اقتباس
هذه كلها مواقف وأحداث استغلها النبي عليه الصلاة والسلام في تربية أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ونحن في هذه الآونة بأمس الحاجة إلى إعمال هذا المنهج النبوي الرشيد، خاصة إذا عرفنا أنه تمرُّ على القلب لحظات يكون أكثر تقبُّلاً للوعظ فيها من غيرها؛ لأن حال القلب التقلب، والداعية الصادق يحمل في حنايا قلبه الكثيرَ من تعاليم الإسلام؛ يريد أن يُبلغها غيره ليعمل بها .. لذلك أردتُ أن أُذكِّر إخواني بالمنهاج النبوي في التربية بالأحداث ..
التربية بالأحداث منهاج نبوي أعمله النبي الكريم من أول مبعثه، فمن ذلك أنه كان يمر على آل ياسر وهم يعذّبون فيقول لهم: "صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة". وكان الصحابة يؤذون ويعذّبون فيأتون إليه وهو بجوار الكعبة متوسدا بردة فيقولون له: ألا تدعوا الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فيقول لهم: لقد كان من قبلكم تحفر له حفرة إلى حقوه، فينشر بالمنشار من مفرق رأسه حتى يشق نصفين لا يرده ذلك عن دينه"، وكان يقول: "لقد كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه لا يرده ذلك عن دينه"، ويقول: "والله ليتمن الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
هذه كلها مواقف وأحداث استغلها النبي عليه الصلاة والسلام في تربية أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ونحن في هذه الآونة بأمس الحاجة إلى إعمال هذا المنهج النبوي الرشيد، خاصة إذا عرفنا أنه تمرُّ على القلب لحظات يكون أكثر تقبُّلاً للوعظ فيها من غيرها؛ لأن حال القلب التقلب، والداعية الصادق يحمل في حنايا قلبه الكثيرَ من تعاليم الإسلام؛ يريد أن يُبلغها غيره ليعمل بها، والداعية الناجح هو الذي يعلم أن التعليم الذي لا يُنسَى هو التعليم المقترن بموقف، أو بحدث؛ فهو يستغل كل مناسبة، ويقتنص كل فرصة، فيتحدث والقلب مفتوح، ويضرب والحديد ساخن.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "ولأمرٍ نزل القرآن منجمًا على ثلاث وعشرين سنة؛ فقد تجاوب مع الأحداث، وأصاب مواقع التوجيه إصابة رائعة"(1).
لذلك أردتُ أن أُذكِّر إخواني بالمنهاج النبوي في التربية بالأحداث؛ نظرا لأهميته وعظيم نفعه، فالمواقف التربوية في السيرة النبوية كثيرة جدا، لكني هنا أكتفي بما يأتي كمثال.
الموقف الأول:
أخرج البخاري في صحيحه عن حكيم بن حزام قال: "أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بسخاوةِ نفس بُورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى"(2).
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحرص الشديد على المال من حكيم بن حزام، استغل هذا الحدث بإعطائه نصيحة يربيه فيها، فكانت هذه النصيحة مؤثرة فيه غاية التأثير، وينظر أنه عليه الصلاة والسلام لم يعظه في المرة الأولى ولا في الثانية، بل أعطاه هذه النصيحة في المرة الثالثة لما وجد الحرص شديدًا، وفي نفس الوقت وجد القلب مفتوحًا.
الموقف الثاني: مع الصحابة وهو يعلمهم اليسر في الإسلام، لمَّا بال أعرابي في المسجد، فقال لهم: "دعوه، وأريقوا على بوله سجلاً من ماء؛ إنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسرين"(3).
فهذا حدث أزعج الصحابة -رضي الله عنهم- فقاموا لتغيير هذا المنكر العظيم، الذي حدث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن النبي عليه الصلاة والسلام استغل هذ الحدث في تربية الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - فأراد أن يعلمهم الأسلوب الأمثل في تغيير المنكرات، وهو ألا يغير المنكر بمنكر أكبر منه، فهذا الأعرابي بال في مساحة محددة من المسجد، فلما هموا بضربه همّ أن يقوم من مكانه فتقع النجاسة في مساحة أكبر، وفي ذلك إنزال الضرر به كذلك، وتنفير لقلبه فهو يجهل الحكم كونه أعرابياً؛ لذلك أوقفهم النبي - عليه الصلاة والسلام - عن ضربه وقال لهم: "دعوه، وأريقوا على بوله سجلاً من ماء؛ إنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسرين" وفي رواية: "لاتزرموه" أي لا تقطعوا عليه بوله. فكان هذا الحدث وسيلة لتعليم وتربية الصحابة على حسن الأسلوب في الدعوة وتغيير المنكر.
فإذا علمنا أن هذا منهج نبوي أصيل، فلا بد أن نتعرف على ملامح هذا المنهج، حتى يكون نافعا ويؤتي نتائجه وثماره.
من ملامح هذا المنهج:
1- دراسة مشكلات المجتمع:
فإن الداعيةَ والمربي الناجح هو الذي يدرس مشكلات مجتمعه دراسة عميقة، ويستخرج الحلول المناسبة، ويستنبط الدواء من موضع الداء، وهذا يحتاج إلى بصيرةٍ وحِذْق.
2- التواصل مع الناس:
يلاحظ المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان محتكا بالناس غير مبتعد عنهم ولا منزو؛ فالداعية والمربي هو الذي يسلك نفس هذا المسلك فيحتكَّ بالناس ويزورهم، ويقصد أماكن تجمعاتهم، لأن جلوسه معهم يوجد تقاربًا روحيًّا بينهم وبينه، فإذا رأى موقفا يمكن استغلاله في التربية استفاد منه، وإذا نزل بهم بلاء أو أُشكل على أحدهم أمرٌ كان الداعية أول مستشار، وهنا تُتاح له الفرصة بأن يضرب والحديد ساخن، وينصح والقلوب مفتوحة.
يقول الأستاذ البهي الخولي: "لا يصح للداعية أن يطاوع نفسه في العزلة؛ فإن الله يتجلَّى على العاملين في ميادينهم بأفضل مما يتجلى على العابدين في محاريبهم، وما أبعد الفرق بين مَن ينهض إلى الله يوم القيامة ومعه أمة، ومَن ينهض إلى الله يوم القيامة وليس معه أحد!"(4).
والخلطة مع الناس لغرض الدعوة مع الصبر على ما يلقاه الداعية من الأذى من المنهاج النبوي، وقد رغب فيه صلى الله عليه وسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"(5).
3- مراعاة نفوس المدعوين:
إن على الداعية مراعاة نفوس المدعوين؛ حتى لا يقع تعارض بين كلامه وبين ما في قلوبهم، بل يجب عليه أن يكون كلامه مطابقاً لواقع الحال، فمثلا: لا يتكلم عن حقوق الزوجين وسعادة الأزواج عند الطلاق، ولا يتحدث عن الموت في النكاح، وهكذا.
وكذلك على الداعية أن يتخول الناس بالكلام حتى لا يملوا ولا يسأموا، وهذا ما كان يحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام؛ مخافةَ السآمة علينا"(6).
قال الحافظ ابن حجر: "التخول: التربية والتعهد"(7).
يقول بشر بن المعتمر: "وينبغي أن تعرف أقدار المعاني، فتوازن بينها وبين أقدار السامعين، فتجعل لكل طبقةٍ كلامًا، ولكل حالٍ مقامًا، فإنَّ المنفعةَ مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقامٍ من المقال".
ويقول علي رضي الله عنه: "إنَّ للقلوب شهواتٍ وإقبالاً وإدبارًا، فأتوها من قِبل شهواتها، فإن القلب إذا كَرِهَ عمي".
فلكل مقامٍ مقالاً، وليس كل ما يعلم يُقال، ولا كل ما يقال يقال في كل حال، بل لا بد من مراعاة الأحوال.
4- استغلال المناسبات:
من أسباب نجاح الداعية: فطنته، بحيث يجعل المناسبات فرصةً للتحدث مع الناس حول أحكام الشريعة الإسلامية فيما يخص تلك المناسبات على وجه الخصوص أو غيرها، سواءٌ في خطبة جمعة، أو في محاضرة، أو حلقة علم، أو درس خاص، أو رحلة، أو سمر.
والمناسبات التي يجتمع فيها الناس كثيرة جدا، منها: (الجمعة، والعيدان، والاستسقاء، والكسوف والخسوف، والنكاح، ودعوات الغداء أو العشاء، والهجرة، وغير ذلك).
ومما ينبغي على الداعية: أن يجعل لكل مقام مقالا ولكل حادثة حديث، فإذا لم يراع الداعية هذه المعاني، وصار يتغافل عنها، فربما ضحك الناس عليه، فتصور أنك دخلت مسجدا يوم جمعة ووافق عيد الفطر، فقام الخطيب يتكلم عن فضائل الاعتكاف، وكيف يمكن أن يبلغ المصلون ليلة القدر! فكيف ستكون نظرتك لهذا الخطيب؟!
5- الاهتمام بواقع المسلمين:
جاء في الأثر: "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، ولا شك أن العالم الإسلامي، بل العالم بأسره يموج بأحداثٍ ساخنةٍ ومضطربة، ولخطورة الإعلام وسيطرته على التحليلات وتطويعها فيما يوافق فكر ومعتقد الساسة في الغالب، ولأن العقل المسلم يتأثر بهذه التحليلات المضلة، فالناس بحاجة ماسة إلى التحليل الصادق الذي يوافق الواقع، ولا يخرج عن سنن الله في الكون. وهذا هو دور الخطيب الذي يجب عليه أن يعطي الموضوع حقه من جمع المادة ودراستها الدراسة المتعمقة، فليكن الداعية عند حسن ظن جمهوره.
هذه تذكرة للدعاة إلى الله عز وجل؛ لعلها تكون حافزا لإحياء هذا المنهج النبوي، والله من وراء القصد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
-----------------
(1) خطب الشيخ محمد الغزالي، ج1، ص21.
(2) أخرجه البخاري.
(3) أخرجه البخاري.
(4) مجلة الرسالة، عدد 16، ص 50.
(5) أخرجه الترمذي.
(6) أخرجه البخاري، رقم 68.
(7) فتح الباري، طبعة دار المنار، ج1، ص 199.
المصدر: موقع عقيل المقطري
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم