الرفق خلق كريم

أحمد عماري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ المقصود بالرفق وأهميته 2/ خطر العنف والتحذير منه 3/ نماذج رائعة في الرفق 4/ بعض مجالات العنف 5/ فوائد الرفق وثماره

اقتباس

هو رأس الحِكمة، ودليل كمالِ العقل وقوّة الشخصية والقدرةِ القادرة على ضبطِ التصرّفات والإرادات واعتدال النظر، ومظهرٌ عجيبٌ من مظاهر الرشد، بل هو ثمرةٌ كبرى من ثمار التديُّن الصحيح. فيه سلامةُ العِرض، وصفاءُ الصدر، وراحةُ البدن، واستجلاب الفوائِد وجميلِ العوائد، ووسيلةُ...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

حديثنا اليوم عن خُلق عظيم من أخلاق الإسلام الراقية؛ مع صِفةٍ عظيمة جامِعة لمكارِم الأخلاقِ، ضابطة لحسن السّلوك.

صِفةٌ طالما تحدَّث الناس عنها، واستحسنتها نفوسهم، وامتدحوها في منتدياتهم، ولكنّها السلوكُ الغائب، والخلُق المفقود لدى كثير من الناس، بل إنها غائبةٌ عند بعض الناس حتى في أنفسهم، ناهيكم بمن حولهم من الأهل والأقربين.

 

صفةٌ كريمة، وخلُق جميل، فيه سَلامةُ العِرض، وراحةُ الجسَد، واجتلابُ المحامد.

 

خلُقٌ من أشهَر ثمارِ حُسن الخلق وأشهاها، ومن أظهر مظاهِر جميل التعاملات وأبهاها، خلُقٌ يقول فيه نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا كَانَ في شيءٍ إلا زَانَه، وَمَا نُزِعَ مِنْ شيءٍ إلا شَانَه"؛ إنه الرّفقُ.

 

فما أحوج المسلم إلى الرفق في قوله وفعله، في سلوكه ومعاملته، مع أهله وأقاربه، مع أصدقائه وأحبابه، مع الصغار والكبار، مع الذكور والإناث، مع الإنسان ومع سائر الكائنات.

 

ما أحوجنا إلى الرفق واللين في زمن كثرت فيه مظاهر العنف والقسوة والغلظة والجفاء، في البيوت والشوارع والأسواق والمؤسسات والملاعب والأندية، وغير ذلك من الأماكن العامة والخاصة.

 

الرفق تحكُّمٌ في هوى النفس ورغباتها، وحَملٌ لها على الصبرِ والتحمُّل والتجمُّل، وكفٌّ لها عن العنف والتعجُّل، وكظمٌ عظيم لما قد يلقَاه من تطاوُل في قولٍ أو فعل أو تعامل.

 

الرفق -حفظكم الله- لين الجانب، ولطافةُ الفعل، والأخذُ بالأيسر والأسهل، وأخذٌ للأمور بأحسن وجوهها وأيسرِ مسالكها.

 

هو رأس الحِكمة، ودليل كمالِ العقل وقوّة الشخصية والقدرةِ القادرة على ضبطِ التصرّفات والإرادات واعتدال النظر، ومظهرٌ عجيبٌ من مظاهر الرشد، بل هو ثمرةٌ كبرى من ثمار التديُّن الصحيح.

 

فيه سلامةُ العِرض، وصفاءُ الصدر، وراحةُ البدن، واستجلاب الفوائِد وجميلِ العوائد، ووسيلةُ التواصل والتوادّ وبلوغِ المراد.

 

وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في تعامله وخلقه؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ، إِنْ قِيدَ انْقَادَ، وَإِنْ أُنِيخَ عَلَى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ".

 

أيّها المسلمون: الرفقُ سلوكٌ كريم في القول والعملِ، وتوسّطٌ في المواقف، واعتدالٌ وتوافق، واختيارٌ للأسهل والألطف.

 

الرفق في الأمور كلها من شأنه أن يُصلح ويعطي أفضل النتائج، بخلاف العنف فمِن شأنه أن يفسد ويعطي أسوأ النتائج، فمن أعطي الرفق فقد أعطي خيرا كثيرا، ومن حرم من الرفق فقد فقدَ خيرا كثيرا.

 

وحسْب المسلم أن يعلم أن الرفق من صفات الله -تعالى- العليا التي أحبها لعباده في الأمور كلها؛ ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ".

 

فربّنا عزَّ شأنه رفيق بخلقِه، رؤوف بعباده، كريم في عفوه، رفيقٌ في أمره ونهيه، لا يأخذ عبادَه بالتكاليف الشاقّة، ولا يكلفهم بما ليس له به طاقة؛ قال سبحانه:  (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]، (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7]، (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].

 

قال ابن القيم -رحمه الله- في "الوابل الصيب": "من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحمَهمْ رحمَه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله -تعالى- لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه".

 

والرفق خلق نبوي كريم حث عليه النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، وبين فضله وقيمته، في صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ اليَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، قَالَ: "وَعَلَيْكُمْ" فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ، أَوِ الفُحْشَ" قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: "أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ", وأخرج الترمذي والبيهقي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ".

 

لو سار ألفُ مَدَجَّجٍ في حاجة *** لم يَقْضِها إلا الذي يترفق

 

قال أَبُو حاتم -رحمه الله-: "الواجب على العاقل لزوم الرفق في الأمور كلها، وترك العجلة والخفة فيها، إذ اللَّه -تعالى- يحب الرفق في الأمور كلها، ومن مُنِع الرفقَ مُنِع الخير، كما أن من أعطِيَ الرفق أعْطِيَ الخير، ولا يكاد المرْء يتمكن مِن بُغيته في سلوك قصده في شيء من الأشياء على حسب الذي يحب إلا بمقارنة الرفق ومفارقة العجلة"، وقال أيضاً: "العاقل يلزم الرفق في الأوقات والاعتدال في الحالات؛ لأن الزيادة على المقدار في المبتغى عيب، كما أن النقصان فيما يجب من المطلب عجز، وما لم يصلحه الرفق لم يصلحه العنف، ولا دليل أمهر من رفق، كما لا ظهير أوثق من العقل، ومن الرفق يكون الاحتراز، وفي الاحتراز ترجى السلامة، وفي ترك الرفق يكون الخرق، وفي لزوم الخرق تخاف الهلكة" (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لمحمد بن حبان البستي).

 

الرفق ممن سيلقى اليمنَ صاحبُه *** والخرْقُ منه يكون العنفُ والزلل

والحزم أن يتأنى المرء فرصتَه *** والكفُّ عنها إذا ما أمْكنت فشلُ

 

إياكم والعنف فإنه يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، ويفرق ولا يجمع.

 

مِن الناس مَن امتلأ قلبه قسوة وشدة، يَعَنّف، ويدمر، ويخرب، ويسعى في الأرض بالفساد، عنيف في قوله، عنيف في فعله، عنيف في أخذه وعطائه: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة: 205 - 206].

 

يظنّ الرفقَ ذِلّة، والرحمة ضعفًا، والأناة كسَلا، والمداراة نفاقًا، واللطفَ غَفلة.

 

ويظنّ الفظاظة رجولة وحزمًا، والقساوة قوة، والتشدّد تمسّكًا والتزامًا، وهل هذا إلا انقلاب في المفاهيم، وسوء في الفهم، وغَلط في الإدراك؟!

 

إياكم والعنف بأذيّة الآخرين أو بتخويفهم وترويعهم؛ فإن أذيّة المسلم حرام، وتخويفه وترويعه حرام، روى الإمام أحمد وأبو داود والبيهقي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلمَ- أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا"، وفي صحيح مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ".

 

وعليكم بالرفق فإن النفس البشرية تميل إلى الرفق، ولين الجانب، وطيب الكلام، وتأنس به، وتنفر من الغلظة والفظاظة والخشونة والعنف.

 

ورافق الرفق في كل الأمور فلم *** يندم رفيق ولم يذممه إنسان

ولا يغرنك حظ جره خرق *** فالخرق هدم ورفق المرء بنيان

 

رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- هو المثلُ الأعلى والأسوةُ الأولى في أفعالِه وأقوالِه ومعاملاتِه رِقّةً وحُبًّا وعطفا ورِفقًا؛ فلقد امتنّ ربنا -جلّ وعلا- على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلمَ- بأن جَبَله على الرفق ومحبة الرفق، وبأن جنّبه الغلظة، والفظاظة، فقال عز وجل: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].

 

ولقد كانت سيرته عليه الصلاة والسلام حافلةً بهذا الخلق الكريم، فكان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- رفيقاً هيناً ليناً سهلاً في تعامله وفي أقواله وأفعاله، وكان يحب الرفق، ويحث الناس عليه، ويرغّبهم فيه، يقول أنس -رضي الله عنه-: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ"، وعنه رضي الله عنه قال: قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ"، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى "نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ"، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، "فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ" (متفق عليه).

 

وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- (أي بعيرا كان له عليه) فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: "دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًا، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ" وَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: "اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً".

 

عبادَ الله: ما أحسنَ الإيمان يزينُه العلم! وما أحسَن العلم يزينه العمَل! وما أحسن العمَل يزينه الرفق! وما أضيفَ شيء إلى شيء مثل حِلم إلى عِلم، ومَن حَلُم ساد، ومَن تفهَّم وتأنَّ ازداد، ومن زرَع شجرةَ الرفق حصَد ثمرة السلامة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ؟ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ" (أخرجه الترمذي والطبراني).

 

فعلى المسلم أن يكون رفيقاً بإخوانه، رحيماً بهم، يغفر زلاتهم، ويعفو عن إساءتهم، يرحم ضعيفهم، ويوقر كبيرهم، ولا يشق عليهم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

مرة أخرى مع خلق الرفق؛ لعلنا نتخلق بهذا الخلق الكريم، ولعلنا نتخلى عن خلق العنف والقسوة والغلظة؛ فإن مشاكل المجتمع ما تفاقمت وتكاثرت إلاّ بسبب انتشار العنف والقسوة، وغياب خلق الرفق واللين. فأصبح الكل يشتكي من العنف المنتشر في كل ميدان؛ الأستاذ يشتكي، والأبناء يشتكون، والآباء يشتكون، والأزواج يشتكون، والجار يشتكي، والتجار يشتكون، والعمال يشتكون، فأين الرفق؟ وأين اللين؟ وأين الصبر؟ وأين الحكمة في معالجة الأمور؟

 

فما أجمل الرفق، وما أجمل أهله. وما أحوج الناس اليوم إلى التعامل فيما بينهم برفق ولين في كل شؤون الحياة؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى" (أخرجه البخاري).

 

فالرفقِ ليست له حدودٌ تقيِّده، ولا مجالٌ يحصُره، فالإسلام يدعو إلى الرفق في كل مجالات الحياة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ".

 

دين يدعو إلى الرفق في مجال التربية والتعليم، ويدعو إلى الرفق بالمسيء، يدعو إلى الرفق بالأقارب، ويدعو إلى الرفق بالأباعد، يدعو إلى الرفق بالإنسان، ويدعو إلى الرفق بالحيوان.

 

فما أحوج الدعاةَ والمربّين إلى أن يلتزموا بالرفق في مجال الدعوة والتربية والتعليم.

 

ولقد رسم القرآن الكريم منهج الإسلام في الدعوة إلى الله بقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125].

 

فبالرفق والتيسير واللين والسماحة تُفتَح مغاليق القلوب، وتكون التربية ويكون التعليم، لا بالعنف والتعسير والشدة والمؤاخذة، ولكن بالتيسير والتبشير؛ وهذا هو هدي نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ-، وهذه هي وصيته؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: "بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا".

 

ولما أرسل الله -عز وجل- موسى وهارون -عليهما السلام- إلى فرعون وهو من هو في ظلمه وطغيانه وتجبره ومعاداته الحق وأهله، قال عز وجل: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 43 - 44].

 

ذلك أن الناس ينفرون بطبائعهم من الفظاظة والخشونة والعنف، ويألفون الرقة واللين والرفق، ولذا قال ربنا -سبحانه وتعالى- لنبيه الكريم: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].

 

فمُحال أن يأتي الإصلاح بعنف، ومحال أن يكون التغيير إلى الخير بالشدة والعنف؟ فالدعوة تحتاج إلى رفق، والنصيحة تحتاج إلى رفق، والتعليم يحتاج إلى رفق، والتربية تحتاج إلى رفق، وهذا هو منهج حبيبنا المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ- في معالجة الأمور، ومواجهة الأحداث، وتهذيب النفوس، وتربية الأجيال، وتعليم الجاهل، وتنبيه المسيء، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ".

 

وفي صحيح مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي (أيْ: مَا نَهَرَنِي) وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي، قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ".

 

وروى مسلم في صحيحه عن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا؛ فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي -قَالَ- فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ؛ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟". قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

 

وفي صحيح مسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ: كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ، -قَالَ- فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ لِي: "أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟". قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلاَّ الْخَيْرَ. قَالَ: "فَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ". قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. -قَالَ- فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ؛ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ". قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ: "كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا". قَالَ: "وَاقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ". قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ". قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ". قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ ـ أي زائرك ـ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا". قَالَ: فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ. قَالَ: وَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: "إِنَّكَ لاَ تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمْرٌ". قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-.

 

أحق الناس برفقك: أبوك وأمك؛ فوصية الله إليك: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23 - 24].

 

وأحق الناس برفقك: زوجتك؛ وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- لك: "استوصوا بالنساء خيرا".

 

وأحق الناس برفقك: أبناؤك وبناتك؛ ففي الصحيحين عن عُمَرَ بْن أَبِي سَلَمَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- (أي في تربيته وتحت رعايته) وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ" فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ (أي صفة أكلي وطريقتي فيه بعد أن علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-)، وكم منا من يحفظ هذا الحديث ويتعمد أن يأكل أو يشرب بشماله؟ فأين السنة؟ وأين الاقتداء؟

 

فمن الواجب على الآباء والمربين: أن يغرسوا خلق الرفق في نفوس الأبناء والتلاميذ، فهم في حاجة إلى الرفق في مؤسساتهم، وبيوتهم، وشوارعهم.

 

مع الوالدين والأساتذة، والجيران، والأصحاب، والكبار والصغار، فظاهرة العنف قد انتشرت في صفوف الشباب، فلم يسلم من عنفهم قريب ولا بعيد، ولا صغير ولا كبير.

 

المسيء يحتاج إلى رفق، والمخطئ يحتاج إلى رفق، والمتعلم يحتاج إلى رفق، ففي صحيح البخاري عن المَعْرُور بْن سُويْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ الغِفَارِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: "أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"، وعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ -رضي الله عنهما- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ: "اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً" (أخرجه أبو داود والبيهقي)، وروى أبو يعلى والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- فَقَالَ: إِنَّ خَادِمِي يُسِيءُ وَيَظْلِمُ، أَفَأَضْرِبُهُ؟ قَالَ: "تَعْفُو عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً" (صحيح الترغيب).

 

الإسلام يدعو إلى الرفق بالمَدِين المعسر، قال سبحانه: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون) [البقرة: 280]، ففي صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ. فَقَالَ: آللَّهِ ؟ قَالَ: آللَّهِ. قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ".

 

حتى الحيوان لم يحرم حظه من دعوة الإسلام إلى الرفق به والإحسان إليه، أخرج الحاكم بسند صحيح على شرط البخاري عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: أن رجلا أضجع شاة يريد أن يذبحها، وهو يحدّ شفرته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "أتريد أن تميتها موتاتٍ؟ هلا حدَدْتَ شفرتك قبل أن تُضجِعها".

 

وأخرج أبو داود والبيهقي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ-، قَالَ: "إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَتَكُمْ".

 

وأخرج أبو داود في سننه عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ -رضي الله عنه- قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، فَقَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا وَكُلُوهَا صَالِحَةً"، وفي صحيح مسلم عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ".

 

عليكم بالرفق فإنه خلق عظيم، نتائجه عظيمة، وفوائده كثيرة؛ ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ".

 

الرفق زينة كل شيء؛ ما حل في شيء إلا زانه وجمله وحبّبه إلى النفوس والأبصار، وما نزع من شيء إلا شانه ونفر منه القلوب والأرواح؛ ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ".

 

بالرفق بالعباد يُنال الرفقُ والتجاوز من الله؛ ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول في بيتي هذا: "اللهمّ مَن وليَ مِن أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومَن وليَ مِن أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به"، وفي صحيح مسلم عن حذيفة -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لاَ. قَالُوا: تَذَكَّرْ. قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، - قَالَ - قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: تَجَوَّزُوا عَنْهُ".

 

الرفق هو الخير كله من أوتيه فقد حاز الخير كله، ومن حرمه حرم الخير كله؛ فقد أخرج الترمذي والبيهقي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ"، وفي صحيح مسلم عَنْ جَرِير بن عبد الله البجلي عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ"، وأخرج الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ ارْفُقِي، فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْراً دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ"، وفي رواية: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ".

 

الرفق طريق إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار؛ فقد أخرج الترمذي في سننه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ".

 

وأخرج أحمد ومسلم عن عياض بن حمار المجاشعيّ -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال ذات يوم في خطبته: "أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ" ثم قال: "وأهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسطٌ متصدّقٌ موفّقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكلّ ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفّف ذو عيال".

 

خُذِ الأمورَ برفق واتئد أبدا *** إياك مِن عَجلٍ يدعو إلى وصَبِ

الرفقُ أحسن ما تؤتى الأمور به *** يُصيبه ذو الرفق أو ينجو من العطب

 

عباد الله: ارفُقوا بآبائكم وأمهاتكم وزوجاتكم، وارفقوا بأبنائكم وبناتِكم وجيرانكم؛ أحسِنوا الصحبة، ولينوا في المعاملة.

 

ترفَّقوا بالخدمِ والعمّال، ولا تكلِّفوهم ما لا يطيقون، وأحسِنوا مخاطبتَهم ومعاملتهم، ارفُقوا وترفَّقوا؛ فالرفقُ والإحسان أسرعُ قبولا، وأعظمُ أثرًا، وأكثر أجرا.

 

فاللهم اجعلنا من عبادك الصالحين؛ أهل الرفق والخير والمعروف والإحسان.

 

وفقنا يا رب لكل قول وعمل وخلق يُرضيك وترضى به عنا يا رب العالمين.

 

 

المرفقات

خلق كريم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات