرين الذل، ورفيق الهوان.
الجبن دليل على ضعف القلب، وانطوائه على أمر يخاف الإنسان من إظهاره، ولذا حكى الله عن المنافقين فقال: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون:4].
والجبن والخور والعجز من أسوء ما يوصف به الرجال، في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "شر ما في رجل شح هالع، وجبن خالع".
في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَال".
وعَنْ سعد بن أبي وقاص قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبر".
وعدت العرب الجبن جريمة كبرى وسيئة في الرجل. الجبان يموت في اليوم مائة مرة، والشجاع يموت مرة واحدة، الجبان يتوهم كل شيء ضده.
قال عمر بن الخطاب: "اللهم إني أشكو إليك عجز الثقة وجلَد المنافق".
ولذلك كله فالأنبياء هم أشجع الناس؛ لأنهم أعلى الناس إيمانًا، ولأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، فإن الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْولَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) [التوبة:111].
إن عمل الأنبياء ومن سار على طريقهم، ومن حمل لواءهم إلى يوم الدين، من دعوة الخلق، ونشر الإسلام، والجهاد في سبيل الله بجميع أنواع الجهاد، بالسنان، واللسان، لا يقوم به إلا من أوتي أوفر الحظ من الشجاعة والإقدام؛ لأن هذه الأعمال لا تتم إلا بمواجهة حاسمة بين النبي أو الداعية إلى الله وبين أمته، لا سيما منهم من رفض الخضوع لرب العالمين، ولذلك كان الأنبياء أشجع الناس، كما أنهم أعلى الناس إيمانًا: (لَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِللَّهِ حَسِيباً) [الأحزاب:39].
انظر إلى نوح -عليه السلام- وهو يواجه كل قومه قائلاً: (ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ) [يونس:72]، والتفت إلى ما قاله هود -عليه السلام- لقومه: (قَالَ إِنِي أُشْهِدُ اللَّهِ وَشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ) [هود:54، 55].
أما نبينا فهو أكمل الخلق، خلقًا، وعلمًا، وعملاً، وهو أشجعهم.
في الصحيحين عن أنس قال: "كان النبي أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس".
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وهو من أبطال الأمة وشجعانها- قال: "إنا كنا إذا اشتد بنا البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أقربنا إلى العدو". رواه أحمد والطبراني والنسائي.
فما مات حتى مات مضرب سيفه *** من الطعن واعتلَّت عليه القنا السمرُ
وفي فعله -وهو قائد الأمة وقدوتها- تربية للصحابة، بل وللأمة من بعده، على الشجاعة والإقدام.
ينام في بيت واحد، ويُطوق بخمسين مقاتل، ويخرج عليهم حاثيًا عليهم التراب، ينام في الغار ويقول لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: "لا تحزن؛ إن الله معنا".
فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: "لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا". رواه البخاري ومسلم.
وفي غزوة ذات الرقاع، كان النبي نائمًا، وإذا بمشرك ينسل ويحمل سيف الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ليقتله، ويستيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا بالسيف مصلت على رأسه فيقول له المشرك: ما يمنعك مني؟! فيجيبه النبي بكل ثبات، ورباطة جأش، قال: "الله". فيسقط السيف من يد المشرك. وأصل القصة في الصحيحين.
وفي حنين، حينما انكشف المسلمون، وولى كثير من الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحاط به المشركون، إذا به يقف موقف الأسد الهزبر، ينادي بكل ثبات ورباطة جأش: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، حتى عاد إليه أصحابه، والتفوا حوله، فتحولت الهزيمة إلى نصر مؤزر.
قيل لعلي بن أبي طالب: كيف تصرع الأبطال؟! قال: "إذا لقيت كنتُ أقدر أني أقتله ويقدر هو أني قاتله، فأجتمع أنا ونفسه عليه فنهزمه". قيل لعلي: إذا جالت الخيل فأين نطلبك؟! قال: "حيث تركتموني". وكان يقول: "والذي نفس أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من موتة على فراش".
لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب قال: "إن يقتل فقد قُتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفًا، ولكن نموت قصعًا بأطراف الرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف".
ذكر الذهبي في ترجمة البراء بن عازب أنه من فرط شجاعته، ألقى بنفسه مقتحمًا حديقة المرتدين، عند حرب مسيلمة الكذاب، واشتهر عنه أنه قتل مائة من الشجعان مبارزة.
وذكروا في ترجمة حبيب بن زيد الأنصاري لما أمسكه مسيلمة الكذاب، قطع مسيلمة أعضاء جسده قطعة قطعة، وهو صامد حتى آخر قطرة من دمه، بل قال لمسيلمة حينما قال له: اشهد أني رسول الله، قال: "إن في أذني صممًا مما تقول".
معاذ بن عمرو بن الجموح: قاتل أبي جهل، روى ابن إسحاق في السيرة، ونقل القصة الذهبي في السير، عن معاذ نفسه قال: عن معاذ بن عمرو قال: "جعلت أبا جهل يوم بدر من شأني، فلما أمكنني حملت عليه فضربته فقطعت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة بن أبي جهل على عاتقي فطرح يدي، وبقيت معلقة بجلدة بجنبي، وأجهضني عنها القتال، فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها". هذه والله الشجاعة، وليس كالآخر، من خدش بسهم ينقطع قلبه وتخور قواه.
ومن أعجب ما ذكر في قصص الشجاعة أن شبيب بن يزيد الخارجي كان من أشجع الناس، فقد قاتل الحجاج وهزمه بستين رجلاً، وكان جيش الحجاج ثلاثة آلاف ثم تتبع الحجاج في كل غزوة، كان من شجاعته ينام على البغلة في المعركة، قال ابن كثير: "وذلك من قوة قلبه".
وقفت وما في الموت شك لواقف *** كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبـطال سلمى هزيمـة *** ووجهك وضاح وثغرك باسـم
قيل لعنترة: كيف تغلب الأبطال؟! قال: "أبدأ بالجبان فأضربه فأقسمه قسمين، فإذا رأى الشجاعُ الجبانَ مقسومًا فرّ مني". وقيل له: كيف تنتصر على الناس؟! قال: "بالصبر".
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
وبعد:
أيها المؤمنون: إن الإسلام دين ودولة، وعبادة وقيادة، ومصحف وسيف، واعلم أن الدين بغير قوة نظرية محضة، والدين بغير قوة مجرد فكرة مضيئة قلّ ما يعطيها الناس اهتمامًا، كالحصن من غير جنود يكون عرضة للنهب والسلب والاحتلال.
عباد الله: لا يظن ظانٌّ أن الشجاعة أمر فطري، لا سبيل إلى اكتسابه، بل إن الأخلاق كلها يمكن أن تكتسب، وإلا لما رتب الله عليها ثوابًا ولا عقابًا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه".
وها هنا نذكر بعض الأسباب التي تعين على اكتساب الشجاعة وتنميتها:
أولاً: ترسيخ عقيدة القضاء والقدر، وإدراك أن الإنسان لا يصيبه إلا ما كتب الله له: "وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"، ومن علم ما قاله الله -جل وعلا-: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـاباً مُّؤَجَّلاً) [آل عمران:145]، (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران:175]، (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34]، علم أن ليس ثمة إلا الشجاعة والإقدام، وإلا ذل.
ثانيًا: التوكل الصادق على الله -جل وعلا-، وانظر إلى حال هود -عليه السلام- حينما واجه قومه كلهم، بدعوتهم إلى عبادة الله -سبحانه وتعالى-، ومعرفته أنهم سيكذبونه، إذا به يقول: (إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى صِرطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [هود:56].
ثالثًا: الاقتناع بأن معظم مثيرات الجبن والخوف لا تعدو كونها أوهامًا لا حقيقة لها، فمن عرف حقيقة الخلق لم يخش إلا الله، وما تخافه من دون الله إنما هم أولياء الشيطان كما قال تعالى: (إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَـانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175].
ومما يتصل بذلك استصغار شأن العدو، وأنه يخاف منك إن أنت أظهرت الشجاعة أمامه، واستبسلت في قتاله، وأظهرت حبك للموت، قال الله -جل وعلا-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
قال تعالى: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) [النساء:104].
رابعًا: الكرم والإنفاق؛ حيث يحميك من صفة البخل والخوف على الرزق، ويكسبك صفة الجود والكرم التي غالبًا ما تلازم الشجاعة وتعين عليها، وهي سبب من أسبابها، كما قال الشاعر:
الجود بالمال جود فيه مكرمة *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
خامسًا: الإعداد والتدريب العملي: كأنواع القتال والسلاح والرماية والسبق والرياضة والسباحة، وغيرها، وهي جزء أصيل من منهج الإسلام في إعداد الرجال وإخراج الوهن والخوف من قلوبهم، قال الشاعر:
الرمي أفضل ما أوصى الرسول به *** وأشجع الناس من بالرمي يفتخر
سادسًا: القدوة الحسنة والتمثل بالنبي في شجاعته، وقد بعث قدوة للناس في كل شيء، وكان أسرعهم إلى مكامن الخطر وصوت المنذر، وكان الصحابة يحتمون برسول الله إذا حمي الوطيس والتقى الشجعان.
سابعًا: قيام الليل وصفّ الأقدام بين يدي الكبير المتعال في جوف الليل البهيم، فإن شجرة الشجاعة تسقى بدموع السحر، وإذا طال التهجد أينعت ثمرته جهادًا وبطولة، قال ابن القيم -رحمه الله-:
في الليل رهبان وعند جهادهم *** لعدوهم من أشـجع الشجعـان
عباد الله: إن مما يقوّي القلب، ويشحذ الهمم، ويربي في النفس الشجاعة، ما يراه الإنسان من البطولات التي يخطها إخواننا في أرض الفداء، أرض فلسطين، تلك البطولات التي أزاحت وستزيح عن الأمة كابوس الرعب من العدو، وتدفعه دفعًا نحو العلياء، نسأل الله أن يتقبل شهداءهم وأن يسدد رميهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم.
أما الانهزاميون الذين لم يعدوا العدة فمثلهم ما ذكره المؤرخون عن قائد كان يضرب به المثل في الجبن أخذ القيادة بغير كفاية ولا قدرة ولا جدارة، أخذ المسلمين إلى فارس، وكان يمضي في الليل وينام بالنهار شهرًا حتى استعد أهل فارس وتترسوا وقووا كتائبهم ثم بدأ الهجوم، فكان هو أول من انهزم ودخل المدينة على بغلته، وترك المسلمين يُقتَّلون، فيقول الشاعر في قصيدة طويلة:
تركت أبناءنا تدمى كلومهم *** وجئت منهزمًا يا ضرطة الجمل
وقال قتيبة بن مسلم عنه: "والله لا أوليه ولا على شاة".
هذا ما تيسر لنا في هذه العجالة، ولعلنا نتناول جوانب أخرى من هذا الموضوع في خطب قادمة -إن شاء الله تعالى-.
اللهم صل على محمد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم