الريح والإعصار رسل إنذار من الملك الجبار

إبراهيم بن صالح العجلان

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الأحداث العامة
عناصر الخطبة
1/ التأمل في ظاهرة الريح والإعصار 2/ الرياح بين النعمة والعذاب 3/ عجز المخلوقين أمام قوة الله تعالى 4/ الكوارث لا تقع إلا بقدر الله تعالى 5/ التفسيرات المادية للكوارث وخطؤها 6/ شبهتان والرد عليهما

اقتباس

تموج الأرض بالكوارث والمتغيرات ، ويَتفاجئ البشر بالغير والمثلات ، يقلب الله عباده ويريهم من الآيات والكروب ما يوجل القلوب ، ويعلقها بعلام الغيوب ، آيات كونية تضرب البشر هنا وهناك ، لعلهم يرجعون ويدَّكِرون ويتضرَّعون ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا)..

 

 

 

(الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) [الأنعام: 1 - 5]

 

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ حَقَّ التَّقْوَى.

 

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

 

تَمُوجُ الْأَرْضُ بِالْكَوَارِثِ وَالْمُتَغَيِّرَاتِ، وَيَتَفَاجَأُ الْبَشَرُ بِالْغِيَرِ وَالْمَثُلَاتِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ عِبَادَهُ وَيُرِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْكُرُوبِ مَا يُوجِلُ الْقُلُوبَ، وَيُعَلِّقُهَا بِعَلَّامِ الْغُيُوبِ.

 

آيَاتٌ كَوْنِيَّةٌ تَضْرِبُ الْبَشَرَ هُنَا وَهُنَاكَ؛ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَيَدَّكِرُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام: 43]، وَلَعَلَّهُمْ يَزْدَادُونَ إِيمَانًا وَيَقِينًا (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53].

 

وَمِنَ الظَّوَاهِرِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ نَقِفَ مَعَهَا وَقْفَةَ تَأَمُّلٍ وَادِّكَارٍ، وَعِظَةٍ وَاعْتِبَارٍ: ظَاهِرَةُ الرِّيحِ وَالْإِعْصَارِ.

 

فَالرِّيحُ وَالْأَعَاصِيرُ رُسُلُ نُذُرٍ وَإِنْذَارٍ، مِنَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ، وَآيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59].

 

خَوَّفَ الْعَظِيمُ الْجَلِيلُ عِبَادَهُ بِالرِّيحِ الْعَاتِيَةِ، وَأَنْذَرَهُمْ بِالْأَعَاصِيرِ الْقَاصِفَةِ، قَالَ تَعَالَى: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) [الإسراء: 68 - 69]

 

وَلِعَظَمَةِ الرِّيحِ وَعِظَمِ شَأْنِهَا، أَقْسَمَ بِهَا رَبُّهَا، فَقَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا *فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) [المرسلات: 1 - 3].

 

وَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بُرْهَانًا دَالًّا عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية: 5].

 

وَحِينَمَا سَأَلَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، اسْتَجَابَ اللَّهُ لِطَلَبِهِ، وَسَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ طَائِعَةً لِأَمْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) [الأنبياء: 81].

 

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) [الأنبياء: 81].

 

قَالَ قَتَادَةُ: تَغْدُو مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَتَرُوحُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ.

 

هَذِهِ الرِّيَاحُ جُنْدٌ طَائِعٌ لِلَّهِ تَعَالَى (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: 31] فَإِذَا شَاءَ اللَّهُ صَيَّرَهَا رَحْمَةً، فَجَعَلَهَا رُخَاءً وَلِقَاحًا لِلسَّحَابِ، فَكَانَتْ مُبَشِّرَاتٍ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وَنُزُولِ نِعْمَتِهِ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الروم: 46].

 

وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الرِّيَاحَ نِقْمَةً وَنَكَالًا، فَكَانَتْ صَرْصَرًا عَاصِفًا، وَعَذَابًا عَقِيمًا، قَالَ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ عَادٍ لَمَّا كَفَرُوا وَاسْتَكْبَرُوا: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات: 42].

 

وَهَذِهِ الرِّيحُ أَيْضًا قَدْ يَجْعَلُهَا اللَّهُ سَلَامًا لِنُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الأحزاب: 9].

 

وَفِي هَذَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 

وَالصَّبَا هِيَ الرِّيحُ الشَّرْقِيَّةُ، وَالدَّبُورُ: الرِّيحُ الْغَرْبِيَّةُ.

 

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

 

إِنَّ ظَاهِرَةَ الْأَعَاصِيرِ حَدَثٌ مَهِيبٌ، وَمَنْظَرٌ مَهُولٌ، يُوجِلُ الْقُلُوبَ، وَيُدْهِشُ الْعُقُولَ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ غَافِلُونَ، أَوْ فِي لَهْوِهِمْ سَادِرُونَ، إِذْ أَذِنَ اللَّهُ لِجُنْدٍ مِنْ جُنُودِهِ أَنْ يَتَحَرَّكَ.

 

أَذِنَ لِلْهَوَاءِ السَّاكِنِ أَنْ يَضْطَرِبَ، وَيَهِيجَ، وَيَمُوجَ، وَيَثُورَ، وَيُزَمْجِرَ، ثُمَّ يَتَوَجَّهَ كَالْغَضْبَانِ إِلَى الْيَابِسَةِ، يَجُرُّ مَعَهُ الْأَمْوَاجَ الْعَالِيَةَ، وَالسُّحُبَ الْمُفَرَّقَةَ، لَا يَقِفُ أَمَامَهُ شَيْءٌ إِلَّا ابْتَلَعَهُ، وَلَا شَجَرٌ إِلَّا اقْتَلَعَهُ، وَلَا شَاخِصٌ إِلَّا صَرَعَهُ، وَرَمَاهُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ.

 

عُرُوشٌ مُبَعْثَرَةٌ، وَبِنَايَاتٌ مُتَنَاثِرَةٌ، وَأَشْلَاءٌ مُمَزَّقَةٌ، وَجُثَثٌ مُتَحَلِّلَةٌ، هُنَا وَهُنَاكَ.

يَقِفُ النَّاسُ مَعَ لُجَّةِ الْإِعْصَارِ مَكْلُومِينَ، مَشْدُوهِينَ، نَازِحِينَ، يَسِيرُونَ لَكِنْ إِلَى غَيْرِ اتِّجَاهٍ، يَقْصِدُونَ لَكِنْ إِلَى غَيْرِ وِجْهَةٍ، لَا بُيُوتَ تُنْجِيهِمْ، وَلَا أَبْرَاجَ تُؤْوِيهِمْ (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) [الأنبياء:  12 - 13].

 

فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا أَعْظَمَ قُدْرَةَ الْجَبَّارِ! مُدُنٌ عَامِرَةٌ، تَدِبُّ فِي أَرْجَائِهَا الْحَيَاةُ لِجَمَالِهَا وَصَفَائِهَا، وَفِي غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا، يُغَيِّرُ اللَّهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَأَضْحَتْ أَوْطَانًا مُوحِشَةً، وَدِيَارًا خَاوِيَةً، وَأَطْلَالًا بَالِيَةً (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].

 

إِنَّ هَذِهِ الْأَعَاصِيرَ يَوْمَ تَعْصِفُ عَصْفَتَهَا، كَأَنَّمَا تُخَاطِبُ أَهْلَ الْأَرْضِ، تُخَاطِبُهُمْ بِعَظَمَةِ الْخَالِقِ، وَعَجْزِ الْمَخْلُوقِ وَضَعْفِهِ، تُخَاطِبُهُمْ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ مَهْمَا طَغَى وَبَغَى، وَمَهْمَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ وَتَقَدُّمٍ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.

 

لَقَدْ أَصَابَتْ هَذِهِ الْأَعَاصِيرُ دُوَلًا عُظْمَى، فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ.

 

نَعَمْ، نَجَحَتِ الْبَشَرِيَّةُ فِي رَصْدِ هَذِهِ الْأَعَاصِيرِ، وَكَشْفِ وِجْهَتِهَا وَسُرْعَتِهَا، لَكِنَّهَا عَجَزَتْ مَعَ قُوَّتِهَا الْعَسْكَرِيَّةِ، وَأَجْهِزَتِهَا الْعِلْمِيَّةِ، وَتَرْسَانَتِهَا الْحَرْبِيَّةِ، عَجَزَتْ عَنْ مُوَاجَهَةِ هَذَا الْجُنْدِيِّ الْإِلَهِيِّ، أَوْ تَغْيِيرِ وِجْهَتِهِ، وَتَقْلِيلِ خَسَائِرِهِ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلَا: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد: 11].

 

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: إِنَّ الْحَقَائِقَ الثَّابِتَةَ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْقُرَآنُ أَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ الْعَامَّةَ، الَّتِي تَنْزِلُ بِالْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، إِنَّمَا هِيَ جَزَاءُ مَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41] وَيَقُولُ تَعَالَى: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص: 59].

 

نَعَمْ، لِهَذِهِ الْأَعَاصِيرِ أَسْبَابٌ وَظَوَاهِرُ عِلْمِيَّةٌ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يَعْنِي التَّعَلُّقَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَنِسْيَانَ خَالِقِهَا وَمُسَبِّبِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَوْجَدَ سَبَبَهُ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ نَتِيجَتَهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].

 

فَهَذِهِ الْأَعَاصِيرُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْكَوَارِثِ هِيَ مِنْ أَقْدَارِ اللَّهِ لَا تُسَيِّرُ نَفْسَهَا، وَلَا تُسَيَّرُ عَبَثًا، وَإِنَّمَا تُسَيَّرُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِشَيْءٍ أَرَادَهُ اللَّهُ.

 

عِبَادَ اللَّهِ:

 

إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ وَيُذْكَرَ فِي عَصْرِ التَّلْبِيسِ وَالتَّشْوِيشِ الْإِعْلَامِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْمُتَغَيِّرَاتِ وَالْكَوَارِثَ لَا تَقَعُ إِلَّا بِحِكْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَعَدْلٍ مِنْهُ (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].

 

قَدْ تَكُونُ الْكَارِثَةُ عَذَابًا، وَقَدْ تَكُونُ تَخْوِيفًا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَقَدْ تَكُونُ تَمْحِيصًا.

وَقَدْ دَلَّنَا كِتَابُ اللَّهِ أَنَّ لِلْعَذَابِ أَسَبَابًا، وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنِ الْإِيمَانِ، فَيَنْبَغِي التَّفْرِقَةُ فِيمَنْ حَلَّتْ بِهِ تِلْكَ الْمَوَاجِعُ.

 

فَإِنْ نَزَلَتْ بِأَرْضِ الظَّلَمَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْعَالِينَ الْمُعْرِضِينَ، الْمُكَذِّبِينَ بِرِسَالَةِ [S1]  وَالْمُسْتَخِفِّينَ بِهِ فَهِيَ عَذَابٌ وَعُقُوبَةٌ؛ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ الْعزِيزُ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [المائدة: 49] وَبِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَالظُّلْمِ وَالْإِعْرَاضِ حَلَّ الْبَطْشُ الْإِلَهِيُّ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت: 40].

 

وَإِنْ حَلَّتِ الْكَوَارِثُ بِدِيَارٍ إِسْلَامِيَّةٍ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ النَّظَرُ إِلَى هَذِهِ الْمَوَاجِعِ بِمِنْظَارَيْنِ:

 

أَوَّلًا: بِمِنْظَارِ الِابْتِلَاءِ، وَأَنَّهَا تَمْحِيصٌ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَتَكْفِيرٌ لِسَيِّئَاتِهِمْ، كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ النُّصُوصُ أَنَّ الْمَصَائِبَ تَمْحِيصٌ وَتَكْفِيرٌ لِأَهْلِهَا.

 

وَثَانِيًا: بِمِنْظَارِ الْإِنْذَارِ، وَأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ عُقُوبَةً لِتَقْصِيرَاتٍ حَدَثَتْ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].

 

كَمَا أَنَّ الْكَارِثَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْبَلَاءُ وَالْعُقُوبَةُ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِأَرْضٍ فِيهَا كُفَّارٌ وَمُسْلِمُونَ فَهِيَ لِلْكُفَّارِ عُقُوبَةٌ وَلِلْمُؤْمِنِينَ تَمْحِيصٌ "أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟" قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرُ الْخَبَثُ".

 

فَالْعُقُوبَةُ هُنَا عَمَّتْ، وَلَكِنَّهَا لِلصَّالِحِينَ تَمْحِيصٌ وَابْتِلَاءٌ، وَلِلْمُعْرِضِينَ عَذَابٌ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَمَعَ كُلِّ كَارِثَةٍ كَوْنِيَّةٍ نَرَاهَا وَنُتَابِعُ أَحْدَاثَهَا نَرَى أَنَّ الصَّوْتَ الْأَعْلَى هُوَ التَّحْلِيلُ الْمَادَِّيُّ، فَالْأَعَاصِيرُ هِيَ بِسَبَبِ تَيَّارٍ هَوَائِيٍّ، وَالْغُبَارُ بِسَبَبِ مُنْخَفَضٍ جَوِّيٍّ، وَالطُّوفَانُ سَبَبُهُ زِيَادَةُ مَنْسُوبِ الْمَاءِ، وَهَكَذَا كُلُّ ظَاهِرَةٍ تُفَسَّرُ تَفْسِيرًا مَادِّيًّا صِرْفًا.

 

فَأَيْنَ مُدَبِّرُهَا؟! أَيْنَ مُصَرِّفُهَا؟! أَيْنَ خَالِقُهَا؟! أَيْنَ الْقَهَّارُ مُوجِدُهَا؟!

أَيْنَ قَوْلُ الْعَظِيمِ الْجَبَّارِ: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59].

 

هَذِهِ التَّفْسِيرَاتُ الْحِسِّيَّةُ الْقَاصِرَةُ لَا تُحَرِّكُ الْقُلُوبَ إِلَى رَبِّهَا، وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ، وَقِلَّةِ الِاتِّعَاظِ.

 

وَلَيْتَ الْأَمْرَ يَنْتَهِي عِنْدَ هَذَا، بَلْ تَعَدَّى هَذَا إِلَى غَمْزِ وَلَمْزِ وَتَنَقُّصِ مَنْ يَدْعُو لِلتَّوْبَةِ فِيهَا، أَوْ أَنَّهَا بِسَبَبِ الظُّلْمِ وَالْعُتُوِّ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ.

 

لَا نَدْرِي - وَاللَّهِ - لِمَاذَا يَكْرَهُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَسْمَعُوا عِبَارَةَ: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عِمْرَانَ: 165] وَقَدْ قَالَهَا اللَّهُ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عِمْرَانَ: 165].

 

لَقَدْ شَوَّشَ هَؤُلَاءِ وَلَبَّسُوا فِي قَضِيَّةِ رَبْطِ الْكَوَارِثِ بِالْمَعَاصِي بِشُبَهٍ يَضِيقُ الْمَقَامُ عَنْ مُنَاقَشَتِهَا، وَلَعَلَّ أَبْرَزَهَا شُبْهَتَانِ:

 

* الشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّ هُنَاكَ بِلَادًا أَكْفَرَ وَأَفْجَرَ، فَلِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ بِهَا هَذِهِ الْكَوَارِثُ الْمُؤْلِمَةُ؟!

 

وَإِنَّنَا لَنَعْجَبُ مِنْ جُرْأَةِ هَؤُلَاءِ عَلَى اللَّهِ، هَلْ هَذَا الطَّرْحُ هُوَ مُحَاسَبَةٌ لِأَفْعَالِ اللَّهِ؟! (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23].

 

هَلْ نَسِيَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْعَذَابَ قَدْ يُؤَجَّلُ عَلَى الْكَافِرِينَ؟! (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف: 183] (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطارق: 017].

 

وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ".

 

هَلْ تَغَافَلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ قَدْ تَكُونُ مَعْنَوِيَّةً؟! أَنْ يَطْمِسَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ؛ كَمَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْيَهُودِ، فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ.

 

*وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الْأُخْرَى الَّتِي رَدَّدَهَا هَؤُلَاءِ الْمُشَكِّكُونَ، فَتَقُولُ: مَا ذَنْبُ الْأَبْرِيَاءِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ حِينَ تَقَعُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْكَوَارِثُ؟ كَيْفَ يُؤْخَذُ هَؤُلَاءِ بِجَرِيرَةِ غَيْرِهِمْ؟!

 

وَأَمَّا هَذَا التَّلْبِيسُ يُقَالُ لَهُ:

أَوَّلًا: لَيْسَ كُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، فَقَدْ يُصَابُ الْمُؤْمِنُ بِعَذَابٍ لِحِكَمٍ أَرَادَهَا اللَّهُ مِنْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ، وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَيُّوبَ: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) [ص: 41].

 

ثَانِيًا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْقَعَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَأَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ، وَأَهْلَكَ عَادًا بِالرِّيحِ، وَثَمُودَ بِالصَّيْحَةِ، وَغَيْرَهُمْ، وَفِيهِمُ الْأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ.

 

ثَالِثًا: أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْإِلَهِيَّةَ إِذَا وَقَعَتْ تَنْزِلُ عَامَّةً، فَيَهْلِكُ فِيهَا الْأَبْرِيَاءُ؛ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ: "خَسْفٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنْ يَذْهَبَ ضَحِيَّتَهُ الْمَجْبُورُ، وَابْنُ السَّبِيلِ، وَالْمُسْتَبْصِرُ، فَيَهْلِكُونَ جَمِيعًا، وَيَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَبْرِيَاءِ.

 

وَأَخِيرًا -عِبَادَ اللَّهِ- إِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ لَيَرَى فِي هَذِهِ الْكَوَارِثِ رِسَالَةً لَهُ فِي الْمُحَاسَبَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ، وَتَعْظِيمِ الْخَالِقِ -جَلَّ جَلَالُهُ سُبْحَانَهُ- فَعَالَمُ الْيَوْمِ يَعِجُّ بِالْمَصَائِبِ الْمُرَوِّعَةِ، وَالْحَوَادِثِ الْمُفْجِعَةِ، وَالْمِيتَةِ الْمُبَاغِتَةِ، مَصَائِبُ وَمَصَائِبُ تَتَخَطَّفُ الْبَشَرَ وَهُمْ مَشْغُولُونَ سَادِرُونَ، أَوْ فِي أَفْرَاحِهِمْ فَرِحُونَ.

الْمَوْتُ فِي كُلِّ حِينٍ يَنْشُرُ الْكَفَنَا *** وَنَحْنُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِنَا

 

جَنَائِزُ وَجَنَائِزُ أَهْلُهَا مِنَ الشَّبَابِ وَالْأَصِحَّاءِ وَلَيْسُوا مِنَ الشُّيُوخِ وَلَا السُّقَمَاءِ.

 

اللَّهُمَّ أَحْيِ قُلُوبَنَا مِنْ غَفْلَتِهَا وَرَقْدَتِهَا.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ جَمَعَ الْخَطَايَا مَعَ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ.

نَعُوذُ بِكَ سُبْحَانَكَ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ عَمِيَتْ بَصَائِرُهُمْ، فَغَرَّتْهُمُ الدُّنْيَا عَنِ الدِّينِ.

نَعُوذُ بِجَلَالِكَ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ قُلْتَ فِيهِمْ: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126].

 

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...

 

 

 

المرفقات

والإعصار رسل إنذار من الملك الجبار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات