عناصر الخطبة
1/خشية الرسول من انفتاح الدنيا على أمته 2/معنى السعادة الحقيقية 3/من أقوال السلف عن السعادة 4/من سعادة القلب ذكر الله والأنس به 5/لا سعادة ولا راحة في المعاصي.اقتباس
السعادة لا تلتمس بالمعاصي، ولا تطلب بالأوزار، ولا تتدارك بما يغضب الله؛ ها هم أناس صرفوا الأموال، واستغرقوا الأوقات وسافروا بعيدا طلبا للسعادة، وحبا في الراحة، وهدوء البال, فرجعوا بلا سعادة، وقد تغيرت أحوالهم، وساءت أمورهم!, فما سعِدوا ولا غنِموا، ولا أفلحوا ولا أنجحوا...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلُهُ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ- حقَّ التَّقْوَى, وَاعْلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى, وَاعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أيها الإخوة الكرام: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا عبيده بن الجراح -رضي الله عنه- إلى البحرين؛ ليأتي بجزية أهلها، فلما قدم سمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافَوا صلاة الفجر مع رسول الله, فلما انصرف رآهم، تبسم وقال: "لعلكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة", قالوا: أجل يا رسول الله! فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أَبشروا وأمّلوا، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم؛ فتنافَسوها كما تَنافسوها، فتهلِكَكم كما أهلكتهم".
فهذا الخير يؤكد أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يخشَ على أمته الفقر, ولم يخف ضيق العيش، ولا شدة المعاناة، لكنه خشي ما هو أعظم؛ انبساط الدنيا، واتساع ملاهيها، بزوغ مزاهرها؛ لأنه مؤذن بالتنافس والتنافر، وإشاعة الفساد والبغضاء, وفي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم- أيضاً: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتِها".
إخوة الإسلام: يظن كثيرون أن استغلال هذا الصيف واستثماره، هو بالركض وراء الملهيات، والجري وراء مفاتن الدنيا، وقد غفَل أولئك عن معنى السعادة الحقيقي، وعن ميدانها الصحيح, فليست السعادة فى حديقة غناء، وليست في بستان زاهر، ولا فى منتجع باسم!, إنها في طاعة الله -تعالى- وذكره.
فها هم الغرب الكافر، يملكون أكثر مما نملك، ويستمتعون بأنواع المفاتن، وأشكال المغريات, فماذا نتج عن ذلك؟! قتل وتدمير، وضياع وانتحارات، ومراكز للطب النفسي، فلم تغن عنهم ملاهيهم، ولا شواطئوهم، ولا مزاهرهم، بل إنهم يتجرعون المرارات، ويحصلون النكبات!.
إن السعادة كل السعادة -يا مسلمون- إنما هي في الإيمان بالله, والإقبال على ذكره ومحبته، سعادة الروح والطمأنينة القلبي قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97], وقال -عز وجل-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
يا متعبَ الجسم كم تسعى لخدمتهِ *** أتعبت جسمك فيما فيه خسرانُ
أقبِل على الروح واستكمل فضائلَها *** فأنـت بالروح لا بالجسم إنسانُ
عاش كثير من الصالحين فقراء لكنهم أغنياء بالسعادة، وبالراحة القلبية التي ينشدها الكثيرون، وإن قلت أموالهم، وشحت أمتعتهم, يقول بعضهم وهو يصور ذلك: "والله إن كان أهل الجنة فيما أنا فيه من اللذة؛ فهم في عيش طيّب", ويقول أيضاً: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة؛ لجالدونا عليه السيوف أيام الحياة", ويقول آخر: "مساكينُ أهل الدنيا، خرجوا منها وماذقوا أطيب ما فيها، فقيل له: وما أطيبُ ما فيها؟! فقال: ذكرُ الله والأنس به والشوق إلى لقائه".
وها هو نبيكم -عليه الصلاة والسلام- كم أنس بذكر ربه، وكم طاب بعبادته والخضوع له؛ يذكر الله على كل أحبابة، وتعد له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة تسبيحا واستغفاراً, ويقول لبلال في الصلاة: "أرِحنا بها يا بلال", وصح عنه قول: "وجعلت قرةُ عيني في الصلاة".
وكذا سار أصحابه من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، أنسوا بذكر الله، وفازوا بعبادتة, فها هو عثمان يقرأ القرآن ويطيل, ويقول: "والله لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله", وصح عنه أنه قرأ القرآن كله في ركعة.
وجاء نحو ذلك عن سعيد بن جبير، ومحمد بن المنْكدر، وكان بعض الصالحين يحتبي ولا يحل حبوته إلا وقد ختم القرآن، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر الله حتى يتعالى النهار، ويقول: "هذه غَدوتي لو لم أتغدها سقطت قواي".
فتأملوا -عباد الله- أين وجد هؤلاء السعادة؟ فاتبعوا طريقهم واسترشدوا بهداهم.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى.
تشبثوا -يا مسلمون- بربكم، ولا تغتروا بزينة الحياة الدنيا، واحذروا سبل السعادة من غير بابها؛ فإنها شقاء وإن غرت، وإنها بلاء وإن حسُنت، وإنها نكبة وإن فتَنت!.
إنكم تملكون في دينكم باب السعادة، وعنوان البهجة والطمأنينة, قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس: 57-58].
إننا الآن نجمع الأموال، ونحرص على القصور والدور، ونهتم بالمزارع والعقارات، وغفلنا عن هذا الكتاب وهو مستودع الفضائل، ومنبع المحاسن، وموطن الراحة والسعادة, قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه".
وتيقنوا -يا فضلاء- أن السعادة لا تلتمس بالمعاصي، ولا تطلب بالأوزار، ولا تتدارك بما يغضب الله؛ ها هم أناس صرفوا الأموال، واستغرقوا الأوقات وسافروا بعيدا طلبا للسعادة، وحبا في الراحة، وهدوء البال, فرجعوا بلا سعادة، وقد تغيرت أحوالهم، وساءت أمورهم!, فما سعِدوا ولا غنِموا، ولا أفلحوا ولا أنجحوا، ولا ربحوا ولا اطمأنوا!.
إن التوسع في الشهوات لا يحقق سعادة، ولا يستدعي راحة بال، قال ابن القيم -رحمه الله-: "من أراد صفاء قلبه؛ فليؤثرِ اللهَ على شهوته". حمل بعضهم المرض، وعاد آخر بالتعاسة, أما لنا في هؤلاء معتبر؟ وهل لنا منهم موعظة وزاجر؟!.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ عِبَادِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللهِ, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم