الرقابة لمن؟!

علي بن عبد الخالق القرني

2022-10-11 - 1444/03/15 2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/ علم الله بكل شيء 2/ الخوف من الله المطلع على كل شيء 3/ ثمرة مراقبة الله 4/ الشهود يوم القيامة

اقتباس

يا مرتكبَ المعاصي مختفيًا عن أعينَ الخلق: أين الله؟! أين الله؟! ما أنت واللهِ إلا أحدُ رجلين: إن كنتَ ظننتَ أن اللهَ لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلمُ أنه يراك فلمَ تجترئ عليه، وتجعلَه أهونَ الناظرينَ إليك؟! (يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?لنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?للَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى? مِنَ ?لْقَوْلِ وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) ..

أما بعد: 

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ -جل وعلا-، وأن نقدمَ لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ، (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا) [آل عمران:30]، (يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [النحل:111]، (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَـارَى وَمَا هُم بِسُكَـارَى وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2].

يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) [النساء:42]، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّـالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [الفرقان:27].

يوم الحاقة، يوم الطامة، يوم القارعة، يوم الزلزلة، يوم الصاخة، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَـاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37].

ثم اعلموا -يا عباد اللهِ- أن رقابةَ البشرِ على البشرِ قاصرة، وأن رقابةَ المخلوقاتِ على بعضها قاصرة؛ البشرُ يغفل، والبشرُ يسهو، ينام، يمرض، يسافر، يموت، إذًَا فلتسقط رقابة المخلوقين ولتسقط رقابة الكائنات جميعَها، وتبقى الرقابةُ الكاملة، الرقابةُ المطلقة آلا وهي رقابةُ اللهِ -جل وعلا-.

باري البرايا منشئ الخلائق *** مبدعهـم بـلا مثال سابق
حـي وقيـوم فـلا ينام *** وجـل أن يشبـه الأنـام
فإنـه العلـي فـي دنـوه *** وإنه القريب جل في علّوه

لا إله إلا هو.

علمُ البشرِ، ما علمُهم؟! علمُ قاصر، ضعيف قليل. ما وراءَ هذه الجدران؟! نجهلُ منه الكثير ولا نعلمه، بل لا نعلمُ أنفسَنا التي بين جنبينا. لكن الله يعلم ذلك ويعلم ما هو أعلى من ذلك: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59]، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الأرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء) [آل عمران:5]. يعلم ما تسره الآن في سريرتك ومن بجوارك لا يعلم ذلك، يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مائة عام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات.

إنه العلم الكامل، إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم، العليم الخبير: (يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) [النحل:19]، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر:19]، يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء.

هو الذي يرى دبيب الذر *** في الظلمات فوق صم الصخر
وسامع للجهر والإخفات *** بسمعه الواسـع للأصـوات
وعلمه بما بدا ومـا خفي *** أحاط علمًا بالجلي والخفـي

(مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ) [المجادلة: 7].

رجلان من قريش يجلسان في جوف الليل، تحت جدارِ الكعبة، قد هدأت الجفون ونامت العيون، أرخى الليلُ سدوله، واختلط ظلامُه، وغارت نجومُه، وشاع سكونُه. قاما يتذاكران، ويخططان ويدبران، وظنا أن الحي القيوم لا يعلمُ كثيرًا مما يعملون.

استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله الذي يعلم ما يبيتونَ ما لا يرضى من القول.

تذاكرا مصابهما في بدر، فقال صفوان -وهو أحدُهم-: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير. فقال عمير: صدقت والله، لولا دَينُ عليّ ليس له قضاء، وعيالُ أخشى عليهم الضيعة، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله. صلى الله على نبينا محمد.

اغتنم صفوان ذلك الانفعال، وذلك التأثر وقال: عليّ دَينُك، وعيالُك عيالي، لا يسعُني شيءُ ويعجزُ عنهم. قال عمير: فاكتم شأني وشأنك لا يعلم بذلك أحد. قال صفوانُ: أفعل.

فقام عمير وشحذ سيفَه، وسمَّه، ثم انطلقَ به يغضُّ السير به إلى المدينة. وصل إلى هناك وعمرُ -رضي الله عنه-، أعني ابنَ الخطاب، في نفرٍ من المسلمين. أناخَ عمير على بابِ مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوشحًا سيفه. فقال عمر: عدو الله، والله ما جاء إلا لشر.

ودخل عمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بخبره. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أدخلُه علي". فأخذ عمرُ بحمائل سيفِ عُمير وجعلها له كالقلادة، ثم دخل به على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر: "أرسله يا عمر". ثم قال: "ما جاء بك يا عمير؟!"، وكان له ابنُ أسير عند رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: جئت لهذا الأسير، فأحسنوا به. قال -صلى الله عليه وسلم-: "فما بالُ السيفِ في عنقك؟!". قال: قبحها اللهُ من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا!! فقال -صلى الله عليه وسلم- وقد جاءه الوحيُ بما يضمرُه عمير: "اصدقني يا عمير، ما الذي جاء بك؟!". قال: ما جئت إلا لذاك. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "بل قعدت مع صفوان في الحجر في ليلة كذا، وقلت له: كذا، وقال لك: كذا وتعهد لك بدينك وعيالك، واللهُ حائل بيني وبينك".

قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ هذا أمر لم يحضُره إلا أنا وصفوان، واللهِ إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام.

جاء ليقتلَ النور ويطفئ النور، فرجعَ وهو شعلةُ نور اقتبسَه من صاحب النور -صلى الله عليه وسلم-.

عباد الله: سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة، في ظلمة الليل لا يعلمُ بها أحد حتى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لا يعلم الغيب، حُبكت المؤامرةُ سرًّا. من الذي أعلنها؟! من الذي سمعهما وهما يخططان ويدبران ويمكران عند باب الكعبة؟! إنه الذي لا يخفى عليه شيءُ في الأرض ولا في السماء.

كم تآمر المتآمرون في ظلام الليل!! كم من عدو للإسلام جلس يخطط لضرب الإسلام وحدَه أو مع غيره سرًّا، ويظن أنه يتصرفُ كما يشاء، متناسيًا أن الذي لا يخفى عليه شيءُ يسمع ما يقولون ويبطل كيدَهم، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين!!

يا أيها العبدُ المؤمن: إذا لقيت عنتًا ومشقة وسخرية واستهزاءً فلا تحزن ولا تأسَ، إن الله يعلم ما يقال لك قبل أن يقال لك، وإليه يرد كل شيء، لا إله إلا هو.

يا أيها المؤمن: إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستغشيت الثياب، وزاد الإصرار والاستكبار، وكثر الطعن وضاقت نفسك فلا تأسَ ولا تحزن، إن الله يعلم ويسمع ما تقول وما يقال لك؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11]، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ) [غافر:19].

يا أيها الشاب الذي وضع قدمَه على أول طريق الهداية، فسمع رجلاً يسخر منه، وآخر يهزأ به، وثالثًا يقاطعه، اثبت ولا تأسَ واعلم علم يقين أنك بين يدي الله يسمع ما تقول، ويسمع ما يقال لك، وسيجزي كل امرئ بما فعل.

(لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوتِ وَلاَ فِى الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ) [سبأ:3].

يا مرتكبَ المعاصي مختفيًا عن أعينَ الخلق: أين الله؟! أين الله؟! ما أنت واللهِ إلا أحدُ رجلين: إن كنتَ ظننتَ أن اللهَ لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلمُ أنه يراك فلمَ تجترئ عليه، وتجعلَه أهونَ الناظرينَ إليك؟! (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) [النساء:108].

يدخلُ بعضُ الناسِ غابةً ملتفة أشجارُها، لا تكادُ ترى الشمسَ معها، ثم يقول: لو عملتُ المعصيةُ الآنَ من كان يراني؟! فيسمعُ هاتفاً بصوت يملأ الغابة ويقول: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]. بلى والله.

فيا منتهكًا حرماتِ الله في الظلمات، في الخلوات، في الفلوات بعيدًا عن أعين المخلوقات: أين الله؟! هل سألت نفسكَ هذا السؤال؟!

في الصحيح من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: قالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأعلمنَ أقوامًا من أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بيضًا، يجعلُها اللهُ هباءً منثورًا". قال ثوبان: صفهم لنا، جلّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله، قال: "أما إنهم إخوانُكم ومن جلدتِكم، ويأخذون من الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها".

إلى من يملأ ليله وعينَه وأذنه، ويضيعُ وقتَه حتى في ثُلث الليل الآخر، يملأ ذلك بمعاصي الله: أين الله؟!

فقد روى الثقاةُ عن خيرِ المَلا *** بأنـه عـز وجـل وعـلا
فـي ثلثِ الليل الأخيرِ ينزلُ *** يقـول هل مـن تائبٍ فيقبلُ
هل من مسيء طالبٍ للمغفرة *** يجد كريمًا قابـلاً للمعـذرة
يمـن بالخيـراتِ والفضـائلْ *** ويسترُ العيب ويعطي السائلْ

فنسأله من فضله.

إن اللهَ لا يخفى عليه شيء، فهلا اتقيتَه يا عبد الله.

عمرُ بن الخطاب -رضي اللهُ عنه-، يعسُّ ليلةً من الليالي ويتتبع أحوال الأمة، وتعب فاتكأ على جدارٍ ليستريح، فإذا بامرأةٍ تقولُ لابنتها: امذقي اللبنَ بالماءِ ليكثرَ عند البيع. فقالت البنتُ: إن عمرَ أمرَ مناديه أن ينادي أن لا يشابُ اللبنَ بالماء. فقالتِ الأمُ: يا ابنتي: قومي فإنك بموضعٍ لا يراكِ فيه عمرُ ولا مناديه. فقالتِ البنتُ المستشعرةُ لرقابةَ الله: أي أماه: فأين الله؟! واللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملا، وأعصيه في الخلاء.

ويمرُ عمرُ أخرى بامرأة أخرى تغيّبَ عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله -عز وجل-، قد تغيَّبت في ظلمات ثلاث، في ظلمة الغربةِ والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، وإذا بها تنشد وتقول وتحكي مأساتها:

تطاول هذا الليل وازور جانبه *** وأرقنـي أن لا حبيب ألاعبـه
فوالله لولا الله لا رب غيـره *** لحرك من هذا السرير جوانبه

ما الذي راقبته في ظلام الليل وفي بعد عن زوجها، وفي هدأة العيون؟! والله ما راقبت إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. أنعم بها من مراقبة، وأنعم بها من امرأة!!

وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها كما أورد ابن رجب، ثم قال لها: ما يرانا أحد إلا الكواكب. فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟! أين الله يا رجل؟!

أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك إذ تبيت ما لا يرضى من القول؟!

أخيرًا اسمع لهذا الحدث ولم يقع في هذا الزمن، وإنما وقع في زمن مضى، لتعلم ثمرة مراقبة الله -عز وجل-، واستشعار ذلك الأمر.

رجل اسمه نوح بن مريم، كان ذا نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له ابنة غاية في الجمال، ذات منصب وجمال، وفوق ذلك صاحبة دين وخلق. وكان معه عبد اسمه مبارك، لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء. أرسلَه سيده إلى بساتين له، وقال له: اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها، وكن على خدمتها إلى أن آتيك.

مضى الرجل وبقي في البساتين لمدة شهرين، وجاءه سيده، جاء ليستجم في بساتينه، ليستريح في تلك البساتين. جلس تحت شجرة وقال: يا مبارك: ائتني بقطف من عنب. فجاءه بقطف فإذا هو حامض. فقال: ائتني بقطف آخر؛ إن هذا حامض. فأتاه بآخر فإذا هو حامض. قال: ائتني بآخر، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض. كاد أن يستولي عليه الغضب، وقال: يا مبارك: أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتني بقطف لم ينضج؟! ألا تعرف حلوه من حامضه؟! قال: والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته، والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة.

والذي لا إله إلا هو ما رقبتك، ولا رقبت أحدًا من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

أعجب به، وأعجب بورعه وقال: الآن أستشيرك، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن. وقد تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟! فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب، واليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، وعلى عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزوجون للدين والخلق، وعلى عهدنا هذا للمال والجاه، والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

أي نصيحة وأي مشورة؟!

نظر وقدر وفكر وتملى فما وجد خيرًا من مبارك، قال: أنت حر لوجه الله. أعتقه أولاً، ثم قال: لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت. قال: اعرض عليها. فذهب وعرض على البنت وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك. قالت: أترضاه لي؟! قال: نعم. قالت: فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فكان الزواج المبارك من مبارك. فما الثمرة وما النتيجة؟! حملت هذه المرأة وولدت طفلاً أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل، إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلّب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حيًّا بسيرته وذكره الطيب. إن ذلك ثمرة مراقبة الله -عز وجل- في كل شي.

أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة لصلح الحال، واستقامت الأمور.

فيا أيها المؤمن: إن عينَ اللهِ تلاحقُك أينما ذهبت، وفي أي مكان حللت، في ظلامِ الليل، وراء الجدران، وراء الحيطان، في الخلوات، في الفلوات، ولو كنتَ في داخلِ صخورٍ صُمٍّ، هل علمتَ ذلك واستشعرتَ ذلك فاتقيتَ اللهَ ظاهرًا وباطنًا، فكانَ باطنُك خيرًا من ظاهرِك؟!

إذا ما خلوت الدهرَ يومًا فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسـبنَ اللهَ يغفـلُ سـاعةً *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ

عباد الله: اتقوا اللهَ فيما تقولون، واتقوا الله فيما تفعلون وتذرون.

اتقوا الله في جوارحكُم، اتقوا اللهَ في مطعمِكم ومشربِكم، فلا تدخلوا أجوافَكم إلا حلالاً، فإن أجوافَكم تصبرُ على الجوعِ لكنها لا تصبرُ على النار.

اتقوا اللهَ في ألسنتِكم، اتقوا اللهَ في بيوتِكم، في أبنائِكم، في خدمكم، في أنفسكم. اتقوا اللهَ في ليلِكم ونهارِكم، اتقوا اللهَ حيثما كنتم؛ (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:
 

 

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

عباد الله: اعلموا علم يقينٍ أن اللهَ هو الرقيب، وأن الله هو الحسيب، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه.

هو الشهيدُ وكفى به شهيدًا، ومن حكمتِه -سبحانه وبحمده- أن جعل علينا شهودًا آخرين لإقامةِ الحجةِ حتى لا يكون للناس حجة، وتعدد الشهودُ علينا وكفى باللهِ شهيدًا، من هؤلاءِ الشهودِ:

رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، حيثُ يقول اللهُ -عز وجل-: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143]، (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) [النساء:42].

فرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- سيشهدُ على الأممِ وعلى هذه الأمة.

والملائكةُ أيضًا يشهدون وكفى باللهِ شهيدًا، قال اللهُ -عز وجل-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَاماً كَـاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:10-12].

ويقول -جل وعلا-: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:17-18]، فالملائكة أيضًا ستشهد، والكتابُ سيشهد، والسجلات ستفتح بين يدي الله فترى الصغيرَ والكبيرَ والنقيرَ والقطميرَ، تنظرُ في صفحةِ اليومِ الثامن من هذا الشهر فإذا هي لا تغادرُ صغيرةً ولا كبيرة، (وَوُضِعَ الْكِتَـابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَـاذَا الْكِتَـابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]، (وَكُلَّ إِنْسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَابًا يَلْقَـاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَـابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:13-14].

والأرضُ التي ذللها الله -عز وجل- لنا ستشهدُ بما عمل على ظهرها من خيرِ أو شر: (إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَـانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة:1-5].

ستحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر، بل إن هذه الأرض تحمل عاطفة، إذا مات المؤمن بكاه موضع سجوده، وبكاه ممشاه إلى الصلاة، وبكاه مصعد عمله إلى السماء.

وأما الذين أجرموا وكفروا ونافقوا: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَلأرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ) [الدخان:29].

والخلقُ أيضًا سيشهدون وكفى باللهِ شهيدًا، لطالما تفكه الإنسانُ بين هؤلاءِ الخلقِ بالوقوعِ في أعراضِ المسلمينَ بذكرِ ما سترَه اللهُ عليه، وما علم أن الخلق سيشهدونَ.

في الصحيح أن جنازة مرت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في نفر من أصحابه، فأثني عليها الناس خيرًا فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وجبت". وتمر أخرى فيثني عليها الناس سوءًا فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "وجبت". فيتساءل الصحابة، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "أثنيتم على الأولى بخير فوجبت لها الجنة، وعلى الثانية بسوء فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه، أنتم شهداء الله في أرضه".

وسيشهدُ ما هو أقربُ من هذا: ستشهدُ الجوارحُ؛ فـأيدٍ تشهد، وأرجل تشهد، وألسن تشهد، وجوارح تشهد: (لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [يس:65]، (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الُخَـاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُواْ فَلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت:19-24].

فاتقوا الله -يا عباد الله- واجعلوا هؤلاءِ الشهودِ جميعهم لكم لا عليكم، وبادروا أنفسَكم وأعمارَكم بالأعمالِ الصالحةِ قبل حلولِ الآجالِ وبقاءِ الحسراتِ.

أيا مَن يدّعي الفَـهْـمْ *** إلى كمْ يا أخا الوَهْـمْ
تُعبّي الـذّنْـبَ والـذنب *** وتُخْطي الخَطأ الجَـمّ
أمَا بانَ لـكَ الـعـيْبْ *** أمَا أنْـذرَكَ الـشّـيبْ
وما في نُصحِـهِ ريْبْ *** ولا سمْعُكَ قـدْ صـمّ
أمَا نادَى بكَ الـمـوتْ *** أمَا أسْمَعَك الصّـوْتْ
أما تخشَى من الفَـوْتْ *** فتَحْـتـاطَ وتـهـتـمْ
فكمْ تسدَرُ في السهْـوْ *** وتختالُ من الـزهْـوْ
وتنْصَبُّ إلى الـلّـهـوْ *** كأنّ الموتَ مـا عَـمّ
وحَـتّـام تَـجـافـيكْ *** وإبْـطـاءُ تـلافـيكْ
طِباعًا جمعـتْ فـيكْ *** عُيوبًا شمْلُها انْـضَـمّ
إذا أسخَطْـتَ مـوْلاكْ *** فَما تقْلَـقُ مـنْ ذاكْ
وإنْ أخفَقَ مسـعـاكْ *** تلظّيتَ مـنَ الـهـمّ
وإنْ لاحَ لكَ النّـقـشْ *** منَ الأصفَرِ تهـتَـشّ
وإن مرّ بك النّـعـشْ *** تغامَـمْـتَ ولا غـمّ
تُعاصي النّاصِحَ البَـرّ *** وتعْـتـاصُ وتَـزْوَرّ
وتنْقـادُ لـمَـنْ غَـرّ *** ومنْ مانَ ومـنْ نَـمّ
وتسعى في هَوى النّفسْ *** وتحْتالُ على الفَـلْـسْ
وتنسَى ظُلمةَ الرّمـسْ *** ولا تَـذكُـرُ مـا ثَـمّ
ولوْ لاحظَـكَ الـحـظّ *** لما طاحَ بكَ اللّـحْـظْ
ولا كُنتَ إذا الـوَعـظْ *** جَلا الأحزانَ تغْـتَـمّ
ستُذْري الدّمَ لا الدّمْـعْ *** إذا عايَنْتَ لا جـمْـعْ
يَقي في عَرصَةِ الجمعْ *** ولا خـال ولا عــمّ
كأني بـكَ تـنـحـطّ *** إلى اللحْدِ وتـنْـغـطّ
وقد أسلمَك الـرّهـطْ *** إلى أضيَقَ مـنْ سـمّ
هُناك الجسمُ مـمـدودْ *** ليستـأكِـلَـهُ الـدّودْ
إلى أن ينخَرَ الـعـودْ *** ويُمسي العظمُ قـد رمّ
ومنْ بـعْـدُ فـلا بُـدّ *** منَ العرْضِ إذا اعتُـدّ
صِراطٌ جَـسْـرُهُ مُـدّ *** على النارِ لـمَـنْ أمّ
فكمْ من مُرشـدٍ ضـلّ *** ومـنْ ذي عِـزةٍ ذَلّ
وكم مـن عـالِـمٍ زلّ *** وقال الخطْبُ قد طـمّ
فبادِرْ أيّها الـغُـمْـرْ *** لِما يحْلو بـهِ الـمُـرّ
فقد كادَ يهي العُـمـرْ *** وما أقلعْـتَ عـن ذمّ
ولا ترْكَنْ إلى الدهـرْ *** وإنْ لانَ وإن ســرّ
فتُلْفى كمـنْ اغـتَـرّ *** بأفعى تنفُـثُ الـسـمّ
وخفّضْ منْ تـراقـيكْ *** فإنّ المـوتَ لاقِـيكْ
وسارٍ فـي تـراقـيكْ *** وما ينـكُـلُ إنْ هـمّ
وجانِبْ صعَرَ الـخـدّ *** إذا ساعـدَكَ الـجـدّ
وزُمّ اللـفْـظَ إنْ نـدّ *** فَما أسـعَـدَ مَـنْ زمّ
ونفِّسْ عن أخي البـثّ *** وصـدّقْـهُ إذا نــثّ
ورُمّ العـمَـلَ الـرثّ *** فقد أفـلـحَ مَـنْ رمّ
ورِشْ مَن ريشُهُ انحصّ *** بما عمّ ومـا خـصّ
ولا تأسَ على النّقـصْ *** ولا تحرِصْ على اللَّمّ
وعادِ الخُلُـقَ الـرّذْلْ *** وعوّدْ كفّـكَ الـبـذْلْ
ولا تستمِـعِ الـعـذلْ *** ونزّهْها عنِ الـضـمّ
وزوّدْ نفسَكَ الـخـيرْ *** ودعْ ما يُعقِبُ الضّـيرْ
وهيّئ مركبَ الـسّـيرْ *** وخَفْ منْ لُـجّةِ الـيمّ
 

 

 

 

المرفقات

لمن؟!

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات