الرحم شجنة من العرش

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ كثرة التقاطع بين الأقارب هذا الزمان 2/منهم الأرحام الذين يجب صلتهم 3/وسائل صلة الرحم والإحسان إلى القربى 4/أدلة صلة الرحم من القرآن والسنة 5/التحذير من قطيعة الرحم 6/ما أفضل صور البر والصلة؟ 7/فضائل صلة الأرحام وثمراتها.

اقتباس

صلة الأرحام تقوي المودة، وتزيد المحبة، وتوثق عرى القرابة، وتزيل العداوة والشحناء، وهي ذات مجالات شتى, فمن بشاشة عند اللقاء، ولين في المعاملة، إلى طيب في القول، وطلاقة في الوجه, إنها زيارات وصلات, وتفقد واستفسارات, ومكالمة ومراسلات، وإحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا، وينظم إلى ذلك غضّ عن الهفوات، وعفو عن الزلات...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أُخرجت للناس، ومنَّ علينا بلباس الإيمان خير لباس، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة سيد الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الفضل والإنعام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله بدر التمام ومسك الختام، وخير من عمل بالدين وقام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحابته الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعةٍ ضلالة.

 

إننا -أيها المسلمون- نعيش في عصر اهتم كل فرد بمصلحته الخاصة، تقطعت فيه الروابط والصلات، وانشغل فيه الابن عن أبيه، وقاطع القريب قريبه، وصار همّ كل إنسان نفسه، ولم يكن هذا هو شأن المجتمع المسلم في عهد من سلف من صالحي هذه الأمة الراشدة.

 

وهذا -يا عباد الله- إن وقع في مجتمعات الذين لا يرجون لله وقاراً، فكيف يمكن أن يسوغ ذلك في المجتمعات المؤمنة، وبين المسلمين الذي يخشون الله ويرجون ما عنده رزقاً في الدنيا وفلاحاً وصلاحاً في الآخرة؟!.

 

يا عباد الله: الاعتراف بالواقع طريق الوصول إلى الحل, ألسنا نرى كثرة التقاطع في مجتمعاتنا بين الأقارب إخواناً، أو أبناء عمومة؟ ما هذا -يا عباد الله-؟ كلٌّ يشكو أقاربه!, هذا يشكو, وهذا يشكو, كأننا لا نتلو كتاب الله، ولا نقرأ سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ولا ندرس سيرته!!.

 

ولا يخفى عليك -أخي الكريم- أن الدعوة إلى صلة الأرحام مما جاءت به الشريعة الخاتمة، فقد أمر الله بصلة الأرحام ووصى بها عباده المؤمنين، وحث عليها، وبيّن ما يترتب عليها من خيري الدنيا والآخرة كما حث عليها نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- مبينًا جزاءها وثمرة الصلة وما أعده الله للواصلين من الخير العظيم والثواب الجزيل، وما يترتب على ذلك من سعة الرزق وطول العمر والبركة في المال والولد.

 

لقد قضى الله بالسعادة والخيرية والفلاح في الدنيا والآخرة لمن يصلون أرحامهم ويقومون بحقوقهم, قال تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [الروم: 38]. وقال -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) وصلة الأرحام مما أمر الله بأن يوصل، ونهى عن أن يُقطع.

 

لقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- من سأله عن شيء يقربه من الجنة ويباعده عن النار بأن يصل رحمه، فعن أبي أيوب -رضي الله عنه-: "أن أعرابيًّا عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها, ثم قال: يا رسول الله أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني عن النار، قال: فكف النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم نظر في أصحابه، ثم قال: لقد وُفِّقَ أو هُدِيَ، قال: كيف قلت؟ قال فأعادها فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم. دع الناقة" وفي رواية "وتصل ذا رحمك" فلما أدبر قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة" [مسلم(13)].

 

واعلم -أخي الفاضل- أن من أفضل صلة الرحم: أن تصل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتحلم عمن جهل عليك، وتحسن إلى من أساء إليك؛ حفاظاً على صلة الرحم، وطاعة لله ورسوله. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن كنت كما قلت فكأنما تسفِّهم الملَّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك" [مسلم(2558)].

 

وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلم الذي يصل أرحامه وهم يقابلونه بالإساءة؛ بأن يواصل ويداوم على صلتهم، فعن عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال: لقيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؛ فقال: "يا عقبة، صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك".[ صحيح الترغيب للألباني (2536) وقال: صحيح لغيره].

 

وهنا تجدر الإشارة إلى خطأ يقع فيها بعض الناس، إذ يظنون أن الأرحام هم أهل الزوجة، بل الأرحام هم جميع الأقارب من جهة الأب أو من جهة الأم. وبالتواصل بين الأقارب يصلح المجتمع ويسوده الإخاء، وبتواصلهم تصلح الأمم وتعمها الرخاء، ومن لم يكُ نافعاً لأقاربه فمع غيرهم من باب أولى ألا ينفع. ولذلك رفع الله -جل شأنه- من فضيلة صلة الرحم.

 

عباد الله: من عظيم ما أتى به الإسلام أن الأسرة فيه لا تقف عند حدود الوالدين وأولادهما، بل تَتَّسع لتشمل ذوي الرحم وأُولِي القربى من الإخوة والأخوات، والأعمام والعمَّات، والأخوال والخالات، وأبنائهم وبناتهم, فهؤلاء جميعًا لهم حقُّ البِرِّ والصِّلَة التي يحثُّ عليها الإسلام، ويَعُدُّهَا من أصول الفضائل، ويَعِدُ عليها بأعظم المثوبة، كما يَتَوَعَّدُ قاطعي الرحم بأعظم العقوبة، فمَنْ وَصَلَ رحمه وَصَلَهُ الله، ومَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ الله.

 

وقد وضع الإسلام من الأحكام والأنظمة ما يُوجِبُ دوام الصلة قوية بين هذه الأسرة المُوَسَّعة، بما فيها الأقارب، بحيث يَكْفُلُ بعضهم بعضًا، ويأخذ بعضهم بِيَدِ بعضٍ، كما يُوجب ذلك نظام النفقات، ونظام الميراث، ونظام (العاقلة)؛ ويُرَادُ به توزيع الدِّيَةِ في قتل الخطأ وشبه العمد على عَصَبَةِ القاتل وأقاربه.

 

ولقد أمر الله بالإحسان إلى ذوي القربى, وهم الأرحام الذين يجب وصلهم، فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [البقرة: 83].

 

عباد الله: وَصِلَةُ الرحم تعني الإحسان إلى الأقربين، وإيصال ما أمكن من الخير إليهم، ودفع ما أمكن من الشرِّ عنهم؛ فتشمل زيارتهم والسؤال عنهم، وتَفَقُّدِ أحوالهم، والإهداء إليهم، والتصدُّق على فقيرهم، وعيادة مرضاهم، وإجابة دعوتهم، واستضافتهم، وإعزازهم وإعلاء شأنهم، وتكون أيضًا بمشاركتهم في أفراحهم، ومواساتهم في أتراحهم، وغير ذلك ممَّا من شأنه أن يزيد ويُقَوِّيَ من أواصر العَلاقات بين أفراد هذا المجتمع الصغير.

 

فهي إذن باب خير عميم, فيها تتأكَّد وَحْدَة المجتمع الإسلامي وتماسكه، وتمتلئ نفوس أفراده بالشعور بالراحة والاطمئنان, إذ يبقى المرء دومًا بمنأى عن الوَحْدَة والعُزْلَة، ويتأكَّد أن أقاربه يُحِيطُونَه بالمودَّة والرعاية، ويمدُّونه بالعون عند الحاجة.

 

وقد وردت أدلة كثيرة ومستفيضة حول صلة الرحم والإحسان إلى القربى، قال تعالى: (يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة: 215]. وقال -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال:74-75]. وقال -تبارك وتعالى-: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) [الإسراء: 27]، وقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].

 

ومن السُّنة ما صح عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أخبرني بعمل يُدخلني الجنة. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعبد الله، ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم" [البخاري (1396) واللفظ له، ومسلم (14)]. ومن حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "إن الرحم شُجْنةُ متمِسكة بالعرش تكلم بلسان ذلَق، اللهم صلْ من وصلني واقطعْ من قطعني، فيقول -تبارك وتعالى-:  أنا الرحمن الرحيم، وإني شققت للرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن نكثها نكثه" [البخاري (5988)].

 

ويوصي النبي -صلى الله عليه وسلم- بدوام الصلة، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال: "أوصاني خليلي أن لا تأخذني في الله لومةُ لائم، وأوصاني بصلة الرحم وإن أدبرتْ" [رواه أحمد (21453) وصححه الألباني].

 

صلة الرحم ما أكثر فوائدها وما أعظم ثمارها مما يلمسه العبد عاجلا في حياته، ويحس به في عيشه ورزقه، ناهيك عما لا يعلم به الواصل مما خفي من النعم ورفع من النقم، وما ادخره الله له في الآخرة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال النبي  -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ لَـهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" [البخاري (5986)، واللفظ له، ومسلم (2557)].

 

وقد فَسَّرَ العلماء الزيادة في العمر بأنها بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك. وقيل: إن معنى زيادة العمر وبسط الرزق أن يبارك الله في عمر الإنسان ورزقه فيعمل في وقته ما لا يعمله غيره فيه. وقيل: إن معنى زيادة العمر وبسط الرزق على حقيقتها فيزيد الله في عمره ويزيد في رزقه، ولا يشكل على هذا أن الأجل محدود والرزق مكتوب فكيف يزاد؟ وذلك لأن الأجل والرزق على نوعين: أجل مطلق يعلمه الله وأجل مقيد, ورزق مطلق يعلمه ورزق مقيد, فالمطلق هو ما علمه الله أنه يؤجله إليه أو ما علمه الله أنه يرزقه فهذا لا يتغير, والثاني يكون كتبه الله وأعلم به الملائكة فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب. [مجموع فتاوى ابن تيمية 8/517 - 540].

 

عباد الله: إن صلة الرحم من أوائل ما شرع من الفضائل التي جاءت في صدر دعوة النبي عليه -الصلاة والسلام-، فعن عبدا لله بن سلام -رضي الله عنه- قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، انجفل الناس قِبَلهُ. وقيل: قد قدم رسول لله -صلى الله عليه وسلم، قد قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قد قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً، فجئت في الناس لأنظُرَ فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعتهُ تكلم به أن قال: "يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" [الألباني في الصحيحة (456)].

 

لقد كانت صلة الرحم علامة على إيمان العبد بربه، وبرهان على تصديقه باليوم الآخر، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" [البخاري (6138) واللفظ له، ومسلم (47)].

 

عباد الله: وفي المقابل فقد جاءت النصوص الصريحة بالتحذير من قطيعة الرحم، وَعَدِّها ذنبًا عظيمًا؛ إذ إنها تفصم الروابط بين الناس، وتُشِيعُ العداوة والبغضاء، وتعمل على تَفَكُّكِ التماسُكِ الأُسَرِيِّ بين الأقارب, فقال الله تعالى محذرًا مِنْ حلول اللعنة، وعمَى البصرِ والبصيرة: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد: 23].

 

وحذر -سبحانه- عباده من قطع الأرحام، فقال: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد: 25].

 

وجعل الله -سبحانه- صِلَةَ الرحم سببًا يوجب صِلَتَه -سبحانه- للواصل، وتتابع إحسانه وخيره وعطائه عليه، وذلك كما دَلَّ الحديث القدسي عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعتُ رسول الله يقول: "قال الله: أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ" [السلسلة الصحيحة (520)]. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله" [البخاري (5989) ومسلم (2555)].

 

عباد الله: إن قطيعة الرحم يعني عدم قبول الأعمال عند الله, فيا حسرة قوم قدموا أعمالا فلم ترفع لهم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أعمال بني آدم تُعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم" [حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2538)].

 

لقد أمر الله بصلة الأرحام، والبر بهم والإحسان إليهم، ونهى وحذر عن قطيعتهم والإساءة إليهم، وعدَّ -صلى الله عليه وسلم- قطيعة الأرحام مانعاً من دخول الجنة مع أول الداخلين، ومُصْلٍ للمسيئين لأرحامهم بنار الجحيم، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" [صحيح الترغيب للألباني (2539) وقال: صحيح لغيره]. وقطع الرحم سبب من أسباب منع العبد من دخول الجنة، فعن جبير بن مطعم أن رسول الله قال: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ". وقَطْعُ الرَّحِمِ هو تَرْكُ الصِّلَةِ والإحسان والْبِرِّ بالأقارب, والنصوصُ كثيرة ومتضافرة على عِظَمِ هذا الذنب.

 

عباد الله: ومما يدل على مكانة صلة الأرحام في الإسلام وعلو منزلتها أن الشارع الحكيم أمر بتعلم الأنساب ومعرفة القرابات التي تعين على صلة الأرحام والإحسان إليهم، فعن أبي هريرة -رضي  الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم".[ السلسلة الصحيحة للألباني (4862)]، لذا يجب على الآباء والأجداد تبصير الأبناء والأحفاد بحقوق القرابات، وبصلتهم بها، فإن كثيراً من شباب اليوم لا يعرف شيئاً عن كثير من أرحامهم، ويرجع ذلك إلى تقصير الكبار في هذا الشأن، فقد جاء في الأثر: "لا يزال الناس بخير ما تعلم الصغير قبل موت الكبير"، فإذا مات الكبار ذهبوا بما عندهم من علوم وتجارب ومعارف قد لا توجد عند غيرهم من الناس.

 

نسأل الله أن يجعلنا من الواصلين للأرحام، ونعوذ بالله من القطيعة، وسوء الأخلاق، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير.

 

أما بعد:

 

عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، وأحسنوا إلى أرحامكم، واعلموا أن العبرة في صلة الأرحام ليست بكثرة بذل المال لهم؛ بل بسلامة الصدر، وتقارب القلوب، ونقاء الطوية وصفاء السريرة، ولله در ابن عباس حين قال: "قد تُقطع الرحم، وقد تُكفر النعمة، ولا شيء كتقارب القلوب", وفي رواية عنه: "تُكفر النعمة، والرحم تُقطع، والله يؤلف بين القلوب لم يُزحزحها شيء أبداً", ثم تلا: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال: 63].

 

عباد الله: إن صلة الأرحام تقوي المودة، وتزيد المحبة، وتوثق عرى القرابة، وتزيل العداوة والشحناء، وهي ذات مجالات شتى, فمن بشاشة عند اللقاء، ولين في المعاملة، إلى طيب في القول، وطلاقة في الوجه, إنها زيارات وصلات, وتفقد واستفسارات, ومكالمة ومراسلات، وإحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا، وينظم إلى ذلك غضّ عن الهفوات، وعفو عن الزلات، وإقالة للعثرات عدل وإنصاف.

 

أما من يفاصل أهله وأقاربه ويقاطعهم بسبب كلمة سمعها أو وشاية نقلت إليه, فهذا المسكين جنى على نفسه وعلى غيره، وظلم الآخرين، ومنع وصول الحق إليهم.

 

أخي الحبيب: عليك بفواضل الأعمال، ودع عنك قبيحها وسيئها، واعمل بوصية ربك ورسولك، وتخلق بخلق الأنبياء الأخيار، واحذر سلوك الحمقى الأغمار، واحرص -أخي المسلم- أن تكون سيرتك مع أهلك وأقاربك المحسنين منهم والمسيئين؛ كسيرة المقنع الكندي مع أهله وعشيرته، لتسعد في آخرتك، وتُحمد وتُشكر في دنياك، حيث قال مبيناً منهجه ومعاملته لهم:

 

يعـاتبني في الدَّيْـن قومي وإنمـا *** ديوني في أشيـاء تكسبهـم حَمْداً

أسُـدُّ به ما قد أخلُّـوا وضيَّعُـوا *** حقـوق ثغـور ما أطاقوا لها سداً

ولي جفنة لا يُغلق البـاب دونهـا *** مكللــة لحمــاً مدفقـة ثـرداً

ولي فرس نهـد عتيــق جعلته *** حجـاباً لبيتي ثم أخـدمته عبــداً

وإن الـذي بيني وبيـن بني أبي *** وبيـن بني عمي لمختلـف جـداً

إذا أكلوا لحمي وفـرتُ لحومهـم *** وإن هدمـوا مجدي بنيتُ لهم مجداً

وإن ضيعوا غيبي حفظتُ غيوبهم *** وإن هُمْ هَووا غيِّي هويتُ لهم رشداً

وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هُمُ *** دَعَـوْني إلى نصـر أتيتُهم شـداً

وإن زجروا طيراً بنحس يمـر بي *** زجـرت لهم طيـراً يمر بهم سَعْداً

ولا أحمل الحقـد القديـم عليهـم *** وليس رئيسُ القوم من يحملُ الحقدا

لهم جـلُّ مالي إنْ تتـابع لي غنى *** وإن قـلَّ مـالي لم أكلفهم رفــداً

وإني لعبـد الضيف مـا دام نازلاً *** وما شيمة لي غيرهـا تشبه العبـدا

 

عباد الله: إن من أسباب البركات، ومن الأسباب التي يوسع فيها على أرزاق العباد صلة الأرحام، وقد مر معنا قول الهادي البشير -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب منكم أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، وأن يزاد له في عمره فليصل رحمه" [متفق عليه].

 

أيها الإخوة: صِلُوا الأرحام فإن صلتها نعمة من الله ورحمة يرحم الله بها عباده، أدخل السرور على الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وسائر الأرحام والقرابات, فمن وصلهم وصله الله وبارك له في رزقه ووسع له في عيشه, واعلموا أن هذا باب واسع لرضا الله -سبحانه-.

 

 

 

 

المرفقات

الرحم شجنة من العرش.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات