السوق (2) شروط البيع

ناصر بن محمد الأحمد

2012-06-25 - 1433/08/05
التصنيفات: المعاملات
عناصر الخطبة
1/ حال الناس اليوم في البيع والشراء 2/ شروط البيع وبيان كل شرط وذكر أمثله عليه

اقتباس

كثير من أخلاق أهل الإيمان قد تلاشت عند كثيرين في أبواب البيع والشراء، فأصبحتَ تجد المسلمين في بيعهم وشرائهم على أسوأ حالة؛ كثير من الناس اليوم تذهب بركة بيوعهم وشرائهم لأنهم أناس جشعون، إذا ذكر القرش والريال طار من ذهنه ذكر الجنة والنار، أصبحت لا تشعر بالصدق عند بيعك وشرائك، اسمع -أخي الحبيب- إلى هذه القصة والتي أنقلها لك من صحيح البخاري، لترى العجب في الصدق والأمانة والإخلاص في تبايع أولئك، وماذا كانت نتائج...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

بدأنا حديثنا في الجمعة الماضية عن السوق، وقلنا بأنه حديث طويل، فكان حديثًا عن جملة نصائح وآداب، أما اليوم فالكلام سينصب على شروط البيع.

لكن قبل ذلك ينبغي أن يُعلم بأن كثيرًا من أخلاق أهل الإيمان قد تلاشت عند كثيرين في أبواب البيع والشراء، فأصبحتَ تجد المسلمين في بيعهم وشرائهم على أسوأ حالة؛ كثير من الناس اليوم تذهب بركة بيوعهم وشرائهم لأنهم أناس جشعون، إذا ذكر القرش والريال طار من ذهنه ذكر الجنة والنار، أصبحت لا تشعر بالصدق عند بيعك وشرائك، اسمع -أخي الحبيب- إلى هذه القصة والتي أنقلها لك من صحيح البخاري، لترى العجب في الصدق والأمانة والإخلاص في تبايع أولئك، وماذا كانت نتائج مثل ذلك البيع.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض، إنما بعتك الأرض: وما فيها -بمعنى أنها لك-، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه، ألكما ولدٌ؟! قال أحدهما: لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا".

تأمل -أخي الكريم- إلى حسن المعاملة، والأمانة من الطرفين، ماذا كانت النتيجة؟! لقد قرب ذلك البيع والشراء بينهما حتى أصبحا متصاهرين، وفي المقابل تأمل في العلاقة بين الباعة والمشترين في هذا العصر، منذ أول لحظة يطأ المشتري بقدمه المحل، والبائع يفكر كيف يضحك عليه، والمشتري يضع في حسابه أن هذا عدو له يريد نهب ماله، وعلى إثرها تكون طريقة المساومة بينهما، ثم إذا قُدِّر بينهما تبايع تنتهي العلاقة بعد أول خطوة يضعها المشتري خارج المحل.

أما فكرت -يا أخي- في أبواب الحياة الدنيا الأخرى لا يوجد إلا بيع وشراء فقط في المحلات، لو صدقته -أيها البائع- ثم صدقته أيضًا أنت -أيها المشتري- بإخلاص وأمانة، وكانت العلاقة حسنة بينكما، لربما تكونت صداقة، ثم مودة، ولربما تكونت مصاهرة، مثل ما سمعتم من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. لماذا نفهم البيع والشراء فقط قبض ثمن ودفع سلعة!!

أسأل الله -جل وتعالى- أن يصلح أحوالنا.

أيها المسلمون: ومن كبريات مشاكل أسواقنا قلة فقه الناس بأحكام البيوع، ورحم الله ذلك الزمن الذي كان لا يبيع أحد في السوق إلاّ وهو متأهل في مسائل البيوع، عارف لأحكامه، وقد كان في بعض أمصار المسلمين يمر الفقهاء على أصحاب الدكاكين، ويسألونهم عن عويص المسائل، والباعة يجيبون، والذي لا يجيب يعزل من السوق، ولا يُسمح له بالبيع، فماذا عساك أن تقول عن باعة هذا الزمان الذي لا أظن أنه سيجيب لو سألته عن أبسط مسائل الطهارة، والله المستعان.

وأما عن شروط البيع، فأرعني سمعك -بارك الله فيك- لأنك لا تخلو إما أن تكون بائعًا أو مشتريًا.

الشرط الأول: التراضي: فلا يصح البيع من مكره بلا حق، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما البيع عن تراضٍ"، أخرجه ابن ماجه. فالرضا شرط من شروط البيع وتمامه، فلا يجوز غصب إنسان على بيع أرضه أو مزرعته، ولو حصل هذا فالبيع غير صحيح.

ومثل ذلك لو علمت أن هذا البائع باع عليك حياءً وخجلاً، أُحرج منك، فباع عليك، فلا يجوز لك أن تشتري؛ لأنه غير راضٍ.

الشرط الثاني: أن يكون كل من البائع والمشتري جائزي التصرف مكلفين، فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن وليه، قال الله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)، فإذا أذنا لولي سواء أكان أبًا أم زوجًا، صح البيع، وكل هذا فيما فيه قيمة مرتفعة، أما الأشياء اليسيرة، التي جرت العادة إعطاء الصبي إياه فلا بأس، كأن ترسل ولدك الصغير ليشتري خبزًا ونحو ذلك مما جرت به العادة، ولهذا لو ذهب الصبي الصغير بغير علم والديه، واشترى أشياء فلك إرجاعها؛ لأن البيع لم يصح أصلاً.

الشرط الثالث: أن يكون المبيع طاهرًا مباح النفع، فيجب أن يكون المبيع مباح المنفعة، وما حرمت منفعته حرم بيعه، كآلات اللهو والطرب، فإنه لا يجوز بيعها؛ لأن منفعتها محرمة، ومثله أشرطة الغناء المسموعة، وأشرطة الأفلام المرئية، فإن كل هذا حرام ولا يجوز بيعه، فليتق الله أولئك الذين لا عمل لهم إلا بيع هذه المحرمات، أكلهم وشربهم من هذا البيع الحرام، ألا فليعلموا أن كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به.

وما لا نفع فيه أيضًا مثل الحشرات، فإنه لا يصح بيعها، فبذل المال فيها إضاعة، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، ويدخل في هذا الشرط أيضًا، الكلب، فإنه لا يجوز بيعه ولا شراءه؛ لأنه نجس، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، ومن قتل كلبًا فإنه لا يضمنه لصاحبه، فثمنه هدر، وقد أباح النبي -صلى الله عليه وسلم- اقتناءه لثلاثة أمور فقط: الحرث والماشية والصيد. وعند البخاري من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اقتنى كلبًا -إلا كلب صيد أو ماشية- فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان". وأنا أسأل: هل يجمع الشخص في اليوم قيراطين؟!

وأيضًا مما لا يصح بيعه الميتة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حرم بيع الميتة". فأورد الصحابة -رضي الله عنهم- إيرادًا فقالوا: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة؟! فإنه تطلى بها السفن أو تدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا، هو حرام". أي مع انتفاع الناس بها فهي ميتة يحرم بيعها. ويستثنى من الميتة: السمك والجراد، فيجوز بيعهما ولو ميتين.

الشرط الرابع: أن يكون البائع مالكًا للمبيع: يجب أن يكون البائع مالكًا لبضاعته، وفي قبضته وحوزته، وفي مستودعه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك". رواه الإمام أحمد. فنهاه أن يبيع ما ليس عنده، ومما يدخل في هذا الشرط أنه لا يصح بيع ما ينبت في الأرض من كلأ وعشب وشوك، ومثله مياه العيون والآبار، لا يجوز بيعها؛ لأنها ليست ملكًا لأحد، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار".

فهذه لم تخرج بقدرة الإنسان، بل بقدرة الله -عز وجل-. أما إذا أخرجها الإنسان وحازها وملكها وصارت في حوزته فله بيعها.

ومما يدخل في هذا الشرط أيضًا -وهو شرط ملك المبيع- أراضي المسلمين، فإنها ليست ملكًا لأحدٍ بعينه، فلا يجوز بيعها، ولهذا لو أجمع المسلمون كلهم، من أولهم إلى آخرهم، عربهم وعجمهم، واتفقوا على أن يبيعوا أرض فلسطين، على اليهود، لا يصح هذا البيع، ولا يجوز؛ لأنهم لم يمتلكوا حتى يبيعوا. وبهذا يُعلم العبارة الباطلة التي طالما رددها الجهلة "الأرض مقابل السلام"، بأي حق؟! وبإذن من تتصرف وتعطي الأرض مقابل السلام؟! زعموا.

الشرط الخامس: أن يكون مقدورًا على تسليمه؛ لأن ما لا يقدر على تسليمه، شبيه المعدوم، فلا يصح بيعه، ومثّل الفقهاء -رحمهم الله- لهذا الشرط، فقالوا: كبيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، فكل هذا غير مقدور على تسليمه، فلا يصح بيعه، والبيع في مثل هذه الحالة عدّه الفقهاء من الغرر، وقد "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر". أخرجه مسلم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

أقول هذا القول...

 

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

الشرط السادس من شروط صحة البيع: أن يكون المبيع معلومًا عند البائع والمشتري رؤية أو صفة، فإن لم يكن معلومًا صار جهالة، وجهالة المبيع غرر، والغرر منهي عنه، فالمشتري لابد أن يرى المبيع، أو يصفه له البائع وصفًا تكون بمنزلة الرؤية، كأن يقول له، عندي سيارة لونها كذا، وصفتها كذا، وفيها كذا وكذا، حتى يتخيل المشتري وكأنه ينظر إليها، ويكون الواصف أمينًا، عندها يجوز البيع ولو لم يرها؛ لأن الوصف هنا يتنزل منزلة الرؤية.

ويصح بيع العيِّنة، كأن ترى عيِّنة من سلعة، ويكون الباقي مثلها، ولا يشترط أن تراها كلها، خصوصًا فيما ينضبط كالمصنوعات الحديثة.

ويدخل في هذا الشرط أن بيع الأعمى وشراءه صحيح، وإن كان لا يرى فلديه من الحواس ما يغنيه عن البصر.

ومما يدخل في هذا الشرط أنه يجوز بيع ما مأكوله في جوفه، وإن كان لا يُرى، كالرمان والبطيخ، والبيض، فيصح بيع ما مأكوله في جوفه؛ لأنه جرت العادة بذلك، وتعامل الناس به من غير نكير، ولأن في فتحه إفسادًا له.

الشرط السابع: أن يكون الثمن معلومًا؛ فلا يجوز البيع بدون تحديد الثمن، وبسببه تحصل الإشكالات بين المسلمين. إن تحديد الثمن مهم عند البيع والشراء، ولهذا عدَّه الفقهاء شرطًا حتى يقطعوا الخصومة بين المتبايعين.

أيها الأحبة: وبعد خطبة الجمعة الماضية والتي تعرضنا فيها لشيء من منكرات الأسواق وما يحصل فيها، وحذرنا أولياء الأمور من بعض الباعة، وذكرنا شيئًا من أوصافهم، صار -ولله الحمد- نوع تفاعل مع الموضوع الذي طرح، فجاءتني ورقة من بعض أصحاب المحلات القريبة الغيورين، وما يجري حولهم، وهم بلا شك أدرى بأحوال السوق لأنهم يعيشون فيها ويقضون جل أوقاتهم فيها، أسأل الله أن يعينهم.

وأحذر مرة أخرى أولياء الأمور أن ينتبهوا لنسائهم ومحارمهم، فالأسواق فيها فساد عظيم، وعندما تكلمت في الجمعة الماضية عن منكرات الأسواق، لم أكن أتخيل أن الخرق متسع إلى هذا الحد. نسأل الله السلامة والعافية.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة...
 

 

 

 

المرفقات

(شروط البيع)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات