اقتباس
فاتخاذ المنبر لخطبة الجمعة مستحب، والأفضل كونه ثلاث درجات كما كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا حرج في صنع منبر له أكثر من ثلاث درجات إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لأن المقصود من المنبر هو الظهور أمام الناس لمخاطبتهم وتعليمهم، ومشاهدة الخطيب والسماع والـتأثر...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب في أصحابه وهو قائم على قدميه، ويستند على جذع نخل، فلما كثر الناس بدا له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ منبرًا يقف ويجلس عليه أثناء خطبه.
وأما في خطب العيد وغيرها فتختلف من موقف لآخر، والأمر واسع، وإنما السنة أن يقف الإمام على مكان مرتفع من غير تعيين كما ذكر السلف، قال الشافعي-رحمه الله- في الأم: "فبهذا قلنا لا بأس أن يخطب الامام على شيء مرتفع من الارض وغيرها"([1]).
وكان منبره صلى الله عليه وسلم صغيرًا، قصيرًا، ومتواضعًا، صُنع من خشب لا يتعدى ثلاثَ درجات، وكان يقف على الدرجة التي تلي المستراح([2])، وكان بين موضع منبره وبين الحائط قدر ممر شاة؛ فلم يكن منبره صلى الله عليه وسلم من جهة صفته وموضعه ليقطع صفًا أو يبعد بين المصلين أو يؤذيهم، تتحقق معه سنة بروز الإمام في الصلاة والخطبة؛ لأن رؤية المصلين له أشد تأثيرًا على النفس وأبلغ لموعظته وتوجيهه، كما يتحقق معه أيضًا سنة الاستقبال.
والأدلة على ذلك كثيرة، فمن ذلك ما جاء من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: " أن النبي -صلى الله عليه و سلم-"كان يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد فيخطب الناس، فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئًا تقعد عليه وكأنك قائم؟ فصنع له منبرًا له درجتان، ويقعد على الثالثة"([3]).
وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "وكان منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- قصيرًا، إنما هو ثلاث درجات"([4])، وحديث جرير -رضي الله عنه- قال: "فصلى الظهر ثم صعد منبرًا صغيرًا"([5]).
وحديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-: "كان بين منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين الحائط كقدر ممر الشاة"([6]).
وعن أبى حازم عن أبيه" أن نفرًا جاءوا إلى سهل بن سعد، قد تماروا في المنبر من أي عود هو؟ فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو، ومن عمله، ورأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أول يوم جلس عليه، قال فقلت له: يا أبا عباس فحدثنا، قال: أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى امرأة- قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ- "انظري غلامك النجار، يعمل لي أعوادًا أكلم الناس عليها". فعمل هذه الثلاث درجات، ثم أمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعت هذا الموضع فهي من طرفاء الغابة([7])، ولقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه، وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقرى"([8]) حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد، حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس، فقال: "يا أيها الناس إني صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي"([9]).
ولم يقتصر النبي -صلَّى الله عليه وسلم- على الوعظ عليه يوم الجمعة فحسب، بل كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلم- يستعمل منبرَه وسيلة للتعليم والإرشاد وبيان الأحكام ونصح الناس في سائر الأيام حال اقتضاء الحاجة على ما هو ثابت في السنن، وبقي منبره صلى الله عليه وسلم على هذه الحال حتى بعد عهد الخلفاء الراشدين.
قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله-: ولم يزل المنبر على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، إلى أن قال: وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه. انتهى([10]).
فالمستحب عند أهل العلم اتخاذ المنبر لخطبة الجمعة، لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب واستماع كلامه.
وقد ساق أهل العلم غير ما ذكرنا من أدلة السنة الإجماع على ذلك:
فقد نقل الإجماع: الإمام النووي حيث قال رحمه الله: "أجمع العلماء على أنه يستحب كونُ الخطبة على منبر للأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها؛ ولأنه أَبلغ في الإعلام؛ ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان أبلغ في وعظهم"([11]).
وقال البهوتي -رحمه الله-: "وسن أن يخطب على منبر لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به فعمل له من أثل الغابة فكان يرتقي عليه وكان ثلاث درج وسمي منبرًا لارتفاعه والنبر الارتفاع واتخاذه سنة مجمع عليها قاله في شرح مسلم"([12])، وقال المرداويُّ -رحمه الله-: "ومن سننها: أن يخطبَ على مِنبَر، أو موضع عالٍ، بلا نِزاع "([13]).
ومتى احتيج إلى منبر مغاير في شكله ونمطه وعلو درجاته جاز ذلك تحقيقًا للمصلحة، وقد زاد مروان في خلافة معاوية -رضي الله عنه- على منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ست درجات من أسفله، وقال: "إنَّما زدت فيه حين كثر الناس"([14]).
قال ابن مفلح: "تسن خطبته على منبر أو محل عال ويكون عن يمين مستقبلي القبلة كذا كان منبره عليه السلام وسمي منبرًا لارتفاعه من النبر وهو الارتفاع وذكر في شرح مسلم أن اتخاذ المنبر سنة مجمع عليها وكان منبره عليه الصلاة السلام ثلاث درجات يقف على الثالثة التي تلي مكان الاستراحة ثم وقف أبو بكر على الثانية ثم عمر على الأولى تأدبا ثم وقف عثمان مكان أبي بكر ثم علي موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم زمن معاوية قلعه مروان وزاد فيه ست درج فكان الخلفاء يرتقون ستا يقفون مكان عمر"([15])
وفي شرح البهجة في الفقه الشافعي: " ويندب أن يقف الخطيب بالدرجة التي تلي المستراح قال الماوردي: فإن طال المنبر، فبالسابعة قوله: (فبالسابعة) كأنه لفعل سيدنا معاوية -رضي الله عنه- له؛ لأن (منبره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درجات غير المستراح) فلما خطب عليه أبو بكر نزل درجة، ثم عمر درجة، ثم علي درجة فلما تولى معاوية لم يجد درجة ينزل إليها فزاد ست درجات من أسفله"([16]).
فاتخاذ المنبر لخطبة الجمعة مستحب، والأفضل كونه ثلاث درجات كما كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا حرج في صنع منبر له أكثر من ثلاث درجات إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لأن المقصود من المنبر هو الظهور أمام الناس لمخاطبتهم وتعليمهم، ومشاهدة الخطيب والسماع والـتأثر بما يقول، ما لم يقطع المنبر صفًا أو أن يكون فيه تشبه بعادات أهل الكتاب الدينية، كالسقف المرفوعة أو القباب الشامخة، أو أن يكون للمنبر نافذة يطل منها الخطيب على الجميع، أو ما يكون للمنبر من بدع الزخرفة والنقوش، وفرش الدرج، والستائر والأعلام إلى ذلك من أنواع المحدثات([17]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(([1] الأم (1/229).
([2]) المستراح: هو أعلى المنبر الذي يقعد عليه الخطيبُ ليستريح قبل الخُطبتين حالَ الأذان وبينهما.
(([3] أخرجه الدارمي في سننه (1/32) رقم: (٤1)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٥/ 173) رقم: (٢١٧٤).
(([4] أخرجه أحمد في مسنده (4/242) رقم: (٢٤١٩)، وقال أحمد شاكر : إسناده جيد.
(([5] صحيح مسلم (3/87) رقم: (2400).
(([6] سنن أبي داود (1/421) رقم: (١٠٨4)، وقال الألباني صحيح.
( ([7]طرفاء الغابة: هو موضع قريب من المدينة من عواليها. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/751).
([8]) القهقرى: هو الرجوع والمشي إلى خلف من غير أن يعيد وجهه إلى جهة مشيه. النهاية في غريب الحديث والأثر (4/215).
(([9] صحيح مسلم (2/74) رقم: (1244).
([10]) فتح الباري (2/399، 400).
([11]) المجموع (4/527).
([12]) شرح منتهى الإرادات المسمى دقائق أولي النهى لشرح المنتهى للبهوتي (1/316).
([13]) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي (2/395).
([14]) فتح الباري (2/399).
([15]) الفروع لابن مفلح (2/92).
([16]) شرج البهجة لعمر بن الوردي (5/136).
(([17] انظر بدع الجمعة في: الأجوبة النافعة (٦٦) والثمر المستطاب (١/ ٤١٣) كلاهما للألباني.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم