السيرة - سيرة الصحابيات الجليلات - أمهات المؤمنين - سيرة السيدة خديجة بنت خويلد

محمد راتب النابلسي

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات:

6-8 : موقف السيدة خديجة و مؤازرتها له

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2000-01-06

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس السادس من دروس سيَر الصحابيات رضوان الله تعالى عليهم ، ومع السيدة خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى .

السيدة خديجة مثل أعلى للمرأة التي لها دورٌ كبير في نشر الحق ودعمه :

أيها الأخوة الكرام ، كلما تعمَّقنا في معرفة وتحليل شخصيات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ازددنا يقيناً أن للمرأة دوراً خطيراً في حياة المجتمع الإسلامي ، تستطيع المرأة وهي نصف المجتمع أن تكون سنداً للحق ، وأن تكون مشارِكةً مشارَكةً فعالةً في دعم الحق ، وتثبيت دُعاة الحق ، والسيدة خديجة رضي الله عنها مثل أعلى للمرأة التي لها دورٌ كبير في نشر الحق وفي دعمه .

دورها السابق كان دور التثبيت ، دورها الجديد دور المؤازرة ، والمصابرة ، انتهينا في الدرس السابق من الحديث عن تثبيت هذه السيدة الجليلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واليوم ننتقل إلى دورٍ جديد من أدوارها البطولية في مؤازرة رسول الله ، والمصابرة معه على تحمُّل المشاق .
أقف قليلاً لأستفيد من هذا الدرس في حياتنا ، هناك زوجات ؛ ما دام الزوج غنياً فله عندهن ولاءٌ كبير ، فإذا افتقر الزوج ، أو تراجعت أحواله ، أو قَلَّ دخله ، أو مرض ، ازورت عنه هذه الزوجة ، هذه الزوجة لا خلاق لها عند الله ، لأن أقدس عقدٍ بين إنسانين عقد الزواج .

﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (21)﴾

( سورة النساء )

الميثاق الغليظ أقدس عقدٍ بين إنسانين ، الزوجة مع زوجها على السرَّاء والضرَّاء في إقبال الدنيا وإدبارها ، معه في غناه ومعه في فقره ، معه في صحته ومعه في مرضه ، معه في ضيقه ومعه في انطلاقه ، هذه الزوجة التي مع زوجها في كل أحواله تستحق كل تكريم .

لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكة نصب الراية عند قبر خديجة ، ليشعر الناس جميعاً أن لهذه الزوجة المخلصة دوراً كبيراً في نجاح الدعوة ، فإن لم يتح لها أن تكحِّل عينيها بهذه النتائج الباهرة الرائعة للدعوة ، فلا أقل من أن يشعر الناس أن لها فضلاً كبيراً .

السيدة خديجة كانت وزيرة رسول الله الأولى آزرته على أمره فخفف الله عنه بها :

أيها الأخوة الكرام ، الوفاء الزوجي شيء مهم جداً ، أما حينما ينطلق الرجل من أنه رجل ، هو كل شيء ، وأن امرأته لا شيء ، يقع في جاهليةٍ معاصرة ـ هذه جاهلية ـ الزوجة كالرجل تماماً ، قد تؤمن ، وقد ترتقي ، وقد تسمو ، وقد يكون لها عملٌ صالحٌ كبيرٌ جداً ، أليست تربِّي أولادها ؟ أليست تدفع للمجتمع عناصر طيِّبة ؟

صدقوني أيها الأخوة أن كل امرأةٍ تقدم عنصراً للمجتمع أخلاقياً ، مؤمناً ، مُنصفاً ، هذا الابن البار شهادةً لأمه .

إذاً هذه السيدة عاونت رسول الله في تبليغ الدعوة ، ومواجهة عناد المشركين ، وإعراضهم ، وعدوانهم ، وقد قال ابن هشام : " ووازرته ـ كأنها وزيرة صدقٍ معه ، الوزير أي معاون ، الملك لا يستطيع أن يدير أمور البلاد كلها ، يحتاج إلى وزراء كي يعاونوه ـ أي يعينوه ـ يمكن أن نقول بصدق : أن السيدة خديجة كانت وزيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولى ـ آزرته على أمره فخفف الله بذلك على نبيه " .

أنا أقول لكم أيها الأخوة : الزمن صعب ، البيت المسلم الذي فيه حنان زوجي ، الذي فيه تفاهم ، الذي فيه تعاون ، الذي فيه مشاركة ، هذا البيت يقوى على مواجهة مصاعب الحياة ، الحياة فيها صعوبات كثيرة ، لكن لو أكلت مع زوجتك أخشن الطعام ، ولو كان البيت صغيراً جداً ، التفاهم والود يغنيك عن كل شيء .

إذاً وازرته على أمره فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، أي أن الله عز وجل إذا أراد بك خيراً هيَّأ لك زوجةً صالحة تسرك إن نظرت إليها ، وتحفظك إن غبت عنها ، وتطيعك إن أمرتها ، والزوجة الصالحة هي حسنة الدنيا :

﴿ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)﴾

( سورة البقرة )

قيل : ما حسنة الدنيا ؟ قال : المرأة لصالحة .

(( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة .))

[مسلم عن عمرو بن العاص]

الحقيقة أقول لكم هذه الكلمة وسأوِّجهها لأخواننا الشباب : ما من شابٍ يعفُّ عن الحرام إلا كافأه الله في الدنيا قبل الآخرة ، يكافئه بزوجةٍ صالحة تسعده ، وتحصنه ، وتعينه على أمر دنياه ، أنا لا أقصد أبداً حينما نروي قصص الصحابيات الجليلات ، أولئك قومٌ احتلوا عند الله مكانةً كبيرة ، لا مدحنا إيَّاهم يرفعهم ، ولا ذمنا لهم يخفضهم ، إنما نستفيد منهم ـ من حياتهم ـ دروساً تعيننا على متابعة الطريق إلى الله عز وجل .

السيدة خديجة بذلت نفسها ومالها في سبيل تبليغ الدعوة إلى الناس :

هذه السيدة الجليلة وقفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تَشُدُّ أزره ، وتواسيه، وتقويه ، وتأسو جراح نفسه، وما أكثر ما لقي عليه الصلاة والسلام من عناد المشركين ومن أذاهم ، وصبرت وهي بجانبه وصابرت ، وساعدته بكل ما تستطيع ، بذلت نفسها ومالها في سبيل تبليغ الدعوة إلى الناس.
أيها الأخوة الكرام ، صدقوني أن المال مهما كثُر لا معنى له إطلاقاً ، والله وأقسم على ذلك ، المال مهما كثر بين يديك لا معنى له إلا أن تنفقه في سبيل الله ، خذ منه حاجتك ، كل ، واشرب، واسكن في بيت ، وأطعم أهلك وأولادك ، وألبسهم ؛ أما الذي يفيض عن حاجتك والله لا معنى له، وسوف تحاسب عليه إلا أن تنفقه في سبيل الله .

إذاً أنفقت مالها في سبيل الله ، فأحياناً بالمال تحل مشاكل كبيرة جداً ، بالمال أحياناً تُضمَّد الجراح، بالمال أحياناً ترسم البسمة على وجوه الصغار ، أنا لا أنسى أحد أخوتنا الكرام أصيب بمرض قلبي عضال ، ذهبت إلى بيته أزوره ؛ بيت كله كئيب ، الأولاد ، شعرت أن حزناً يخيم على هذا البيت ، هذا الأخ يقول لي : اتصلت به امرأةٌ محسنة ، وأبلغته أنْ قابل غداً الطبيب الفلاني ، ليجري لك العملية الجراحية في القلب ، وهي تكلف ربع مليون ليرة ، والمبلغ مغطى ، هذا اتصل بالطبيب ، وأعطاه وعداً ، وبعد حين أجريت له عملية ، ونجحت نجاحاً باهراً ، وعاد إلى البيت .

ذهبت إلى بيته بعد أن نجحت العملية ، طبعاً أواسيه ، وأهنئِّه على نجاح العملية ، والله الذي لا إله إلا هو رأيت أولاده كادوا يرقصون فرحاً لصحة أبيهم ، فهذه المرأة التي دفعت هذه المبلغ أين وصلت عند الله ؟ هذا المال ، ليس له معنى آخر المال إلا أن تنفقه رخيصاً في العمل الصالح ، في خدمة الحق ، في إطعام المساكين ، في نشر العلم ، في طبع الكتب ، في تأسيس المراكز الإسلامية ، في تأسيس دار للأيتام .

والله دخلت إلى دار أيتام فيها عناية ، ونظافة ، وأناقة ، ومطاعم ، وترتيبات ، ومهاجع ، ومكاتب ، ومصلى ، بناء فيه إما أربعة أو خمسة طوابق ، هؤلاء الذين بذلوا حتى رعوا هؤلاء الأيتام ، هؤلاء لهم عند الله وسام شرف .

 

 

 

السيدة خديجة كانت وزيرة صدقٍ للنبي الكريم :

أخواننا الكرام ، أقول لكم كلاماً دقيقاً : مرةً لي صديق له أخٌ توفي فجأةً ، هو في نزهة ، في بلد جميل جداً ، بالفندق أصيب بسكتة دماغية ، سألته في الطريق : كم عمره ؟ قال : خمسة وخمسين عاماً ، ليس كبيراً جداً في السن ، كم ترك من الأموال ؟ أكثر من أربعة آلاف مليون ، مبلغ ضخم ، ماذا كان يأكل ؟ مثلنا تماماً ، فهذا الذي تركه ما قيمته بعد الموت ؟ صفر ، كم كان من الممكن أن يفعل بهذا المبلغ الضخم ؟ كم من مستشفى يؤسس ؟ كم من مستوصف ؟ كم دار أيتام ؟ كم معهد علم شرعي ؟ كم من إنسان يجعله يدرس على نفقته ؟

أنا كنت أقول لكم أيها الأخوة : إما أن تكون داعيةً ، وإما أن تتبنى داعية ـ كلام دقيق وطيِّب ـ وهي صنعة الأنبياء ، وإما أن تتبنى داعيةً ، فإذا أنفقت من مالك على طالب علم شرعي مخلص مستقيم ، كي تحميه من بذل ماء وجهه للناس ، من عملٍ مهين ، أنفقت عليه ، وطلب العلم بهدوء وبراحة نفسية ، وصار داعية ، كل دعوته في صحيفتك .

سمعت مرةً قصة أبٍ عنده بنتٌ وابن ، يبدو أن الأب فقير ، وهذه البنت تعمل في الخياطة ، فكانت تعمل ليلاً نهاراً لتنفق على أخيها ، أخوها صار طبيباً ، فالأب أوصى الطبيب أنه لولا أختك ، وعملها ليلاً نهاراً ، وكسبها المال ، وإنفاقه عليك لما كنت طبيباً ، لذلك أوصيك أن تجمع دخلك ، ودخلها مدى الحياة ، ويقسَّم إلى نصفين ، ويأخذ كل طرفٍ نصف الدَخلين معاً ، كلام عدل ، لولا أخته لما كان بهذا المنصب .

أنت كم تستطيع أن تفعل بالمال الزائد ؟ أحياناً تدفع لإنسان ألف أو ألفين تحل له مشكلة كبيرة جداً، ذكر لي أحد العلماء عن طالب علم ، خطب ، وعقد قرانه ويؤسس البيت ، وصل لمبلغ بسيط بضع آلاف ، فقال أحد أخواننا الدعاة : والله هذا طلبه مني ، وأنا تمكنت أن أؤمنه له ، فلما أبلغته أن المبلغ جاهز فوجئت أنه خر على الأرض ساجداً لله ، شكراً لله على نعمة تأمين هذا المبلغ ، أنت لا تعرف بإنفاق عشرة ، خمسة آلاف ، ثلاثة آلاف ، على طالب علم كم تسعده ؟ أما هذا الذي ينفق ستين مليون في عقد قرانه ، أنت ألا تشعر أن هذا الإنسان يتلف المال ؟ السيدة خديجة إذاً أنفقت مالها على رسول الله .

عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أن السيدة خديجة بنت خويلد ، أول من آمنت بالله ورسوله ، وأول من صدَّق محمداً فيما جاء به عن ربه ، وأول من آزره على أمره ـ الآن دققوا ـ فكان لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه من ردٍ عليه وتكذيبٍ له ، إلا فرَّج الله بها عنه ، " يقول لها : هكذا قالوا ، هكذا كذبوني ، هكذا فعلوا ، هكذا سخروا ، هكذا ردّوا ، هكذا عارضوا ، هي في البيت تثبته ، وتصبره ، وتشد من عزيمته ، وتخفف عنه ، وتهون عليه ما يلقى من قومه .

مرة ثانية :" كانت رضي الله عنها وزيرة صدقٍ للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يسكن إليها " .

شقاء الزوج شقاءٌ حتميٌ لزوجته :

يا أخواننا الكرام الإنسان عنده زوجة ، هو يحسنها ، وهو يجعلها سيئة ، أحد الأشخاص قال لمخطوبته : إن في خلقي سوءاً ، فقالت له : إن أسوأ خُلقاً منك من حاجك لسوء الخلق " ، فأحياناً الرجل بأخطائه الكثيرة يقود زوجته إلى سوء الخلق ، وأحياناً الزوجة بحماقتها تقود زوجها إلى سوء الخلق ، وبحكمة الزوج يفجِّر في زوجته طاقات الخير ، وبحكمة الزوجة تفجِّر في زوجها طاقات الخير .

الحياة تحتاج إلى حكمة ، أنت بزوجة متوسطة تسعد بها ، وبزوجة بارعة تشقى بها ، إذا كنت حكيماً تسعد بالمتوسطة ، وإن لم تكن حكيماً تشقى بالبارعة .

كانت رضي الله عنها وزيرة صدقٍ للنبي ، وكان يسكن إليها ، يرتاح إلى عقلها وإلى إيمانها ، هذه السيدة الجليلة تعلم وعورة الطريق وصعوبة السير فيه منذ أن سمعت ابن عمها ورقة بن نوفل يقول : " لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي " .

دائماً وأبداً ونحن في هذا الزمان وطن نفسك على أن طريق الحق ليس محفوفاً بالزهور ، طريق الحق محفوف بالأشواك ، فيه معارضون ، ومنتقدون ، وساخرون ، ومشككون ، وحُسَّاد ، ومبغضون ، وفيه أُناس يعملون ضدك في الخفاء ، وأناس يسفِّهون عملك ، هذه سنة الله في خلقك، معركة الحق والباطل أزليةٌ أبدية .

كانت رضي الله عنها أول من سار على هذا الطريق ، متحديةً كل ما فيه من عقباتٍ وصعاب ، سارت إلى جانب النبي ، وتعرَّضت لكل ما تعرَّض له عليه الصلاة والسلام من أذى ، أذكركم بقول الله عز وجل :

﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(117)﴾

( سورة طه )

تشقيا ، يكفي تشقى ، لأن شقاء الزوج شقاءٌ حتميٌ لزوجته ، أول أذىً أوذيت به السيدة خديجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زوَّج السيدة رقية من عتبة بن أبي لهب ـ قبل البعثة ـ وزوج السيدة أم كلثوم من عُتيبة بن أبي لهب ـ زوج ابنتيه لابني أبي لهب ـ ولما أراد المشركون أن يؤذوا رسول الله طلبوا من عتبة وعتيبة أن يطلقا ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلقاهما، والأب وحده الذي زوَّج ابنته يعلم ما معنى أن تطلَّق ابنته .

النبي صلى الله عليه وسلم سيِّد البشر

تجري عليه كل خصائص البشر :

المرأة كسرها طلاقها ، المرأة نجاحها بزواجها ، وطلاقها يعني أن أخفقت في حياتها ، وكسرها طلاقها ، فأراد المشركون أن يؤلموا رسول الله ، أن يزعجوه بتطليق ابنتيه ، والسيدة خديجة أول خبرة مؤلمة عانتها بعد البعثة أن ابنتيها طُلقتا .

رواية ثانية : النبي عليه الصلاة والسلام زوَّج عُتبة بن أبي جهل السيدة رقية ، فمشى إليه بعض المشركين فقالوا له : طلِّق بنت محمد ، ونحن نزوجك أيَّة امرأةٍ من قريشٍ شئت ، انتقِ ، هذا الرجل هو ذكي ، استغل هذا العرض ، وقال : زوجوني إن زوجتموني بنت أبان بن سعيد بن العاص ، أو بنت سعيد بن العاص ، يبدو أنها أفضل امرأة في قريش ، إن زوجتموني هذه المرأة طلقتها ، واستجبت لكم ، فزوجوه بنت سعيد بن العاص ، وفارق رقية بنت محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن دخل بها .

لكن النبي عليه الصلاة والسلام جعله الله أسوةً لأمته من بعده ، ما معنى أسوة ؟ أي أنه ذاق تطليق البنت ، وذاق موت الولد ، وذاق حديث الإفك ، والله الذي لا إله إلا هو ما في واحد من الحاضرين يحتمل هذا الحديث ، أن يتهامس الناس عن زوجتك أنها زانية ، فما قولك ؟ هل أحد يحتمل هذا ؟ ذاق النبي ترك الوطن ، هاجر ، ذاق النبي الفقر والجوع ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ :

(( يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ ))

[مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

ذاق الغنى فكان كريماً ، ذاق القهر في الطائف ، وذاق النصر في مكة ، ذاق القهر ، وذاق النصر ، وذاق الغنى ، وذاق الفقر ، وذاق موت الولد ، وذاق تطليق البنت ، وذاق ترك الولد ، وذاق كل شيء ، ووقف الموقف الكامل من كل شيء ، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيِّد البشر .

لا تظن أن رسول الله هكذا ، بل عانى ما عان ، فأحياناً الخبر ليس كالعيان ، فقل لواحد : آلام الأسنان ، فهذه كلمة ، وإنسان إلى الساعة الرابعة لم ينَم من آلام الأسنان ، أنت تقولها كلمة ، أما هو ما ذاق طعم النوم من شدة الألم ، تقولها كلمة وهو يعانيها ، فرق كبير بين المعاناة وبين الخبر .

العبادة نوعان عبادة مطلقة وعبادة مقيَّدة :

سيدنا عثمان من شدة الضغط على الصحابة الكرام سافر مع زوجته إلى الحبشة فراراً بدينهما ، فالإنسان ببلده مستقر ، ببيته ، له مكانته ، بتجارته ، يذهب إلى بلد بعيد ، ويقيم هناك فراراً بالدين !! إذاً ذاقت السيدة خديجة فراق ابنتها ، سافر بها عثمان ، ويروى عن رسول الله فيما رواه أنس بن مالك أنه قال :

 

(( عثمان ورقية أول من هاجر إلى أرض الحبشة ، وهما أول من هاجر بعد لوط ))

[الجامع الصغير عن زيد بن ثابت]

أول إنسان هاجر بعد سيدنا لوط هو سيدنا عثمان ، فقد هاجر بأهله إلى الحبشة ، أنت الآن لو سافرت إلى بلد لا تعرفه أين تنام ، في غرفة قد تكون مريحة أو غير مريحة ، على فراش وثير أو غير وثير ، معك نفقات الطعام أو لا يوجد معك ، السفر قطعة من العذاب.

سيدنا عثمان رجع مع زوجته السيدة رقية إلى مكة المكرمة ، ثم هاجرا معاً إلى المدينة ، ومرضت في أثناء غزوة بدر .

دققوا الآن : النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه كلهم متجهون إلى بدر ليحاربوا قريشاً ، وسيدنا عثمان زوج ابنته وابنته مريضة ، ماذا فعل النبي ؟ خلَّف عثمان بن عفان على المدينة من أجل العناية بزوجته المريضة ، صدقوا، هل لأن زوجته بنت رسول الله ؟ لا ، كل إنسان تمرض زوجته ، أو يمرض ابنه ، أو يمرض أباه ، ولا يبالي بهذا المرض فقد خالف سُنَّة النبي .

أنا أقول لكم هذه الكلمة : العبادة نوعان ؛ عبادة مطلقة ، وعبادة مقيَّدة ، فواحد من أخواننا الكرام، يوم الاثنين في درس في جامع العثمان يجب أن يحضر ليكون صادقاً ، يجب أن يحضر ليثبت للأخوان أنه لا يغيب ، لا بد أنْ يحضر ، يجب أن يحضر ، لا سمح الله ولا قدر ابنه مرض مرضاً شديداً ، ماذا يفعل ؟ ينبغي أن تعالجه قبل كل شيء ، والدك مرض لا سمح الله ، زوجتك مرضت ، ابنك مرض ، العبادة التي يرضاها الله منك الآن أن تعتني بهذا المريض .

النبي أعفى عثمان من الجهاد معه من أجل أن يمرِّض زوجته ، توفيت السيدة رقية في مرضها هذا ، فأكثر الناس إذا توفيت زوجته يقولون : هو نحس عليها ، أماتها ، ماذا فعل النبي ؟ زوجه أختها ، السيدة أم كلثوم ، وتوفيت أيضاً ، لهذا لُقِّب سيدنا عثمان بن عفان بذي النورَين .

سنوات المقاطعة الظالمة الثلاث كانت من أقسى المِحَن :

لكن أيها الأخوة السيدة خديجة لم تحضر وفاة ابنتيها ، لأنها توفِّيت قبلهما .

أما الشيء الدقيق جداً موضوع المقاطعة ؛ محنة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في سنوات المقاطعة الظالمة الثلاث أقسى المِحَن ، ذلك أن قريشاً لما رأت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى الحبشة ، قد نزلوا بلداً أصابوا فيه أمناً وقراراً ، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر بن الخطاب قد أسلم ، وكان رجلاً ذا شكيمةٍ لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله ، وبحمزة عم النبي ، وبدأ الإسلام يفشو بين القبائل ، هذه خطيرة جداً ، أنْ تتسع دوائر الإسلام ، يزداد أتباعه ، تزداد شكيمته ، يدخل فيه رجال أقوياء ؛ سيدنا حمزة من كبار شخصيات قريش أسلم ، سيدنا عمر من كبار الشخصيات أسلم ، فالأمر يتفاقم .
أجمع أهل قريش وأهل مكة واتفق رأيهم على قتل رسول الله وقالوا : قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا ، فقالوا لقومه : خذوا منا ديةً مضاعفة ، وليقتله رجلٌ من غير قريش ، ويريحنا ، وتريحون أنفسكم .

يفاوضون قومه بني هاشم ، نحن عندنا تقاليد إذا قتل إنسان إنساناً فعليه دية ، إذاً نعطيكم دية مضاعفة ، ونسمح لإنسان بقتله من غير قريش ، وتأخذون الدية ، وينتهي الأمر ، هذه المفاوضة مع بني هاشم قوم النبي .

رفض قوم بني هاشم هذا العرض وانضم إليهم بنو عبد المطلب بن عبد مناف ، فلما عرفت قريش أن رسول الله قد منعه قومه ، منعة عصبيةً ، هم لم يؤمنوا به ، وكذلك بنو عبد المطلب ، ولكن منعوه عصبيةً ، فلما رأت أتباع النبي يزدادون ، والإسلام تتسع دوائره ، وشخصياتٌ راقيةٌ جداً دخلت في الإسلام ، أرادوا قتل النبي .

بدء المقاطعة :

فاوضوا بني هاشم على دفع ديةٍ مضاعفة ، فلما رفض بنو هاشم وبنو عبد المطلب ، وآثروا حماية النبي لا بد من موقفٍ مضاد ، ماذا فعلت قريش؟

أجمعوا على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب ـ هذه المقاطعة الاقتصادية قديمة وليست جديدة ، قاطعوا بلاداً ، صار فيها غلاء ، سرقات ، زنا ، قهر ، موت ، موت أطفال بعدد كبير جداً ، وثمة تقارير يندى لها جبين الإنسانية عن بلاد قوطعت اقتصادياً ، فصارت فيها مآس لا تعد ولا تحصى ـ وكتبوا كتاباً تعاقدوا فيه ألا ينكحوهم ، ولا ينكحوا إليهم ـ لا يزوجوهم ، ولا يتزوجوا منهم ـ ولا يبيعوهم شيئاً ، ولا يبتاعوا منهم ، ولا يقبلوا منهم صُلحاً ، ولا تأخذهم به رأفةٌ ، حتى يسلموا رسول الله للقتل ـ فهي مقاطعة إلى أن تأتوا برسول الله نقتله ، وإلا لا نبيعكم ، ولا نشتري منكم ، ولا نزوِّجكم ، ولا نتزوج منكم ، أي أنها كالمقاطعات التي تسمعون عنها في هذه الأيام تماماً ، وكان فيما سمعت أن الدينار كان مبلغه ضخماً جداً ، صار ألف وثلاثمئة دينار تساوي دولاراً ، بالمقاطعة طبعاً ـ فلما عرفت قريش علقوا صحيفة المقاطعة في جوف الكعبة ، توكيداً على أنفسهم ، وقطعوا عن بني هاشم وبني عبد المطلب الأسواق ، ولم يتركوا طعاماً ، ولا إداماً ، ولا بيعاً إلا بادروا إليه واشتروه واحتكروه .

عملية تجويع ، عملية إذلال ، عملية تحطيم ، وانحاز أبو طالب إلى شعبٍ له في مكة ، وانحاز معه بنو هاشم وبنو عبد المطلب ، إلا أخاه أبو لهب ، وكان أبو طالب طول مدتهم في الشِعب يأمر النبي ألا ينام في فراشه خوفاً عليه ، ويأمر أحد أبنائه أن ينام على فراش رسول الله .

معاناة المسلمين بسبب المقاطعة :

استمرت المقاطعة ثلاث سنوات ، عانى فيها المسلمون من قلة المؤن والطعام .

والله نحن لم نذق شيئاً ، فهناك أصحاب النبي دفعوا ثمناً باهظاً لهذا الدين ، واحد أراد أن يبيع بيته لإنسان غير مسلم قال له : يجوز ، قال له : اسأل سيدنا خالداً كم دفع ثمن فتح هذه البلاد ؟ اسأل أصحاب رسول الله كم دفعوا ثمن إيمانهم ، ونشر هذا الدين في هذه البلاد ؟

قال : كان عليه الصلاة والسلام عندما يقوم من الليل إلى الصلاة يسمع بكاء الأطفال من شدة الجوع ، أحياناً الإنسان يتحمَّل بعض المصائب ، أما الشيء الذي لا يحتمل أن يبكي ابنك جوعاً ، ولا تملك ثمن الطعام ، أو أن يبكي من ألمٍ ألمَّ به ولا تملك ثمن الدواء ، هذا شيء لا يحتمل ، كان عليه الصلاة والسلام يقوم من الليل ليصلي فيسمع بكاء الأطفال من شدة الجوع .

مرة حدثني أخ كان مقيماً مع قطعة عسكرية ، وداهمت الثلوج هذه القطعة ـ خمسة أمتار من حوالي خمس أو ست سنوات ـ وانقطعت هذه القطعة عن كل اتصالٍ خارجي ، من شدة الجوع ، ذهب هؤلاء العناصر إلى القُمامة ليأكلوا ما فيها ، الواحد قد لا يفهم هذا إطلاقاً ، أما حينما يجوع جوعاً لا يحتمل قد يفكِّر في أكل ما في القمامة ، أنا أعرض على مسامعكم صورة من صور المجاعة .

بعض أصحاب رسول الله قال : " كنا قوماً يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله ، وشدته ، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك وصبرنا له ، ولقد رأيتُني بمكة ، حيث خرجت من الليل لأقضي حاجتي ، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيءٍ تحتي ـ كأنها ورقة يابسة ـ فإذا قطعة جلد بعير ، فأخذتها، وغسلتها ، ثم أحرقتها ، ثم أكلتها ، وشربت عليها الماء ، فقويت عليها ثلاثة أيام " . هذه صورة من صور المقاطعة ، الصحابة الكرام دفعوا ثمناً باهظاً ، حملوا هذا الدين .

وقوف السيدة خديجة إلى جانب النبي وانضمامها إليه أثناء المقاطعة :

وقفت السيدة خديجة رضي الله عنها بجانب النبي صلى الله عليه وسلم ، وانضمَّت إليه في شعب أبي طالب .

(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يَخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلَا لِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبِطُ بِلَالٍ ))

[أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

تهريباً ، بذلت رضي الله عنها مالها لتؤمِّن ما تستطيع من طعام المسلمين ـ السيدة خديجة بذلت مالها لتؤمن ما تستطيع من طعامٍ للمسلمين ـ خلال سنوات مقاطعة ، واستعانت لهذا الأمر بابن أخيها حكيم بن حزام رضي الله عنه ، وكان حينئذٍ لا يزال على شركه ، لم يسلم بعد .

كان يشتري الطعام ، ويرسله إلى عمته السيدة خديجة ليلاً ، ولقيه في إحدى المرات أبو جهل ، ومع حكيم غلام يحمل قمحاً ، يريد عمَّته خديجة بنت خويلد ، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه في الشعب ، فتعلق به ، وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ـ خرقت المقاطعة ـ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة ، فجاء ابن هشام بن الحارث فقال : مالك وله؟ قال : يحمل الطعام إلى بني هاشم ؟ فقال أبو البُختري : طعامٌ كان لعمته بعثت إليه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ، خلي سبيل هذا الرجل ، فأبى أبو جهل ، حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ أبو البُختري لحى بعيرٍ فضربه به فشَّجه ، ووطئه وطأً شديداً ، إنها معاناة شديدة جداً .

مرت سنوات المقاطعة الظالمة ، وهلك فيها من هلك من أطفال المسلمين ، قال ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو ممن ولد في الشعب : " حوصرنا في الشعب ثلاث سنين ، وقطعوا عنا الميرة ـ القمح ـ حتى إن الرجل ليخرج بالنفقة فما يبايع حتى يرجع ، حتى هلك من هلك ـ معه مال ولكن لا يوجد من يبيع بضاعة ، لا توجد بضاعة ـ وسلَّط الله سبحانه وتعالى الأرضة على الصحيفة الظالمة ، فأكلت ما في الصحيفة من عهدٍ وميثاق ـ أي حشرة أكلت هذه الصحيفة ـ وقام بعض رجالات قريش من المشركين فسعوا في نقض الصحيفة بعد أن رأوا شدة ما يعاني المحصورون في شعب أبي طالب ، وكان عليه الصلاة والسلام قد أخبر عمَّه أبو طالب بما فعلت الأرضة بالصحيفة ، وأخبر أبو طالب وجوه المشركين ، وطالبهم بإحضار الصحيفة ، فلما أحضروها ونظروا فيها وجدوها كما أخبر النبي الكريم ، وقد ساعد على نجاح هذه المساعي لإخراج المسلمين من هذه الحلقة القاسية ".

النبي الكريم أسوة حسنة لنا :

إن شاء الله أيها الأخوة في درسٍ قادم نتحدث عن عام الحُزن ، في هذا العام توفي أبو طالب وتوفيت السيدة خديجة .

هذا النبي الكريم لاقى ما لاقى ، ذاق وفاة الزوجة ، ذاق وفاة العم ، ذاق يُتم الأب، ذاق يُتم الأم ، ذاق الهجرة ، ذاق موت الولد ، ذاق فضيحة الزوجة ، ذاق المقاطعة ، ذاق تطليق ابنته ، لا يوجد شيء لم يذقه النبي اللهم صلِّ عليه ، من هنا قال الله عز وجل :

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ (21)﴾

( سورة الأحزاب )

نرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون النبي أسوة حسنة لنا ، أي اصبروا إذا كان هناك مشكلة ، معاناة ، ما دمت على الحق اصبر ولا تخش في الله لومة لائم .

والحمد لله رب العالمين

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
احلام
05-09-2020

من فضلكم اين الدروس الاولى