الرياح جند من جنود الله

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الخلق والآفاق
عناصر الخطبة
1/كثرة الرياح والأتربة في هذا الزمان 2/الرياح آيات وحِكم 3/من أحكام الرياح وآدابه

اقتباس

يكثُر فيها هبوب الرياح والعواصف الشديدة؛ فتحمل تلك الرياح والعواصف أطنانَ الأتربةِ والغبار الخانقة، تعصفُ الريحُ فتملأ كل شيء بترابها، وتصلُ إلى كلِ شيءٍ بغبارِها؛ وإن أُحْكِمَتْ دونه المغاليق. فتتبدل الحياة؛ فالصدورُ بسببِها ضاقت، والأنفاسُ خُنقت، والأنوفُ زُكمت، والرؤية تدنت، والأشجار تَقَلَّعَت أو اغبرّت، والشمس...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102].

 

أيها الإخوة: نحن نمر بأيام يكثُر فيها هبوب الرياح والعواصف الشديدة؛ فتحمل تلك الرياح والعواصف أطنانَ الأتربةِ والغبار الخانقة، تعصفُ الريحُ فتملأ كل شيء بترابها، وتصلُ إلى كلِ شيءٍ بغبارِها؛ وإن أُحْكِمَتْ دونه المغاليق.

 

فتتبدل الحياة؛ فالصدورُ بسببِها ضاقت، والأنفاسُ خُنقت، والأنوفُ زُكمت، والرؤية تدنت، والأشجار تَقَلَّعَت أو اغبرّت، والشمس بحجاب الأتربة تدثرت، والبحار هاجت وماجت وتلاطمت، وبعض الطرق انقطعت، والكهرباء توقفت، وكثير من المصالح تعطلت، والمدارس أغلقت، وطوارئ المستشفيات ازدحمت، والجهات الأمنية استنفرت، الرحلات الجوية تأخرت، ونسبة الحوادث على الطرق ارتفعت؛ وأصبح الهواء النقي نادراً بل شبه مستحيل، وأخذت ذرات التراب تقتحم الأفواه والصدور عنوة وبلا استئذان!.

 

أحبتي: هذه حالنا عندما تعصف العواصف الترابية وتهيج الرياح؛ فهل تأملنا هذه الرياح؟ من الذي حركها وصرفها؟ ومن الذي جعل الهواء اللطيف يحمل هذه الكمية الكثيرة من الأتربة؟ بل مَن الذي أمدها بهذه القوة الهائلة التي تسقط الأشجار الضخمة، وتقلع الأسقف المؤقتة وأعمدة الكهرباء، وغيرها مما هو ثابت في الأرض أو غير ثابت؟ إنه الله، أجل إنه الله الخالق البارئ المصور، إنه القوي المتين، الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.

 

وفي السنوات الأخيرة كثر هبوب الرياح بأوقات متقاربة، وفي أزمنة لم يعتَدْ فيها أهل الحساب على هبوبها به، وربما اندفعت بقوة شديدة، فدمرت كل شيء أتت عليه بإذن ربها، حتى صارت بعض أيام العام غبارا دائماً.

 

أيها الإخوة: وفي هبوب الرياح وتصريفها آية، وله حكم وأحكام، وقد جاء في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك؛ فمن تلك الحِكَم:

أن الرياح آية من آيات الله -تعالى- يصرفها كيف يشاء، قال سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة:164].

 

قوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) بتحويلها من جهة إلى جهة، جنوبا وشمالا وشرقا وغربا وبين ذلك، وهي تارة باردة وأخرى حارة، وتارة تثير السحاب، وتارة تؤلف بينه، وتارة تلقحه، وتارة تدره، وتارة تمزقه وتزيل ضرره، وتارة تكون رحمة، وتارة ترسل بالعذاب؛ هذه الرياح هي التي تحمل السحابَ المسخرَ بين السماء والأرض الذي يطوي في رحمه آلاف الأطنان من المياه العذبة الزلال.

 

أحبتي: إن على كلِ مؤمنٍ أن يُلْقِي عن عقلِه بلادةَ الألفة والغفلةِ، وأن يستقبلَ مشاهدَ الكونِ وما يحدثُ فيه من ظواهرَ بحسٍ متجدد، ونظرةٍ مُسْتَطْلِعَةٍ، وقلبٍ ينوّرُه الإيمان؛ ولو سار المؤمن في هذا الكون كرائدِ الفضاءِ الذي يهبط فيه أول مرة، تَلْفِتُ عينَه كلُّ ومضةٍ، وتقرعُ سمعَه كلُ نَأْمةٌ، وتُوقظُ حسَه كلُّ حركة، وتَهْزُ كِيَانَهُ تلك الأعاجيبُ التي تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر لتجدَّدَ الإيمانُ في قَلْبِهِ ولم يَخْلَقْ.

 

فالإيمان المتولد بالنفس بعد هذه الرحلة الماتعة في الكون يشكل رؤية جديدة له، وينشئ إدراكاً جديدا للجمال فيه، ويحيي المؤمن حياة على الأرض في مهرجان من صنع الله آناء الليل وأطراف النهار؛ فهلّا بادرنا بذلك؟!.

 

ويقول شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ): "ولو أن الخلق اجتمعوا كلُهم على أن يصرفوا الريح عن جهتها التي جعلها الله عليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولو اجتمعت جميع المكائن العالمية النفاثة لتوجد هذه الريح الشديدة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولكن الله -عز وجل- بقدرته يصرفها كيف يشاء، وعلى ما يريد" ا.هـ.

 

ومن الحكم التي جعلها الله في الرياح: أنها تسوق السحاب الذي ينزل منه المطر، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)[الأعراف:57].

 

ومنها: أنها تُجْرِي السفن في الماء، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)[يونس:22].

 

ومنها: أنها تكون سبباً -بإذن الله- في عملية لقاح الأشجار وتخصيبها كما هو معروف عند الزراع، وهي لواقح للسحاب؛ لينزل المطر، قال تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)[الحجر:22]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (لَوَاقِحَ)؛ أي للشجر والسحاب.

 

وقد سخر الله -عز وجل- الريح لنبيه سليمان -عليه السلام- فكانت مطيعة له تشتدُّ إذا أراد، وتَلَين إذا أراد؛ كما قال تعالى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ)[ص:36]. وقوله: (حيثُ أصابَ)؛ أي: حيث قصد وأراد. وكون الريح جارياً بأمره قدرة عجيبة، وملك عجيب، وهَبَهُ اللهُ له -عليه السلام-.

 

وسخرها الله -عز وجل- لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- نُصرة له على أعدائه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا). [الأحزاب:9]، وذلك في غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة. (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً): هي الصَّبا؛ كما في الصحيح، وهي الشرقية، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم، ونزعت خيامهم.

 

وقد يجعل الله الريح عذابا وشؤما على قوم فيسلطها عليهم فتهلكهم وتسحقهم وتتلف أموالهم، فقد أهلك الله بها عاداً قوم هود -عليه السلام-، قال تعالى: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)[الذاريات:41]. والعقيم: التي لا خَير فيها ولا بَرَكة، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً؛ وإنما هي للإهلاك.

 

وقال سبحانه: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ)[القمر:19-20].

قال السعدي -رحمه الله-: "كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته الريح فسقط على الأرض؛ فما أهون الخلق على الله إذا عصوا أمره!".

 

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان".

 

أيها الإخوة: وقد سلط الله الرياح والعواصف على شعوب تعيش في هذا الزمان الحاضر، فأهلكتهم وسحقتهم، وأفسدت حياتهم، وخلفت آلاف القتلى والمفقودين والمشردين، ودمرت بلادهم وخسرتهم مئات المليارات خلال سويعات؛ بالرغم من الذي أوتوه من الإمكانات والقدرات المادية والتطور العلمي؛ وفي هذه المشاهد تتجلى قدرة الله وكمال قوته وشدة انتقامه وهوان الخلق وضعفهم أمام قوة الله.

 

جعلنا الله من المعتبرين، ووفقنا لتأمل الآيات، وزادنا من فضله؛ إنه جواد كريم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة: ومن الآداب التي أرشد إليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: إذا عصفت الريح، سُنّ للمسلم أن يقول ما حدثت به عَائِشَةُ -رضي الله عنها-، قالت: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَصَفَتْ الرِّيحُ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ؛ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ"(رواه مسلم).

 

وعَنْ سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اشْتَدَّتِ الرِّيحُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَقَحًا لا عَقِيمًا"(رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني وصححه الألباني).

لَقَحَاً: بها ماء، العقيم: بعكسها.. وإذا تعددت الأذكار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فالسنة أن يقول هذا تارة، وذاك تارة أخرى.

 

وأما حديث: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلا تَجْعَلْهَا رِيحًا" فهو حديث ضعيف جداً كما قال الألباني -رحمه الله-، فلا يُدعَى به، وما في الصحيح غنية عن الضعيف.

 

أيها الإخوة: ولا يجوز سب الريح؛ لحديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ"(رواه الترمذي وصححه الألباني).

 

وعن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ الرِّيحَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، [بفتح الراء: بمعنى الفَرَج والرحمة بعباده] تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ؛ فَلَا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا، وَاسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا"(رواه أحمد والبخاري بالأدب المفرد وغيرهما وصححه الألباني).

 

أيها الأحبة: وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إذا لاحت الريح في الأفق يُعرف ذلك في وجهه؛ فعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: "إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي" وَيَقُولُ، إِذَا رَأَى الْمَطَرَ: "رَحْمَةٌ"(رواه مسلم).

 

وكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاءِ [السَّحَابَة الَّتِي يُخَال فِيهَا الْمَطَر] أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَدَخَلَ وَخَرَجَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذَا أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَدْرِي! لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)[الأحقاف:24]".

 

أيها الإخوة: ومن الأحكام المهمة: جواز الجمع بين المغرب والعشاء إذا كانت الرياح شديدة وفيها غبار يتأثر به الإنسان ويشق عليه، قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله- في شرح الممتع، في فصل الجمع: "لكن لو فرض أن هذه الرياح الشديدة تحمل تراباً يتأثر به الإِنسان ويشق عليه فإنها تدخل في القاعدة العامة، وهي المشقة، وحينئذٍ يجوز الجمع".

المرفقات

الرياح جند من جنود الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات