عناصر الخطبة
1/ الإسلام دين شامل لمناحي الحياة 2/ موقف الناس من السياسة 3/ إبعاد الدين عن السياسة هدف العلمانيين 4/ السياسة الشرعية والسياسة الوضعيةاقتباس
إن السياسة هي جزء من صميم الدين، ولا يمكن أبداً تجزئتها عنه أو فصلها منه؛ لأن هذا هو عين ما يريده أعداء الله من اليهود والنصارى والمنافقين والعلمانيين، الذين يسعون إلى فصل الدين عن الدولة، وتغييب الحكم وإبعاده عن الشرع، ليحكموا الناس بأهوائهم وتشريعاتهم الطاغوتية الوضعية المحرفة، التي أمرنا بالكفر بها ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز، وختم الأنبياء والمرسلين بنبينا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير الجامع لمعنى العلم والقلم للهداية والسياسة، ومعنى القدرة والسيف للتعزير والنصرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له شهادة خالصة خلاص الذهب الإبريز، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: نريد اليوم أن نتحدث عن موضوع هام تعلق به كثير منا، وأفرط في الإدمان فيه بعضنا، وتجاهله آخرون ولم يأبهوا به ولم يلتفتوا إليه، حتى وقع بعض الناس في حيرة منه ولم يعلموا حكمه!.
إنه موضوع السياسة في الإسلام، ومدى علاقة الدين بالسياسة، فبعض الناس ربما أنكر هذا الأمر من أساسه ورأى أنه لا علاقة له بالدين، ولا دخل للدين فيه، وأن السياسة شيء والدين شيء آخر، بينما هناك آخرون غلو غلوًّا شديداً في هذا الأمر، وحصروا الدين كله في السياسة، وفسروا كثيراً من أمور الدين وتعاليمه تفسيراً سياسياً، وحكموا على أشياء في السياسة على أنها من الدين مع أن الدين منها براء.
إن حل هذا الإشكال لن يتم إلا بإرجاع حكمه إلى حكم الله ورسوله، ومعرفة الموقف الشرعي من السياسية، وماهي السياسة الشرعية المفروضة على الأمة؟ وما هي السياسة المرفوضة في الدين والشرع؟. يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [الشورى:10] ويقول -سبحانه وتعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء:59].
أيها المسلمون: يجب أن يعلم كل مسلم أن دين الإسلام شريعة كاملة وتعاليم شاملة، حوت كل شيء، وفصلت كل الأمور، وبينت كل المسائل، سواء مسائل الدين أو الدنيا، والأولى والأخرة، وليس من المعقول أبداً أن يبين الدين للناس آداب الخلاء، وأمور الطهارة والاستجمام، وأحكام الأطعمة وآداب الشرب، ثم لا يبين لهم أحكام السياسة، ومسائل الاقتصاد، وتفاصيل شؤون الناس الاجتماعية والأسرية.
أيها المسلمون: إن الناس بالنسبة لموقفهم من السياسة على ضربين: فريق اختلط مع السياسة وصاحبها، وصارت كالدم الذي يجري في عروقه لا يستطيع أن يفارقها أو تفارقه، وتراه في كل صباح ومساء وعند رأس كل ساعة متابع لتفاصيل الأخبار، مستمع لتحليلاتها وتشعباتها
واعتمد بعضهم خطاباً يقوم على لغة ومصطلحات سياسية بحتة، وأصبحوا مشغولين بها، وجعلوها غايتهم القصوى، وطوعوا مسائل الدين ومصطلحاته للسياسة، والمفروض هو أن تطوع السياسة للدين وليس أن يطوع الدين للسياسة، فالدين هو الأصل، والسياسة الشرعية هي جزء من الدين وليست هي كل الدين.
وهناك فريق آخر أنكر أن تكون للسياسة علاقة بالدين وهؤلاء فريقان: فريق من بني علمان وعبيد العبيد في الغرب، يقيسون دين الإسلام -الدين الحق- على النصرانية المحرفة التي كانت تحارب العلم وتقتل العلماء والمجتهدين، ولا تسمح لهم بأي اجتهاد غير اجتهادات الكهنة والرهبان وتحريفاتهم، لذلك قامت الثورات عندهم على الدين، وفصلوا الدين عن السياسة، ثم فصلوا الدين عن واقع الحياة بشكل عام.
وهناك فريق آخر يدعي هذا القول ويقول به، وهم فريق من المسلمين المساكين المغلوب على أمرهم، أو من المنهزمين نفسياً وفكرياً الذين يرون تسلُّط الفسدة والظالمين والمنحرفين عن الدين على مقاليد السلطة والنفوذ بشكل غير مسبوق، فساقهم هذا الواقع المرير إلى الزهد في تولي المناصب وتقلُّد الوظائف ومنافسة أهل الفساد والشر ومدافعتهم؛ نظراً لإيثار السلامة وطلب النقاء!.
ثم بعد ذلك أنكروا أن تكون السياسة من الدين، وجزموا جزماً قاطعاً أنه لا علاقة للدين بالسياسة، وهذا عطَّل كثيراً من المصالح وجلب كثيراً من المضار، وجعل الدين محصوراً في دائرة ضيقة لا تتجاوز حدود العبادات الظاهرة كالصلاة والصيام، وأما مسائل الحكم ومقاليد السلطة فهي بيد البرلمان أو الحاكم يحكم فيها بما يريد ويتصرف فيها كما يشاء.
إن هذا مفهوم خاطئ جداً، بل هو ضلال عظيم؛ لأن عدم إدخال الدين في السياسة معناه أن نلغي كل الآيات الشرعية التي تأمرنا بالتحاكم إلى منهج الله، ورد التحكيم إلى شرع الله، وتسييس الأمور بدين الله، ووفق منهجه القويم وأحكامه الشرعية. يقول الله -تبارك وتعالى-: (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ) [الأنعام:62]، ويقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:40]، ويقول: (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:70]، وقال: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة:49]. وقال: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51].
فهذه الآيات كلها تدعونا إلى تحكيم منهج الله وشرعه في جميع شؤوننا السياسية، وتشريعاتنا القضائية، وأمورنا السيادية وغير السيادية، بل إنها تدعونا أيضاً إلى الرضى بذلك، والقبول به، والتسليم له، وعدم الاعتراض على أي شيء من أحكامه الربانية وتشريعاته الإلهية، كما قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].
كيف ينكر بعض المسلمين علاقة الدين بالسياسة ونبينا -صلى الله عليه وسلم- قد حكم الناس وساسهم بسياسة الإسلام؟ ورباهم على العزة والإباء، وشرح لهم أسس ومعالم الإسلام، وسير الجيوش وقاد المعارك إلى كل الأنام، وأمره الله أمراً صريحاً بأن يسوسهم بمنهج الإسلام كما سمعتم في كل الآيات السابقة المذكورة آنفاً.
إن السياسة هي جزء من صميم الدين، ولا يمكن أبداً تجزئتها عنه أو فصلها منه؛ لأن هذا هو عين ما يريده أعداء الله من اليهود والنصارى والمنافقين والعلمانيين، الذين يسعون إلى فصل الدين عن الدولة، وتغييب الحكم وإبعاده عن الشرع؛ ليحكموا الناس بأهوائهم وتشريعاتهم الطاغوتية الوضعية المحرفة، التي أمرنا بالكفر بها والإيمان بشرع الله وحده. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء:60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا.
أَمَّا بَعْدُ:
أيها الناس: علمنا أن السياسة هي جزء من الدين، وركن ركين فيه، وأن الله أنزل دينه وأتى بشرعه ليسوس الناس به، ويحكمهم بما جاء فيه، وليس فقط لمجرد أن تبقى أحكام الدين أحكاماً نظرية لا تطبيق لها على الواقع، ولا وجود لها في حياة الناس وحكمهم. لكن يجب أن نعلم أمراً مهماً جداً في غاية الأهمية، وهو أن السياسة التي تعد من الدين وجزء منه هي السياسة التي جاء بها الله وذكرها في كتابه، وحكم الناسَ بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء قبله.
أما السياسة المحرفة، والقوانين الطاغوتية، والأحكام البشرية، والدساتير الوضعية، التي نحكم بها اليوم، وتفرض علينا بقوة الحديد والنار، وتلزم الدول الإسلامية بالحكم بها والتحاكم إليها فإنها ليست من الدين في شيء، بل هي من نواقض الدين، ونوع من أنواع المحاداة لله ولرسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) [المجادلة:5]. ويقول –سبحانه-: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) [التوبة:63].
روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ تَسُوسُهُمْ أَنْبِيَاؤُهُمْ، كُلَّمَا ذَهَبَ نَبِيٌّ خَلَفَ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَيْسَ كَائِنٌ فِيكُمْ -يَعْنِي نَبِيًّا-، قَالُوا: فَمَا يَكُونُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَكُونُ خُلَفَاءُ وَتَكْثُرَ، قَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَدُّوا الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَسَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِيِ عَلَيْهِمْ" [مسند أبي يعلى الموصلي (6211) وقال الشيخ الألباني: ( صحيح) كما في صحيح الجامع برقم: (4466)].
خلاصة الكلام -يا عباد الله- في هذه المسألة هو أن نعلم أن السياسة هي من صميم الدين وأسسه، ولكن المقصود بذلك هي السياسة الشرعية لا السياسة الوضعية. ومن اعتبر أن السياسة القائمة اليوم والتي يحكم بها الناس في معظم الدول الإسلامية من اعتقد أن هذه من السياسة الدينية فهو مخطئ، ومن أنكر أن تكون السياسة من أصلها من الدين وقطع السياسة عن الدين فهو أيضا مخطئ.
والقول الوسط هو الاعتقاد أن السياسة التي هي من صلب الدين ومن أسسه هي السياسة الشرعية المبنية على منهج الله، القائمة على أحكامه المستمدة من شرعه المتين، فهذه هي السياسة الشرعية التي حكم بها الأنبياء، وساسوا بها أقوامهم وأتباعهم، والتي ذكرها العلماء وألفوا فيها كتباً كثيرة تحمل عناوين عريضة عن السياسة الشرعية ومعالمها وخصائها وتفصيلاتها.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم بصرنا في ديننا وعلمنا ما جهلنا وارزقنا علماً وفهماً وحنكة وسياسة ودهاء. اللهم هيئ لنا من يحكمنا بدينك، ويسوسنا بشرعك، ولا تسلط علينا من يحكمنا بما يناقض دينك ويخالف شريعتك. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، وولي علينا خيارنا واصرف عنا ساسة الشر وحكام الضلال.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم