السعادة الإيمانية (2)

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ تناسُب السعادة مع الإيمان 2/ سعادة الآخرة موصولة بسعادة الدنيا 3/ العمل الصالح وسيلة أولى للصعود في مراقي السعادة 4/ انسجام المؤمن مع الكون وحبه له يغمره بالسعادة 5/ بدء سعادة المؤمن من تصوُّره لمِنَّة الله له بالخير

اقتباس

أما سعادة الآخرة، التي مَبدؤها السعادة الإيمانية في الدنيا، فإنها لا تنقطع ولا تزول، لماذا؟ لأنها مرتبطة بخلود لا بعدم، قيمتها مرتبطة بالجنة ونعيمها الأبدي، ولك بعد هذا أن تقيس الفرق بين الدنيا والآخرة، فهو نفس الميزان الذي تقيس به الفرق بين سعادة الدنيا الغريزية وسعادة الإيمان ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

كيف نحصل على سعادة الإيمان ونرتقي في منازلها؟ إرشادات أرجو أن يكون فيها نفع لي ولكم.

معاشر المسلمين: إن مراتب السعادة الإيمانية كالأرزاق، يمنحها الله تعالى للمجتهد صعودا أو نزولا بحسب اجتهاده وصدق عزيمته، ولا شك أن زيادة الإيمان تزيد في السعادة تبعاً، فكلما زاد الإيمان زادت سعادة المؤمن، فالسعادة الإيمانية هي إحدى ثمرات زيادة الإيمان.

إن سعادة الدنيا بمعزل عن الإيمان إنما هي ظل زائل، كيف لا، وقد قال -سبحانه-: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207]؟ فهذه المتع التي فرحوا بها في الدنيا وامتدت لهم سنين ماتوا وتركوها لغيرهم، وما أغنتهم عما كان ينتظرهم في الآخرة؛ بل إن لدغة الدنيا رأيناها قريبا أمام أعيننا حين التفَّت على عدد ممن تجبروا واغتروا بما جمعوا فيها من مال وسلطان فخانتهم الدنيا ولدغتهم في مقتل! وكما قيل:

وهذه الدارُ لا تُبقِي على أحدٍ *** ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ
أين الملوك ذوي التيجان مِنْ يَمَنٍ؟ *** وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ؟
أتى على الكُلِّ أمرٌ لا مَرَدَّ له *** حتَّى قضَوا فكأن القوم ما كانوا
هي الأمور كما شاهدتُها دُوَلٌ *** مَن سرَّهُ زَمنٌ ساءته أزمانُ

قيمة السعادة تقدر برابطها، وإذا نظرت إلى طبيعة الدنيا في القرآن وفي الواقع وجدت أنها بالنسبة لكل إنسان -مهما أوتي من كنوز ووجاهة وسلطة قصيرة- مليئة بالنكد المرتقب، يرتقبه ولا يدري متى يحل، نكد نفسي أو صحي أو اجتماعي أو مالي أو كل أولئك معاً.

ويُدرك كذلك أن قمة اللذة في الدنيا إذا أتت فإنها لا تجاوز ثواني أو دقائق معدودة، ثم يهجم على القلب بعدها همُّ المعصية وشؤمها إذا كانت اللذة في حرام، وإن كانت في حلال فإنها لذة قصيرة معرضة للزوال.

أما سعادة الآخرة التي مَبدؤها السعادة الإيمانية في الدنيا فإنها لا تنقطع ولا تزول، لماذا؟ لأنها مرتبطة بخلود لا بعدم، قيمتها مرتبطة بالجنة ونعيمها الأبدي، ولك بعد هذا أن تقيس الفرق بين الدنيا والآخرة، فهو نفس الميزان الذي تقيس به الفرق بين سعادة الدنيا الغريزية وسعادة الإيمان؛ فسعادة الدنيا بالدنيا بالنسبة إلى سعادة الإيمان كما هي النسبة بين الدنيا الفانية والآخرة الباقية، فهل يوجد وجه قياس؟.

ولذلك صَحَّ في مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يؤتَى بأنعَمِ أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة غمسة واحدة، ثم يُقال: يابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا والله يا رب!"، نسِي كل سعادة الدنيا التي كان هو بذاته أنعم المتنعمين فيها، تصور! أنعم المتنعمين في الدنيا! هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا ربي!.

قال: "ويؤتى بأشد الناس بؤسا من أهل الجنة"، فقيرا مسكينا ما عنده أموال ولا جاه؛ لكنه مؤمن صالح، "فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة".

ولذلك نرى الأنبياء والصالحين إذا دعوا ربهم شيء من الدنيا لم يسألوه دون أن يربطوا سؤالهم بالآخرة: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) [الشعراء:83-85]. قال البقاعي في نظم الدرر في هذه الآية: ولما طلب سعادة الدنيا كانت لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة، واجعلني من ورثة جنة النعيم.

أيها الإخوة: ما هي وسائل الصعود في مراتب سعادة الإيمان؟:
الوسيلة الأولى: العمل الصالح، فقلد وعد الله تعالى المؤمنين بقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً...) [النحل:97]؛ فالعمل الصالح، مع صدق الإيمان وهو مؤمن، لابد قطعا وجزما من أن يثمر حياة طيبة، بنص القرآن: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)؛ لكن، لماذا يشعر فئة من المسلمين، بالرغم من عملهم الصالح، أنهم غير سعداء؟ أم لأنهم لم يفقهوا معنى سعادة الإيمان؟ أم لأنهم لم يفهموا الدين بمعناه الشامل؟ أم لأنهم شعروا بذلك بسبب ضعف تدينهم أصلا؟.

أما فهم الدين أو التدين فالقصور قد يكون سببا، ففي ذهن الكثيرين التدين يعني تكاليف وواجبات ومنهيات وقيود مفروضة على الإنسان فقط، وهذه الأمور -لا شك- جزء من الدين، ففي الدين أمر ونهي وحلال وحرام؛ ولكن صاحب هذا التصور قصَر الدين على هذه الأمور ولم ينظر إلى المعنى الأوسع للدين، فحتى يسعد الإنسان وينشرح صدره بأوامر الله ونواهيه ينبغي أن يستوعب مكاسبه العظيمة أولا بهذا الدين القويم.

ينبغي أن يعي أن الدين هو وضوح الحياة، وانكشاف سر الكون وما بعد الكون، بينما الناس الآخرون في ظلام دامس، وعيشة بهيمية ضنك، فيستبشر ويفرح ويحمد الله؛ وينبغي أن يعي كذلك أن الدين هو السير على ضوء هذا الإيمان بخطى راسخة واثقة، بينما الناس الآخرون يتخبطون في ريب وشَكّ؛ فيطمئن ويفرح ويحمد الله.

كما ينبغي أن يعي أن الدين أيضا هو القرب من الخالق البارئ بتعظيمه وتسبيحه، وبالتالي يحس المؤمن بانتمائه إلى هذا الكون الموحِّد، وتجانسه معه، فهو يسبح لله الواحد الأحد، والكون يسبح لله الواحد الأحد، فيجتمع تسبيحه مع تسبيح الكون كله لإله واحد خالق بارئ: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:44].

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [النور:41]، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ...) [الحج:18]؛ قال: وكثير من الناس؛ فالمتدين المؤمن هو من أولئك الذين سجدوا لله -عز وجل-، هو من الكثير من الناس الذين انسجموا واتحدوا مع السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، سجدوا لله تعالى الأحد.

هذا هو المتدين، بخلاف غيره ممن نبذ الدين فهو مُنْبَتٌّ مقطوع من الكون، هو من قال فيهم: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [الحج:18]، فغير المؤمن مهان مكروه، ولو تجبر وعلا في الأرض، مهان؛ بينما المؤمن محبوب من الكون كله ولو بدا ضعيفا بسيطا في مرحلة من مراحل الحياة.

ولهذا جاء في الحديث: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأراضين، حتى النملة في جحرها، حتى الحوت، لَيُصَلُّون على مُعَلِّمِ الناس الخير"، أي: يدعون له؛ أهل السماوات السبع والأراضين السبع! حتى النملة والحوت! يدعون لمعلم الناس الخير؛ وأي خير أعلى وأغلى من علم الشريعة؟!.

في سنن الدارمي عن كثير بن قيس قال:" كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال: يا أبي الدرداء، إني أتيتك من مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لحديث بلغني عنك أنك تحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فما جاء بك، تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم لَيستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء...".

المؤمن يحس بسعادة الإيمان لأن الكون كله يحبه، حتى الحوت في البحر والنملة في جحرها، ولذلك تشهد للمؤمن جميع الجمادات إذا هو أذَّن، ففي سنن ابن ماجه بإسناد صحيح، جاء فيها أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال لعبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، وكان يتيما في حجر أبي سعيد، وكانت أم عبد الله عند أبي سعيد قد تزوجها بعد موت أبيه، قال له: إذا كنت في بَوَادٍ فارفع صوتك بالأذان؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يسمع أذان المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر إلا شهِدَ له".

بل إنه قبل قيام الساعة يكرم الله المؤمن بأن يطلعه على محبة الكون له عيانا، بإنطاق الحجر كله، والشجر كله إلا الغرقد، إنطاقهم بموالاة ذلك المؤمن ومحبته؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود"؛ الحجر بأنواعه، والشجر بأنواعه يحبون المسلم، ويوالونه، ويكرهون الكافر ويعادونه، تستشعر ذلك تسعد.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن محبة الكون للمؤمن إذا ما رجاها على الحقيقة واستشعرها في كل شيء حوله فإنه تسعده وتشرح صدره أضعاف أضعاف ما يسعده المال والطعام والشراب وغير هؤلاء من متاع الدنيا، وكلما ارتقى المؤمن في إيمانه وعمله الصالح كلما ازدادت محبة الله تعالى له، وتباعا تزداد محبة الكون له.

فقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحِبَّه، قال: فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم:96]؛ أما الكافر فأمره مختلف جدا، أسأل الله السلامة والعافية، على النقيض تماما.

تأملوا كيف يعيش الإنسان في كون يبغضه، يبغضه في كل شيء، ألا ترون القرآن يشرك السماء والأرض في مشاعر الرضا عن هلاك فرعون وجنوده، قال تعالى: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) [الدخان:24-29].

وبقدر قربك من الله يحبك خلقه، وببعدك عنه نقيض ذلك، ففي قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41]، قال مجاهد: إن البهائم لتلعن عصاة بني أدم إذا اشتدت السنة -أي الجدب- وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية بني أدم.

بل إن مقت الله أكبر، ألم يقل سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) [غافر:10]، حين دعي الكافر إلى الإيمان فكفر مقته كل شيء، بل هو بنفسه سيمقت نفسه يوم القيامة إذا عاين العذاب، ولكن مقت الله له أكبر، ويكمل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث الآنف فيقول: "وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إني أبغضت فلاناً، فينادي في السماء، ثم تنزل له البغضاء في الأرض".

فعلاقة الكون بالمؤمن علاقة مودة وإن ناله بعض البلاء في الدنيا، أما الفاجر فعلاقة الكون به علاقة بغض وكراهية وإن أوتي نعيم الدنيا، ففي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة بن ربيعي أنه كان يحدث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُر عليه بجنازة فقال: "مستريح ومستراح منه"، قيل: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: "العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، وأما الكافر فيستريح منه العباد والشجر والدواب". حتى الشجر والدواب يكرهون الكافر الفاجر ويستريحون منه إذا هو مات!.

فالسعادة بالدين والإيمان التي تغمر قلب المؤمن تبدأ من هاهنا، من تصوره للخير الذي منّ الله تعالى به عليه دون ملايين الناس غيره، ويكفي في ذلك قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58]، قال الإمام الطبري: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن، أي إن كان شيء في الدنيا يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته.

ولما قدم خراج العراق إلى عمر -رضي الله عنه- خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي فوق الحصر من كثرتها، فجعل يقول: الحمد لله تعالى، فقال مولاها: هذا والله من فضل الله ورحمته، فبادره عمر: كذَبْتَ، ليس هذا الذي يقول الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

هكذا كان الرعيل الأول في نظرتهم إلى قيم الحياة، كان يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى، فبذلك يفرحون حقا، يفرحون بالهدى والإيمان أكثر وأكبر وأعظم من فرحهم بالمال والثراء وبالنصر ذاته، فكل هؤلاء تابع لفضل الله بالإيمان والهدى.

ولذلك لما حرصوا على الدين أضعاف حرصهم على الدنيا كان النصر يأتيهم، وكان المال ينهال عليهم، وكان الثراء يطلبهم، ولم يؤثر ذلك في أخلاقهم ولا في عبادتهم، فعاشوا سعداء في حال الفقر، وسعداء في حال الثراء؛ لأن سعادتهم كانت سعادة إيمانية لا تؤثر فيها ظروف الدنيا علت أو سفلت.

أسأل الله تعالى أن يفرحنا على الحقيقة بدينه وكتابه، وللكلام بقية إن شاء الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...

 

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

الإيمانية (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات