عناصر الخطبة
1/مولد الإمام الشافعي وحياته العلمية 2/رحلات الإمام الشافعي لطلب العلم 3/ثناء العلماء على الإمام الشافعي وبعض أقوالهم فيه 4/أهم ما يميز مدرسة الشافعي الفقهية 5/عبادة الشافعي وزهده وكرمه 6/موت الشافعي رحمه اللهاقتباس
إنه فقيه الملة وناصر السنة وسيد أهل زمانه، الذي حاز المراتب العالية، وفاز بالمناقب السامية، فهو العالم بالقرآن وعلومه، العالم بالحديث وأصوله، العالم بالفقه وقواعده، العالم باللغة والأدب والشعر وفرائده، العالم بالأنساب وأيام الناس، بل العالم بالطب في زمانه، العابد الزاهد التقي النقي، القرشي ثم المطلبي محمد بن إدريس الشافعي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: سِيَر أئمة الهدى ومصابيح الدجى قدوةٌ صالحةٌ طيبة لعموم الأمة، حوت المثل العليا في وقت قلَّت فيه القدوة، بل وقُدِّم فيه الفارغون والتافهون ليكونوا القدوة والمثال.
وفي هذه الخطبة نتناول سيرة حياة إمام كبير ننظر في مناقبه وفضائله ومآثره، قال عنه تلميذه الوفي الذكي النجيب إمام أهل السنة الإمام أحمد: "كان كالشمس للدنيا: وكالعافية للناس، فانظر هل ترى لهذين من عوض أو هل ترى لهما من خلف".
إنه فقيه الملة وناصر السنة وسيد أهل زمانه، الذي حاز المراتب العالية، وفاز بالمناقب السامية، فهو العالم بالقرآن وعلومه، العالم بالحديث وأصوله، العالم بالفقه وقواعده، العالم باللغة والأدب والشعر وفرائده، العالم بالأنساب وأيام الناس، بل العالم بالطب في زمانه، العابد الزاهد التقي النقي، القرشي ثم المطلبي محمد بن إدريس الشافعي.
أيها المسلمون: وُلد الشافعي سنة مائة وخمسين من الهجرة بمدينة غزة على أصح الأقوال لأهل العلم، ولما بلغ الشافعي سنتين انتقلت به أمه الفقيهة العالمة الحكيمة بعد موت أبيه إلى مكة زادها الله تشريفاً وتعظيماً وإجلالاً وتكريماً.
وفي ظلال الكعبة، وبين ربوع بيت الله الحرام نشأ الإمام الشافعي، وفي سنٍ مبكرة جداً دفعت أم الشافعيِ الشافعيَ إلى شيخ من شيوخ الحرم المكي ليحفظه القرآن الكريم، فحفظ الشافعي القرآن كله في السابعة من عمره، ثم انتقل بعد ذلك إلى طلب العلم الشرعي على يد أول أستاذ له وهو شيخ الحرم المكي حينذاك، الإمام العلم: مسلم بن خالد الزنجي رحمه الله تعالى.
حفظ الشافعي موطأ الإمام مالك في تسع ليالٍ، ثم رحل إلى الإمام مالك فلما كلمه، أعجب الإمام مالك بذكائه وفصاحته ولغته وبيانه وإعرابه، فلازمه وقرأ عليه الموطأ من حفظه، وأخذ علم الحديث عن الإمام مالك، وأخذ عنه الفقه وفتاوى الصحابة وعمل أهل المدينة رضوان الله عليهم جميعاً.
ثم رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلاد اليمن لطلب العلم، وما لبث الشافعي إلا قليلاً حتى انتشر ذكره، وعلا قدره، وظهر فضله على جميع الشيوخ والعلماء وهو الذي ذهب طالباً للعلم حتى قال له شيخه مسلم بن خالد الزنجي حينما عاد من المدينة إلى مكة، قال له: افتِ يا أبا عبد الله، فإنك الآن أهل للفتيا، وهو غلام حدث صغير.
فاق الشافعي أقرانه بل وشيوخه في اليمن، ووصل إلى مرحلة فريدة في العلم، فجلس الشافعي في مكة يؤصل الأصول، ويقعِّد القواعد، واتخذ له حلقة في مسجد الله الحرام، جمعت إليه الناس ولفتت إليه الأنظار، وازدحمت حلقة الشافعي ازدحاماً عجيباً، حتى إن الإمام أحمد إمام أهل السنة جاء حاجّاً من بغداد من بلاد العراق إلى مكة المكرمة شرّفها الله، فترك الإمام أحمد حلقة شيخ الشافعي سفيان بن عيينة، وعكف في حلقة الشافعي، بل ولم يكتفِ الإمام بهذا، إنما ذهب إلى أخيه وصاحب رحلته إسحاق بن راهويه وقال: تعال يا إسحاق أريك رجلاً بمكة ما رأت عيناك مثله، يقول إسحاق: فأراني أحمدُ الشافعيَّ.
وأُعجب الإمام أحمد بذكاء وعلم الشافعي إعجاباً رهيباً، لأنه يسمع أصولاً وقواعد لأول مرة يسمعها وغيره من أهل العلم، فإن أول من أصَّل الأصول وقعد القواعد هو الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، حتى قال أحمد قولته الخالدة الجميلة: "لولا الشافعي ما تعلمنا فقه الحديث.. وقال: كان الفقه مغلقاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي، وقال: ما من أحد مسَّ محبرة ولا قلماً بعد الشافعي إلا وله في عنقه منّة، وقال: والله ما أعلم أحداً أعظم منة وبركة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي".
عباد الله: وأصدقُ وصف لمنهج الشافعي الفقهي والعلمي أنه المنهج المتكامل، فلقد كان الناس كلُّهم قبل زمان الشَّافعي فريقين؛ أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي؛ أمَّا أصحاب الحديث: فكانوا حافظين لأخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا إنهم كانوا عاجزين عن النَّظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحدُ أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً؛ بقوا على ما في أيديهم، عاجزين متحيِّرين، وأما أصحاب الرأي، فكانوا أصحاب الجدل والنظر، إلا أنهم كانوا فارغين من معرفة الآثار والسنن، وأما الشافعيُّ؛ فإنه كان عارفاً بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم، محيطاً بقوانينها، وكان عارفاً بآداب النظر والجدل وقوياً فيه، وكان فصيح اللسان، قادراً على قهر الخصوم، فأخذ في نصرة أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان كلُّ من أورد عليه سؤالاً أو إشكالاً، أجاب عنه بأجوبة شافية كاملة، فانقطع بسببه استيلاء أهل الرأي على أصحاب الحديث، وتخلَّص بسببه أصحابُ الحديث من شبهات أهل الرأي، فلهذا السبب انطلقت الألسنة بمدحه ولقَّبوه بناصر الحديث.
فمدرسة الشافعيِّ الفقهية مزيج من فقه المدرستين؛ النقلية والعقلية، ومع ذلك كان أثرياً سلفياً يعتمد على الوحيين: القرآن والسنة ثم القياس والإجماع، وكان يقول: "كلُّ من كان على الكتاب والسنة هو الجِدُّ، وما سواه هو الهذيان"، ويقول: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، وإذا صحَّ الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط، فأيُّ سماء تظلُّني وأيُّ أرض تقلُّني إذا رويتُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثاً فلم أقل به"!.
ولهذا كان يرجع عن كثير من أقواله، وهذا الرجوع للحديث والعمل به لا يُقْدِمُ عليه إلا العلماء العاملون المخلصون الربانيون؛ وكم من متفقه ومتعالم يُقدِّم رأيَ إمامه وشيخه على حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يُبالي هل يخالفه أم لا، وهذا هو عين نكبة المسلمين الآن!
وكان الشافعيُّ شديداً على أهل الأهواء والبدع، وكان كثيراً ما يقول: "لأن يلقى اللهُ العبد بكلِّ ذنب ما خلا الشرك بالله، خيرٌ من أن يلقاه بشيءٍ من الهوى"، ويقول: "حكمي في أهل الكلام؛ أن يُضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُنادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام"، وكان ينهى أصحابه عن الخوض في كلام المبتدعة، وينهى عن الصلاة خلف الرافضيِّ والمرجئيِّ والقدريِّ المعتزليِّ، وأفتى بكفر من يقول بخلق القرآن.
أيها المسلمون: يعتبر الإمام الشافعيُّ من أكثر علماء الأمة تأثيراً في الحياة العلمية، كان يصنّف التصانيف ويدوِّن العلوم، ويرد على الأئمة والكبار متبعاً الأثر، فبَعُد صَيْتُه وتكاثر عليه الطلبة، وبورك له في تلاميذه؛ فلم يُعلم أحد من الأئمة له تلاميذ نجباء أفذاذ مثل الشافعي.
يعتبر الشافعي -رحمه الله- أول من صنف في أصول الفقه وأحكام القرآن، وذلك في كتابه الشهير "الرسالة" وقد أجاب فيه على بعض أسئلةٍ بعث إليه بها شيخه عبد الرحمن بن مهدى، ولقد بارك الله -عز وجل- في مصنَّفات الشافعي، وتسابق العلماء على اقتنائها وتحصيلها واستخراج كنوزها، بل إن إسحاق بن راهويه تزوج أرملة رجل بمرو كانت عنده كتب الشافعي، لم يتزوجها إلا للكتب.
فانظروا إلى همتهم في طلب العلم، نسأل الله أن يزيدنا علمًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المسلمون: وعلى الرغم من انشغال الشافعي الكبير بالعلم الشرعي والدرس والبحث وإيثاره لطلب العلم على صلاة التطوع والنَّوافل، إلا أنه كان عابداً ربانياً زاهداً مقبلاً على شأنه.
وقال عنه راويته الربيع بن سليمان: "كان الشافعيُّ قد جزَّأ الليل: فثُّلثه الأول يكتب، والثاني يصلِّي، والثالث ينام، وكان لا تمرُّ عليه آية عذاب أو حديثٌ فيه ترهيب إلا خرَّ مغشياً عليه.
أما عن زهده فكان على شاكلة إخوانه من علماء الأمة الربانيِّين في الزهد والورع، تمرَّس عليه حتى صار له سجيَّة وطبعاً؛ فعن يونس بن عبد الأعلى، قال لي الشَّافعيُّ: "يا أبا موسى، آنَست بالفقر؛ حتى صرت لا أستوحش منه" وقال لتلميذه الربيع بن سليمان: "يا ربيع، عليك بالزُّهدِ، فالزهد على الزاهد، أحسنُ من الحُلي على المرأة الناهد".
قال عنه أحد معاصريه وهو عمر بن نباتة: "والله، ما رأيت رجلاً قطُّ، أورع، ولا أخشع، ولا أفصح، ولا أسمح، ولا أعلم، ولا أكرم، ولا أجمل ،ولا أنبل، ولا أفضل، من محمد بن إدريس الشافعي".
أيها الإخوة: أما أكثرُ ما يُميِّز الشافعيَّ فهو سخاؤه وكرمه الشديد، وله أمثلة ونوادر في ذلك مشهورة؛ فعن الحميديِّ، قال: "قدم الشَّافعيُّ من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل، فضرب خباءه في موضعٍ خارجاً من مكة، فكان الناس يأتوه فما برح حتى ذهبت كلُّها".
وكان من سخائه أنه يُعطي على الشيء الصغير المال الوفير، فكان ربما يقع سوطه فيُعطي الغلام الذي يُناوله إياه تسعة أو عشرة دنانير، وانقطع شسع نعله فأعطى الرجل الذي أصلحه سبعة دنانير، وكان كثيراً ما يقول: "السَّخاء والكرم، يُغطيان عيوب الدنيا والآخرة، بعد أن لا يلحقهما بدعة".
عباد الله: وفي السنة الرابعة بعد المائتين، أي: في الرابعة والخمسين من عمره نام الشافعي على فراش الموت بعد ما اشتد به المرض، ودخل عليه تلميذه المزني ليقول له: كيف أصبحت؟ فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ووالله لا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، وبكى الشافعي -رضي الله عنه-، ونظر إلى السماء وناجى ربه جل وعلا وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ما زلت ذا عفوٍ عن العبد لم تزل *** تجود وتعفو منةً وتكرما
ولقي الشافعي ربه -جل وعلا- بعد هذه المناجاة الرقيقة التائبة الآيبة إلى الله -عز وجل-، فرحم الله الشافعي رحمة واسعة، وجزاه الله عنا وعن المسلمين والإسلام خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم