عناصر الخطبة
1/ محبة الله للعبد 2/ مفهوم الزهد في الدين 3/ مفاهيم خاطئة للزهد 4/ الدين لا ينافي الحضارة 5/ حقيقة الدنيا 7/ أسباب محبة الله للعبد 8/ كيف يحبك الناس 9/ حب الناس نعمة من نعم الله إذا كان بحقاقتباس
وليس معنى الزهد رفض الدنيا بالكلية والابتعاد عنها، فقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إمام الزاهدين وله تسع نسوة، وكان سليمان وداود -عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من الملك والمال والنساء ما لهما، وكذلك الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال والنساء والبنين ما هو معروف، فليس الزهد في الدنيا بأن تحرّم على نفسك ما أحله الله لك من الطيبات ..
وبعد: فعن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس!! فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". رواه ابن ماجه وغيره، والحديث صحيح.
عباد الله: إن محبة الله للعبد من أعظم ما يوفق إليه الإنسان، فمن أحبه الله أكرمه، ووضع له القبول في الأرض، ومن أبغضه وضع له البغضاء في الأرض، ولقد بيّن -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث سبب محبة الله لعبده وسبب محبة الناس له، ومعلوم أن الإنسان يشعر بسعادة عظيمة إذا كان يحيا في مجتمع يحبه، ومن أحبه الناس ألفوه وعايشوه وتعاملوا معه.
فمِن تلكم الأسباب التي تحقق هذه المحبة، والتي جاء ذكرها في هذا الحديث: الزهد في الدنيا، والزهد -عباد الله- هو الانصراف عن كل ما لا ينفع في الآخرة، بأن تخرج -يا عبد الله- من قلبك حب الدنيا والحرص عليها والرغبة إليها، فتصبح الدنيا في يدك، وحب الله والآخرة في قلبك.
وليس معنى الزهد رفض الدنيا بالكلية والابتعاد عنها، فقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إمام الزاهدين وله تسع نسوة، وكان سليمان وداود -عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من الملك والمال والنساء ما لهما، وكذلك الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال والنساء والبنين ما هو معروف، فليس الزهد في الدنيا بأن تحرّم على نفسك ما أحله الله لك من الطيبات؛ إذ الحلال نعمة من الله على عبده، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فشكره على نعمته والاستعانة بها على طاعته واتخاذها طريقًا إلى جنته أفضل من الزهد فيها، والتخلي عنها، لأن الزهد في نعم الله زهد مخالف لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته، لا خير فيه، يظلم القلوب ويعميها، ويشوه جمال الدين الذي اختاره الله لعباده، وينفّر العباد من دين الله -عز وجل- ويهدم الحضارة، ويمكّن أعداء الله من أمة الإسلام وينشر الجهل.
ومعلوم أن كل الحضارات لا تقوم إلا على العلم والكسب والزواج، وحضارة الإسلام ما قامت إلا على هذا، أمرت بالكسب حيث قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده". رواه البخاري.
وأمر بالزواج فقال: "يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج". بل جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الزهد في الزواج مخالفًا لهديه وسنته فقال: "وإني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وأمر بالعلم الديني والدنيوي فقال -عليه الصلاة والسلام-: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". هذا من حديث العلم الديني، أما العلم الدنيوي فلا يختلف اثنان في ضرورة طلب علوم الدنيا من طب وصناعة وزراعة وغيرها مما لا غنى للعباد عنه في هذا الزمان.
وما ضعفت شوكة المسلمين وتدهورت أحوالهم إلا بسبب تقصيرهم في طلب العلم الديني والدنيوي، واكتفوا بأخذ القشور من علوم الدنيا من أعدائهم، بينما أخذوا عنهم كثيرًا من أمور زائفة زائلة أدت بأهلها إلى الهلاك وضياع الدين والخلق والفضيلة.
ولكي تزهد -يا عبد الله- في هذه الدنيا زهد الأتقياء والصالحين لابد أن تعرف شأن الدنيا وقيمتها؛ فقد جاءت نصوص كثيرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزهّد في الدنيا وتبيّن حقارتها وقلتها وسرعة زوالها، وترغّب في نِعَم الآخرة الدائمة التي لا تنقطع، فمن تلكم النصوص قوله -جل وعلا-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20]، فالدنيا منقطعة زائلة فانية، فلا ينبغي للعبد أن يشتغل بالفاني الزائل عن الباقي الدائم، كما دلت الآية على أن الحياة الدنيا غرور وباطل ولعب، وحقيقة اللعب ما لا ينتفع به، واللهو ما يلهي الإنسان عن الآخرة، ودلت الآيات على أنها زينة تصرف المفتون بها عن الآخرة، وأنها تفاخر بين الناس يفخر بعضهم على بعض بنعيمها الزائل من مال وولد وجاه وغيره، ثم شبّه ربنا سبحانه سرعة زوال الدنيا بالمطر الذي ينزل على الأرض فتهتز به وتخضر، ثم سرعان ما تعود إلى ما كانت عليه من جفاف واصفرار وموات، فكذلك حال نعيم الدنيا سرعان ما يزول وينقضي.
وأما من السُّنَّة فما رواه جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ بالسوق بجدي ميت -أي ولد المعز-، فتناوله فأخذه بأذنه ثم قال: أيكم يحب أن يشتري هذا بدرهم؟! قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا فيه لأنه أسكُّ -أي صغير الأذنين-، فكيف وهو ميت؟! فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم". رواه مسلم.
وكما جاء في الصحيح أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع".
ومما ينبغي عليك أن تعلمه -يا عبد الله- أن الذي يحمل العبد على الزهد في الدنيا قوة إيمانه، واستحضاره عظمة ربه، ووقوفه بين يديه واستحضار أهوال يوم القيامة، فإن ذلك يجعل حب الدنيا ونعيمها يضعف في قلبه، فينصرف عن لذائذها ويقتنع بالقليل منها.
ومنها أيضًا شعوره بأن الدنيا تشغل القلوب عن التعلق بالله، وتؤخر الإنسان عن اللحوق بدرجات الآخرة، وأن الإنسان سوف يُسأل عن نعيمها؛ قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: 8].
ومما يعينك أيضًا -يا عبد الله- على الزهد في الدنيا علمك بتحقير القرآن لشأن الدنيا ونعميها، وأنها لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء، فشعور العبد النير القلب بهذا يجعله يزهد في الدنيا ويقبل على ما هو خير وأبقى؛ قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16، 17].
وفقني الله وإياكم للزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة حتى ننال محبة الله -عز وجل-.
الخطبة الثانية:
علمت -يا عبد الله- أن الزهد في الدنيا طريق من طرق محبة الله -جل وعلا- لعبده؛ إذ من أحبه الله وفّقه لما يحب وأغدق عليه نعمه الظاهرة والباطنة، ألا فلتعلم أن محبة الله لها طرق أخرى وأسباب كثيرة توصلك إلى محبة الله لك، وترفع مقامك عنده، نذكر منها:
قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه حتى يتمكن الإنسان من عبادة ربه حق العبادة، التي تكون سببًا للتقرب إلى الله ومحبة الله.
التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وفي الحديث القدسي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ ما اقترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه". رواه البخاري.
ومن الطرق الموصلة لمحبة الله لعبده متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به بتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر، فإن الله تعالى قال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].
إن هذه الآية تدل على صدق محبة العبد لربه؛ إذ لا يتم له ذلك بمجرد دعوة قلبه أو لسانه، فكم من أناس يدّعون محبة الله بقلوبهم وألسنتهم، وأحوالهم تكذّب دعواهم، فعلامة حب العبد لربه وحب الله لعبده طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والقرآن والسنة مليئان بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين، وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم، فالإحسان إلى الخلق سبب المحبة؛ قال تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134]، والصبر طريق المحبة أيضًا: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146]، والتقوى كذلك فإن الله يحب المتقين. وبالجملة فإن طريق محبة الله طاعة أوامره واجتناب نواهيه بصدق وإخلاص.
وأما طريق محبة الناس فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمنا كيف الوصول إليها فقال: "وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". ولا يتم ذلك إلا بالتعفف عما في أيدي الناس من حطام الدنيا الفانية، والإنسان -عباد الله- بحاجة إلى محبة الناس إليه؛ لأنه يشعر بسعادة وانشراح عندما يعيش بين أظهر ناس يحبونه، ويشعر بضيق وانقباض عندما يحيا بين قوم يكرهونه، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله تعالى يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبّوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض".
ولكن عليك أن تعلم أنه لا ينبغي أن تكون محبة الناس لك على حساب الحق والعدل، فإن هذا لا يجوز في دين الله -عز وجل- قال –صلى الله عليه وسلم-: "من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤونة الناس".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم