اقتباس
ض الناس يحبون فصل الشتاء لما فيه من استمتاع بالطعام والفراش والنوم والسكون في البيوت واجتماع الأسر فراراً من برد الطرقات وأوحالها، ولكن البعض الآخر يكره فصل الشتاء أشد الكراهية وهم الفقراء فاقدي المسكن والمأوى والدفء والطعام اللازم لمواجهة برد الشتاء
إن من آيات الله الساطعة والشاهدة بأنه لا إله إلا الله؛ خلق الليل والنهار، وتعاقب السنون والأعوام، ومجيء الفصول الأربعة على اختلافها؛ كما قال سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)[آل عمران 190]؛ فهذا التنوع في فصول السنة وتنقله من حال إلى حال مغاير يدعو المسلم إلى عبودية التفكر والتأمل في الكون الفسيح، وما أودع الله فيه من الحكم والعظات؛ إذ لو كان الزمان كله فصلاً واحداً لدخل الملل والسآمة في النفوس الميالة بطبعها للتغير والتنقل، ولفاتت مصالح الفصول الباقية وما فيها من عبر وآيات، وقد خص الله الحكيم العليم كل فصل بما يناسبه وميزه عن غيره بخصائص وسمات منفردة.
وإنما جعل الله –عزوجل-من تنوع خلقه في الكون، وتعاقب الأيام وصروف الدهر، مضماراً للتدبر في آياته والتأمل في بديع مخلوقاته والوقوف على مواطن الجمال والاعتبار فيها؛ كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان62].
ومن آيات الله التي تستحق التدبر والتأمل من قبل الدعاة والخطباء والوعاظ؛ فصل الشتاء، بكل ما فيه عبر وعظات، وآثار سلفية وآيات كونية، ومغانم ومكارم، وأحكام وقدح أفهام، بحيث يستحق هذا الفصل العميق من فصول السنة لئن يكون غنيمة ليس للعابدين فحسب ولكن أيضا غنيمة الخطباء والواعظين.
والخطيب باعتلائه المنبر يقف في الأمة موقف نبيها الكريم -صلوات ربي وتسليماته عليه-، موقف المعلم والمربي والموجه، موقف العالم المبين والناصح الأمين، موقف الداعي والناهي والآمر والزاجر، موقف البشير النذير؛ لذلك فهو يحتاج لأدوات وطرائق النبوة في الوعظ والتذكير، والبلاغ والبيان، والنصح والإرشاد.
فمن الضروري أن يعرف الخطيب كيف كان يتعامل الرسول-صلى الله عليه وسلم-مع اختلاف الفصول وتعاقب السنون والأعوام، ومع الظواهر والآيات الكونية التي تقع ويعايشها المسلمون ويتأثرون بها؟! وكيف كان يربي الرسول-صلى الله عليه وسلم-صحابته والأمة من بعدهم على التفاعل مع هذا الكون الفسيح بكل ما فيه من آيات ومخلوقات؟!
ومن خلال هذا النهج النبوي الفريد في التربية والاعتبار يتضح لنا أهم معالم العظة والذكرى والاعتبار في فصل الشتاء من كل عام، ومن أهمها:
الشتاء والتعلق بالآخرة
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يربي أصحابه دائماً أبداً على الارتباط بالآخرة، وتعلق قلوبهم ونفوسهم بيوم الحساب والجزاء، رباهم على دوام التركيز والتفكير بالمأوى والمآل ومنتهى المصير في كل المواقف والمشاهد التي تمر بهم خلال حياتهم.
ومن أجل هذا المبدأ التربوي النبوي الفريد حفلت السنّة النبوية بالكثير من الأحاديث التي تربط آيات الكون وظواهره المرتبظ بمخلوقاته وتعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول ومنها الشتاء بيوم القيامة والجنة والنار ويوم الحساب.
فالبرد الشديد الذي يكون في فصل الشتاء هو أنفاس جهنم وأثرها على المخلوقات جميعاً ومنها الإنسان. فعن الزهري، حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله: " اشتكتِ النار إلى ربها، فقالت: أي ربِّ، أكَل بعضي بعضًا، فأذِن لها بنفَسين، نفَس في الشتاء، ونفَس في الصيف، وهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزَّمهرير" متفق عليه
ومن وقف عند ذلك وتأمل واعتبر، بحيث كلما اشتد عليه البرد ورجفت أطرافه من انخفاض درجات الحرارة تذكر النار وعذابها، تعلق قلبه بالآخرة وسعى للفوز بالجنة والفرار من النار، وكان ذلك تشجيعًا وتصبيرًا له على العبادة، حتى يسلم من زمهرير جهنم وحرها. وقد وصف الله -سبحانه وتعالى- أهل النار وما يتعرضون له من عقاب أليم بقوله(لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا)[النبأ: 24 – 26] قال ابن عباس-رضي الله تعالى عنهما-: " الغساق هو الزمهرير البارد الذي يحرق مِن برده". وقال مجاهد: "الذي لا يستطيعون أن يذوقوه مِن برده"، ورُوي عن ابن عباس قال: "يستغيث أهل النار من الحر، فيغاثون بريح باردة يصدع العظامَ بردُها، فيسألون الحر ويستغيثون بحر جهنم".
الشتاء وقدرة الله الشاملة
قدرة الله-تعالى-تتجلى في كونه وجميع مخلوقاته، ولكنها تكون في بعض خلقه أظهر من غيرها، والشتاء فصل كبير ينتهب أكثر من ربع أيام السنة لذلك تتجلى فيه بدائع القدرة أكثر من غيره، وجنود الله-عزوجل-فيه كثيرة من مطر وريح وأعاصير وصواعق ورعد وبرق وثلوج وسحب ثقال وليل طويل ونهار قصير، كل هذه الجنود تعمل في ابن آدم بكل قوة وهو ضعيف خائر القوى عديم الحيلة أمام سطوة خالقها وقدرته الشاملة الذي سخرها-سبحانه-أما لغوث عباده وصلاح حياتهم واستقامة معايشهم بماء الشتاء المبارك فينبت الكلأ وتزهر الأرض ويُنقى الجو من الأمراض والأدواء، وأما عذاباً ونكالاً وجزاءً وفاقاً على جرائمهم بمنع القطر وجدب الأرض وانقطاع الغيث، أو بالسيول الجارفة والأمطار المرعبة والعواصف المهلكة. وكتاب الله حافل بالمشاهد المهولة لهلاك القرى والمكذبة والمعاندة لرسله وشرائعه بالمطر الجارف والريح الصرصر والعواصف الكواسح، وسلوا عاد وثمود وقرى لوط كيف حل بهم الدمار؟!
والبشر رغم تقدمهم التكنولوجي اليوم وعلومهم الكثيرة ما زالوا عاجزين ضعفاء، وقلة حيلتهم تتجلى في فصل الشتاء أكثر من غيره من الفصول، فمطر ليلة واحدة كفيل بقطع شبكات الكهرباء وطرق المواصلات والانعزال عن العالم لمدن بأكملها يقطنها الملايين حتى في أرقى بلاد العالم وأغناها!!
وأقوى المخلوقات وأضخمها لا يستطيع أن يقاوم برد العجوز الذي ينخر الأجساد ويكسر العظام حتى أن السلف كانوا يتواصون بالحذر من البرد وضرباته في الشتاء. فهذا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-يكتب لجنوده وهو في بلاد الشام-المعروفة ببرودة أجوائها خاصة في فصل الشتاء، فيقول: " إن الشتاء قد حضر، وهو عدو، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعاراً ودثاراً، فإن البرد عدوٌ، سريع دخوله، بعيد خروجه ".
الشتاء وقرب الرحيل
تعددت الأمثلة القرآنية التي شبه الله-عز وجل فيها-حياة المخلوقات عامة والإنسان خاصة من البداية إلى النهاية بالماء الذي ينزل من السماء فينبت الزرع ويترعرع ثم يصفر ويذبل وتتساقط أوراقه فتذروه الرياح. قال تعالى(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس24]
وقال(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا)[الكهف 45]
وقال(وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ)[فاطر9]
والشتاء هو آخر فصول السنة يأتي كل عام ليكون ذكرى للمؤمنين بقرب الرحيل ودنو الأجل، فما حياة الإنسان ودورة عمره من الميلاد إلى الطفولة ثم الشباب فالكهولة ثم الشيخوخة فالموت إلا كفصول السنة من ربيع الطفولة والصبا إلى صيف الشباب والقوة إلى خريف الكهولة وأخيراً إلى شتاء الرحيل والنهاية. وقد فَقِه سلفنا الصالح هذا الملمح الوعظي من فصل الشتاء فكانوا يجتهدون فيه أشد الاجتهاد، ويجتهدون فيه ما لا يجتهدون في سائر العام حتى عُرف الشتاء بغنيمة العابدين.
قال ابن رجب-رحمه الله- في كتابه اللطائف:"إنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسِّر فيه كما ترتع البهائم في المرعى الربيع، فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقه ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام، جاء عن عامر بن مسعود الجمحي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:" الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة" رواه الترمذي وحسنه الألباني. وكان أبو هريرة-رضي الله عنه- يقول:" ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء"
وقد أخذ السلف رحمهم الله بالوصية النبوية خير الأخذ وقاموا بها أتم القيام، فكان لهم مع ليالي الشتاء أحوال عجيبة، ومآثر غريبة، تستشف منها مدى حرصهم على الخير، ومسابقتهم إليه، فعرفوا كيف يوظفوا هذه الليالي والأيام فيما يكون نجاتهم يوم حشرهم، ووقوفهم بين يدي مليكهم.
فابن مسعود-رضي الله عنه- كان يقول إذا دخل الشتاء:" مرحباً بالشتاء، تنزل فيه البركة، يطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام". وكان عبيد بن عمير إذا جاء الشتاء قال: " يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فأقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا ". ومعاذ بن جبل-رضي الله عنه- لما حضرته الوفاة جعل يبكي، واشتد بكاؤه؛ فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر".
الشتاء وعبودية الخوف من الله
وما عُبد الله ُ-عز وجل-بأفضل من التفكر والتدبر الذي يقود إلى الخوف منه وخشيته في السر والعلن، وما وعد الله-تعالى-به عباده الخائفين الوجلين منه وحده-سبحانه-من أعظم الجزاء وأرفع الدرجات، وما يسعنا هذا المقام ولا أمثاله مئات المرات في بيان منزلة الخوف من الله وعقباها على المؤمن في الدنيا والآخرة، وإنما تنمو هذه العبودية وتزداد في قلب المؤمن كلما أظلته أيام الشتاء بما فيها من آيات وعبر وظواهر تحرك سواكن القلوب التي تتفكر وتتدبر في خلق الله وآياته.
فعن عائشة-رضي الله عنها-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- كان إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوا الْغَيْمَ فَرِحُوا؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ، فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا" رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاء أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَدَخَلَ وَخَرَجَ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" رواه البخاري .
من الآيات الكونية التي نتعرَّض لها أيضًا في فصل الشتاء، الرعد والبرق، فنحن نسمع صوت الرعد الشديد الذي يُرجِف القلب، ويصاحبه هذا الضوء الشديد الخاطف وهو البرق المحمل بالصواعق المهلكة، ونشعر ساعتها بالخوف والخطر وكأن السماء ستنطبق على الأرض. قال تعالى( ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً ) [ الروم24] وقال تعالى(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ* وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) [الرعد 12,13]
وعن سالم بن عبدالله بن عمر، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا سمِع صوت الرعد والصواعق قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " رواه أحمد الترمذي .
فصل الشتاء وشؤم المعصية
للمعصية شؤم لا يدركه إلا المبصرون من أولي الأبصار والألباب، فكثير من الناس يتعامل مع الظواهر الكونية من وجهة نظر مادية بحتة مجردة من القدرة الإلهية المطلقة التي جعلت من بعض هذه الظواهر جرس إنذار وعقوبة عاجلة في الدنيا لابن آدم حتى يرتدع عن غيه ويقبع عن عصيانه. وفي فصل الشتاء تتجلى قدرة الله-تعالى-في تحذير ابن آدم من المعاصي والمنكرات وعاقبة ذلك عليه في دنياه وأخراه.
فمطر الشتاء جعله الله-عز وجل-آية كونية عظمى تقوم بها الحياة، وجعله رحمة للناس وأيضا عذاباً ونكالاً لهم، ولما يشتد غضبه-سبحانه-عليهم يمنعهم المطر غيث الحياة.
فقد أخرج ابن ماجة، والبيهقي وصححه الألباني عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"يا معشر المهاجرين، خصالٌ خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين (أي: القحط)، وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا سلَّط عليهم عدوهم من غيرهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله -عزَّ وجلَّ- وينظروا فيه إلا جعل الله بأسهم بينهم"
وقال مجاهد بن جبرٍ -رحمه الله تعالى-: "إن البهائم لا تلعن العُصاة من بني آدم إذا اشتدت السنين (أي: القحط) تقول: من شُؤم معصية بني آدم"، وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنه سمع رجلٌ يقول: (إن الظالم لا يضر إلا نفسه)، فقال أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه-: "لا والله حتى الحبارى لتموت في وكرها هزلًا لظلم الظالم ".
فصل الشتاء والتكافل المجتمعي
بعض الناس يحبون فصل الشتاء لما فيه من استمتاع بالطعام والفراش والنوم والسكون في البيوت واجتماع الأسر فراراً من برد الطرقات وأوحالها، ولكن البعض الآخر يكره فصل الشتاء أشد الكراهية وهم الفقراء فاقدي المسكن والمأوى والدفء والطعام اللازم لمواجهة برد الشتاء.
فيجب علي الخطباء أن يوجهوا عموم المسلمين من ذوي اليسار والقدرة إلى معاونة وكفالة إخوانهم في المجتمع بأن يمدوا يد المعونة إلى كل فقير بما أعطاهم الله-تعالى- من فراش ولحاف وغطاء ولباس، والله -سبحانه وتعالى- يحب المحسنين المتصدقين النافعين لإخوانهم ممن يحتاجون لهذا، ويحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه، وعلينا أن نعلم أن من شكر النعمة أن نعطي المساعدة إلى إخواننا الفقراء المساكين، وأن نواسيهم بها، وأن نجبر قلوبهم بتلك المشاعر الطيبة، وأن نُعينهم على شدة البرد المؤذي بما أعطانا ربنا عز وجل من نعم، ولا تجود يد إلا بما تَجِدُ من عطاء الله عز وجل.
بل إن الله عز وجل جعل من المطر ثواباً لمن يشكر نعمته ويتصدق على عباده الفقراء المحاويج. فقد أخرج الإمام مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «بينا رجلٌ بفلاةٍ من الأرض (أي: بصحراءٍ)، فسمع صوتًا في سحابةٍ: اسقِ حديقة فلانٍ (باسمه)، فتنحّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حَرّةٍ، فإذا شَرجةٌ من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبّع الماء فإذا رجلٌ قائم في حديقته (أي: في مزرعته) يحول الماء بمسحاته، فقال له: "يا عبد الله، ما اسمك؟"، قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: "يا عبد الله، لما تسألني عن اسمي؟"، فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسقِ حديقة فلانٍ -لاسمك-، فما تصنع فيها؟، فقال هذا الرجل: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأرد فيها ثلثه» وفي رواية: «واجعل ثلثه في المساكين والسائرين وابن السبيل». عباد الله، هكذا أعطاه الله -عزَّ وجلَّ- هذا الثواب بسبب الصدقة، وبسبب شكره لهذه النعمة العظيمة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم