اقتباس
كان الشيخ الأزهري الدكتور محمد عبد الله دراز يقول "إذا كان الظالمون بعضهم أولياء بعض، فلم لا يكون المظلومون بعضهم أولياء بعض؟". وهي مقولة نحتاج إلى التأمل فيها مجددا في ظل الربيع العربي الذي قسَّم عالمنا إلى فسطاطين لا ثالث لهما: فسطاط المظلومين وذوي الضمائر الحية، مقابل فسطاط الظالمين وذوي القلوب الراكدة الكاسدة.
الطائفية ..فتنة الحاضر والمستقبل
السنة والشيعة.. دروس من صلاح الدين الأيوبي
العرب والصراع الطائفي
الاحتلال والمسألة الطائفية في العراق
مأساة جسر الأئمة والمشهد العراقي
الطائفية عرَض من أعراض الابتعاد عن دين الفطرة، وثمرة من ثمار التعلُّق بالمواريث التاريخية التي نبتتْ على ضفاف الوحي، فهي تسلبُ الناسَ ما لديهم من فضائل فطرية، وتمنحُهم جدلا وسوء ظن وتكفيرا وتنفيرا.
وفي الطائفيين رذيلة لعن القرآن الكريم بسببها (الذين كفروا من بني إسرائيل) وهي أنهم (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه). فجوهر الطائفية هو الانتصار للطائفة والتعصب لها في الحق والباطل طبقا للمنطق الجاهلي الذي عبر عنه أحد الشعراء بقوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** للنائبات على ما قال برهانا
ورغم وجود خلافات في تفاصيل العقائد ورسوم الشعائر بين السنة والشيعة، فإن أشد مظاهر الخلاف بينهما إثارة للنزاع واستفزازا للمشاعر ليست المسائل الاعتقادية والعبادية، بل قضايا السياسة والذاكرة التاريخية.
فمصدر شرعية السلطة والصورة الذهنية المتناقضة حول تاريخ صدر الإسلام هما أشد الأمور حساسية في هذا المضمار.
والمتتبع ليوميات هذا الصراع على مدى القرون يدرك أن هاتين المسألتين كانتا في القلب منه على الدوام.
وقد لاحظ الكاتب السوري إبراهيم محمود أن الصراع السني الشيعي نمَّى نوعا من "عقلية التخاصم" و"حُمَّى التاريخ" في الثقافة العربية، وحوَّل التاريخ الإسلامي إلى ما يشبه أبا لأبناء كُثرٍ من أمهات ضرائر. والهمُّ الأهم لكل من الأبناء هو إثبات بُنُوَّته للأب الجامع، والطعن في نسب إخوته غير الأشقاء، وهكذا أصبح التاريخ هو "جامع الجميع ومفرقهم جميعا". (إبراهيم محمود، الفتنة المقدسة، ص 10-11).
علما بأن التقاتل على الماضي هو نوع من التزاحم على أبواب المستقبل، لكن بطريقة الرعاع والغوغاء، لأن المذاهب الدينية تتحول في السياق الطائفي إلى عصبية سياسية واجتماعية، متجردة من أي مغزى أخلاقي أو رسالة إنسانية.
والدارس لتاريخ العلاقات السنية الإمامية منذ ظهور الإسلام إلى اليوم يجد أنها لم تكن علاقات قطيعة في أغلب مراحل التاريخ. بل ظل التواصل الاجتماعي والسياسي والفكري غالبا رغم الخلافات التي تتعمق بين المدرستين مع الزمن. وأهم سمات التواصل: الإحساس بالاشتراك في الدين والتاريخ والهوية والانتماء والمصير، والوقوف صفا واحدا أمام العدو المشترك.
وقد بينتُ في كتابي عن "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية" كيف وحَّدت الحملات الفرنجية السنة والشيعة الإمامية في بلاد الشام.
أما القطيعة فهي تنكرٌ لكل هذه المشتركات، ورفع للأسوار عاليةً بين الطائفتين، مع تغليب سوء الظن والتخوين، وشيوع الصور النمطية السلبية، وانعدام الثقة، حتى يصبح العدو البعيد أقرب وأرحم من الجار القريب.
لقد كان هنالك تمايز سياسي -لا اعتقادي- بين السنة والشيعة في العصر الأموي، ثم وُلدت الدولة العباسية في بدء أمرها مزيجا من التشيع السياسي والتسنن الاعتقادي، وتداخلت المدرستان تداخلا سياسيا وفكريا كثيفا طيلة العصر العباسي الأول.
فقد كان لدى بعض الخلفاء العباسيين الأوائل ميول شيعية صريحة رغم أنهم سنة من الناحية النظرية، كما كان من بين وزراء الخلفاء العباسيين العديد من الشيعة، منهم أبو سلمة الخلال وزير السفاح، ومحمد بن الأشعث وعلي بن يقطين وزيرا الرشيد، ويعقوب بن داود وزير المهدي، وجعفر بن محمود الإسكافي وزير المعتز والمهتدي، والخطاط الأشهر محمد بن مقلة وزير المقتدر، والفضل بن الفرات وزير الراضي.
وأظهر الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق ميولا شيعية في سياستهم، حتى إن المأمون فكر في تولية الإمام علي الرضا (وهو الإمام الثامن عند الإمامية) ولاية العهد من بعده.
وقد ساعد على التواصل والتداخل بين المدرستين التقارب العقدي والفقهي بين السنة والشيعة الإمامية. وإنما كانت العلاقة الاعتقادية والسياسية سيئة بين السنة والشيعة الإسماعيلية خلال العصر العباسي، خصوصا في العهد الفاطمي الأول بأفريقيا (تونس).
لكن المرحلة المصرية من الدولة الفاطمية شهدت تداخلا سياسيا كبيرا، وتسامحا دينيا نسبيا، رغم أن تنافس العباسيين والفاطميين على الهيمنة على الشام والعراق ومصر ظل يلقي بظلاله على العلاقات الطائفية.
وقد استخدم الفاطميون وزيرين سنيين على الأقل (رضوان بن ولَّخْشي والعادل بن السلار) ووزيرين إماميَّين على الأقل (طلائع بن رزيك وأبا علي البطائحي) ووزيرا مسيحيا واحدا على الأقل (بهرام الأرمني).
ونجد هذا التداخل والتواصل بين السنة والشيعة في الحياة الفكرية والفقهية. فمن علماء وأمراء السنة من ظهرت ترجمته في كتب الشيعة باعتباره شيعيا، ومن علماء وأمراء الشيعة من تمت ترجمته في كتب السنة باعتباره سنيا.
والقارئ لموسوعة السيد محسن الأمين عن (أعيان الشيعة) يجد عشرات من هذا القبيل. وقد نقل الطرفان الحديث النبوي عن رواة الطرف الآخر دون حرج.
ولم ير علماء الحديث السنة الأقدمون في التشيع مانعا من الثقة في الراوي والرواية عنه. فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من علماء السنة الذين جمعوا الأحاديث عن المئات من الرواة الشيعة.
وحتى حين حرص المؤلفون الأقدمون على التصنيف الطائفي فإن أحكاما نسبية -لا حدية- ظهرت لديهم في أحيان كثيرة، من مثل قول الذهبي في الراوي أبان بن تغلب "شيعي جَلْدٌ، لكنه صدوق، فلنا صِدْقه وعليه بدعته" (الذهبي، ميزان الاعتدال 1/5). وقد جمع الدكتور فاروق حمادة نماذج كثيرة من ذلك في دراسته عن (التواصل بين المذاهب الإسلامية: تأصيله وتطبيقه عند المحدِّثين).
أما التواصل الاجتماعي فقد ساد تاريخيا في صورة عيش مشترك في نفس المدن والأحياء، وتزاوج بين رجال ونساء الطائفتين.
ولم يظهر التمايز الاجتماعي بين الطائفتين في العراق -مثلا- إلا بعد الحرب الأهلية التي صاحبت الاحتلال الأميركي عام 2003، حيث بدأت تخلو مدن ومناطق عراقية بكاملها من إحدى الطائفتين لصالح الأخرى، وتراجع الزواج المختلط بين الطائفتين بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق، كما بينت ذلك دراستان ميدانيتان للجنة الأزمات الدولية ومعهد بروكينز عام 2006.
لقد وجدتُ بالاستقراء التاريخي أن التواصل العلمي والاجتماعي والسياسي بين السنة والشيعة ظل سائدا في جُلِّ مراحل التاريخ الإسلامي. وإنما سادت القطيعة بين الطائفتين في أربعة سياقات محدودة هي:
- الصراع بين المالكية والإسماعيلية خلال الحكم الفاطمي لتونس الذي دام بضعة عقود.
- المناوشات الحنبلية الشيعية في بغداد تحت الحكم البويهي (1045-1055).
- صراع النفوذ بين العثمانيين والصفويين ابتداء من معركة جاليدران عام 1514.
- الصراع على ضفتي الخليج منذ الثورة الإيرانية عام 1979، وهو الذي نعيشه اليوم.
ويدل الاستقراء على أن الأسباب وراء هذه القطيعة بين السنة والشيعة كانت سياسية في جُلِّها، وإن كان التعبير عنها يرد بلغة دينية ومذهبية غالبا. ولا تسود الفتن الطائفية إلا على خفوتٍ من صوت العقل، وضعْف في الإرادة الحكيمة، وسيطرة لغرائز الهيمنة والفناء والإفناء.
ومن خصائص المزاج الطائفي: الغلو في رد الغلو، والخطأ في إصلاح الخطأ، لأن منطق العوام هو الذي يسود في أوقات الفتنة على حساب منطق العلماء والحكماء. ولا يتوقف الوعاظ الشعبيون المتعصبون عند حدود التحريض باللسان، بل يتحركون أحيانا في عصابات تتجاوز السلطة، وتفرض رؤيتها الدينية المنغلقة بقوة الساعد والسلاح.
وكثيرا ما يأتي ذلك متزامنا مع ضعف السلطة ضعفا يَحْرمها من ضبط الميزان الاجتماعي. وحينما يسود المنطق العاميُّ الأهوج يختل ميزان العدل، وتُهدَر إنسانية الإنسان على مذبح الانفعال الاجتماعي غير المتقيِّد بشرع ولا عقل.
وغالبا ما يكون انحياز السلطة السياسية إلى أحد تأويلات العقيدة على حساب تأويلات أخرى من أهم أسباب الفتن الطائفية، بينما تقتضي الحكمة السياسية ألا تكون السلطة طرفا في الصراع الفكري، بل تضمن للجميع حق التعبير عن ما يعتقدونه حقا دون إعنات.
إن الفتنة الطائفية ليست حتمية كونية، بل هي نتيجة من نتائج عجزنا الفكري والسياسي عن بناء فضاء مفتوح من التعددية المذهبية والحرية الدينية التي أرسى الإسلام دعائمها، وتوصلت إليها أغلب المجتمعات البشرية.
وأول ما نحتاجه في هذا المضمار اليوم هو التوقف عن الاستنزاف الأحمق للذات، والقبول بشرعية الهويتين السنية والشيعية، وحقهما في الوجود دون إكراه أو إجحاف، طبقا للقاعدة القرآنية "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة، الآية 256).
ولعل من الحكمة في هذا السياق أن يتولى أهل السنة نقد الجوانب السلبية في التراث السني، ويتولى الشيعة نقد الجوانب السلبية في التراث الشيعي، تجنبا للسقوط في الجدل العقيم والمهاترات الطائفية التي يثيرها نقد بعضهم لبعض.
فلسنا بحاجة إلى من يبرهن على صحة مذهب وبطلان آخر بالتعصب والشدة والجفاء، فليس الحق في حاجة إلى عصبية وتعصب. وإنما نحتاج اليوم إلى من ينقض المنطق الطائفي ذاته، ويكشف زيفه وتهافته، وبُعْده عن معاني الشرع وروح الإنسانية، ومن يدرك معنى الحديث النبوي "وأما ترك السنَّة فالخروج من الجماعة" (رواه أحمد وصححه الحاكم والذهبي وشاكر).
كان الشيخ الأزهري الدكتور محمد عبد الله دراز يقول "إذا كان الظالمون بعضهم أولياء بعض، فلم لا يكون المظلومون بعضهم أولياء بعض؟". وهي مقولة نحتاج إلى التأمل فيها مجددا في ظل الربيع العربي الذي قسَّم عالمنا إلى فسطاطين لا ثالث لهما: فسطاط المظلومين وذوي الضمائر الحية، مقابل فسطاط الظالمين وذوي القلوب الراكدة الكاسدة.
فالخلاف الديني لا يتحول فتنة سياسية وصراعا عسكريا إلا إذا لابَسَه ظلمٌ. ومن أسوأ ثمار التعصب الطائفي أنه يحوِّل الصراع بين ظالم ومظلوم إلى صراع بين ظالميْن.
ويوحي تاريخ كل الثورات إلى أنها تقوم على فلسفة التأجيل والترجيح: تأجيل المطالب الجزئية لصالح الغايات الكلية، وترجيح الصالح العام على المنفعة الخاصة. ولمنع المجتمع من الوصول إلى بناء هذه الكتلة الحرجة الضامنة لنجاح الثورات، يسعى الاستبداد دائما إلى تسويق الخوف بين مكونات المجتمع، بادعاء التماهي مع إحدى الكتل الاجتماعية والسعي إلى إقناعها بارتباط مصلحتها -وحتى وجودها- بوجوده. وهذا ما نراه اليوم في بعض الدول العربية التي تشهد ثورات شعبية.
إن أسوأ ما في الفتنة الطائفية الحالية بين السنة والشيعة هو ما قادت إليه من تقطيع الأرحام الدينية والقومية والوطنية والإنسانية، وفقدان الإحساس بالانتماء المشترك والمصير المشترك بين أبناء الأمة الواحدة.
ولن يكون تجاوز المحنة الطائفية الحالية بالتنكر للخلاف النظري بين الطائفتين، أو محاولة القفز عليه بمجاملات باردة، ودعوات نظرية للتقريب بين المذاهب، وإنما يكون بتحييد الخلاف عمليا، وحصره في الجدل العلمي والحِجاج النظري، دون إنهاك للمجتمع أو تمزيق للحمته، مع احتفاظ كل طائفة بحقها في التشبث بما تراه حقا دون إكراه أو إجحاف، واحترام حقوق الناس في العقيدة والعبادة بغضِّ النظر عن خلفيتهم الطائفية والمذهبية.
ليس الحل في الرد على الطائفية بطائفية، فثقافة الثأر الأبدي قد تعين على الانتقام أو على تغيير ميزان القوى الظرفي ولكنها لا تبني مجتمعات العدل والحرية. وإنما تنهزم الطائفية بنقْض المنطق الطائفي البغيض من أساسه، وانتصار الفرد الحر على الجماعة المغلقة، لا بانتصار طائفة على أخرى.
أما الدواء الشافي الذي لا دواء سواه للطائفية فهو العدل والحرية للجميع، دون ازدواجية ولا مثنوية.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم