عناصر الخطبة
1/ بيان سعة رحمة الله تعالى 2/ كل بني آدم خطَّاء 3/ باب التوبة مفتوح أبدا 4/ التحذير من القنوط من رحمة اللهاقتباس
فما ظنكم -يا عباد الله- بمسلم يقول: لا إله إلا الله؛ ثم تصدر منه المعاصي؟! أفلا يكون مبشرًا بالتوبة إن هو تاب وأناب؟! فليس بين المذنب وبين رحمة ربه إلا أن يندم على ذنوبه، ويقلع عنها، ويعزم على أن لا يعود فيها، ويستغفر الله، عند ذلك يدخل في قوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) ..
أيها الناس: فإن الله -عز وجل- قد كتب على نفسه الرحمة، وأخبر أنه واسع المغفرة، وأخبر أنه أرحم الراحمين وخير الغافرين، وأن رحمته وسعت كل شيء، وسمَّى نفسه الكريم والغفور والرحيم والعفو والحليم. فسبحانه! ما أكرمه! وسبحانه! ما أرحمه! وما أحلمه! والشكر له على عظيم عطائه، وكريم آلائه، وحسن بلائه.
أيها المسلمون: وقد علم الله -عز وجل- وهو علاّمُ الغيوب أن العباد مواقعون لا محالة للذنوب، وأنهم سيصيبهم من الشيطان ما يصيبهم، فربما تلطّخوا بدنس المعاصي فمستقل ومستكثر؛ ولذلك فإنه -عز وجل- قد فتح عليهم باب الرجاء ليؤوبوا ويتوبوا ويرجعوا وينزعوا عما هم عليه من الذنوب والمعاصي.
أيها المسلمون: كلنا خطاؤون، وكلنا مذنبون، غير أنه لا يقنط من روح الله إلا الضالون. وهذه رسالة أسوقها على عجل إلى كل من عصى الله منا حتى ضاق صدره، وأظلم قلبه، واسودت الدنيا في عينيه؛ إلى كل من أحس بالوحشة بينه وبين مولاه، إلى كل من أحس بحياة الضنك وعيشة السأم والملل، إلى كل من ظن بالله ظن السوء فاستبعد رحمة الله، ويئس من روح الله، إلى كل مقصر في الصلاة، إلى كل عاق لوالديه، إلى مَن أكل الحرام، أو شرب الخمر، أو تلطخ بدنس الزنا؛ إلى كل مَن عصى الله بصغير الذنوب أو كبيرها.
أقول: ها قد فُتِّحت لك الأبواب، فافتح للعلم آذانك، وافتح للذكر فؤادك، وأبشر بالسعادة في الدنيا والآخرة. أخرج الإمام الترمذي من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله عز وجل: يا بن آدم! إنك ما دعوتي ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة".
لا إله إلا الله، ما أرحم الله! لو بلغت ذنوب ابن آدم السحاب من كثرتها وعظمتها ثم استغفر الله غفر له ورحمه، ومحا عنه تلك السيئات؛ بل وبدلها إلى حسنات. فسبحان الله! ما أكرمه! فقد فتح على عبده باب الرجاء، فأخبر أنه بمجرد الدعاء والرجاء فإن الله يغفر الذنوب ولو عظُمَت.
استمعوا -رحمكم الله- إلى هذه الآية، وتفكروا واعتبروا، واحمدوا الله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [الفرقان:68]، هذه كلها من أكبر الذنوب: الشرك، والقتل، والزنا؛ ما جزاء من اقترف تلك الآثام؟ قال -عز وجل-: (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان:69]؛ ثم فتح الله باب الرجاء حتى على أولئك المذنبين فقال: (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الفرقان:70]. نعم، هذا فضل الله، جبال السيئات تُبَدَّل إلى جبال من الحسنات، والله ذو الفضل العظيم.
ومثل ذلك قصة موسى مع قومه الذين عبدوا العجل، فعندما رجع موسى من ميقات ربه وجد قومه يعبدون العجل من دون الله، فغضب موسى، وغضب الله -عز وجل-، وأخبر عن ذلك بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) [الأعراف:152]؛ ثم فتح الله الأبواب في الآية التي بعدها لمن أراد التوبة حتى من أولئك المشركين فقال: (وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأعراف:153].
فما ظنكم -يا عباد الله- بمسلم يقول: لا إله إلا الله؛ ثم تصدر منه المعاصي؟! أفلا يكون مبشرًا بالتوبة إن هو تاب وأناب؟! فليس بين المذنب وبين رحمة ربه إلا أن يندم على ذنوبه، ويقلع عنها، ويعزم على أن لا يعود فيها، ويستغفر الله، عند ذلك يدخل في قوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء:110].
ثم استمعوا إلى حديث ذلك الرجل الذي يذنب كثيرًا، ولكن قلبه وجِلٌ من تلك الذنوب، فكلما أذنب ذكر الله -عز وجل- فحزن واستغفر، فماذا قال الله له؟ لنستمع إلى هذه القصة التي رواها الشيخان في صحيحيهما:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن عبدا أذنب ذنبا فقال: ربّ أذنبت، فاغفر لي، فقال ربّه -عز وجلّ-: أعَلِم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرتُ لعبدي؛ ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت آخر فاغفره، فقال: أعَلِم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي؛ ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا قال: قال: رب أصبت آخر، فاغفره لي، فقال: أعلِم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثلاثا، فليعمل ما شاء".
فهذا العبد وقع مرارا في معصية الله، ولكنه لم ييأس من روح الله، ولم يقنط من رحمته، لم يستسلم للشيطان، بل دحر الشيطان، وأرضى الرحمن، وقال: يا رب، أذنبت ذنبًا فاغفر لي. فماذا قال الله -عز وجل-؟ هل طرده من رحمته لأنه كاذب متلاعب؟! لا واللهِ! بل قَبِلَه -سبحانه- وقال: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، فليعمل عبدي ما شاء.
لا إله إلا الله! ما أكرم الله! فليعمل ما شاء ما دام كلما أذنب تاب توبة صادقة يجزم فيها بعدم العودة إلى الذنوب، فلو نزغه الشيطان بعد ذلك فعصى ثم تاب فإن الله غفور رحيم.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وتفكروا في قول الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135]، فإن فيه إشارة إلى أن المذنبين ليس لهم مَن يلجؤون إليه ويعوِّلون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره، وكذلك قوله -عز وجل-: )وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118]، فرتَّب توبته على ظنهم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن العبد إذا خاف من مخلوق هرب منه وفرّ إلى غيره، وأما إن خاف من الله فما له من ملجأ يلجأ ولا مهرب يهرب إليه إلا هو سبحانه، فيهرب منه إليه، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك"، وكان يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك". انتهى كلامه -برحمه الله-.
فالله -عز وجل- غفر للثلاثة الذين خُلِّفوا حينما لجؤوا إلى الله ورجوا وظنُّوا أنه لن يخلصهم إلا هو سبحانه، فحينما علم من قلوبهم صدق اللجْأ وعظيم الرجاء أنزل توبته عليهم، وأنزل فيهم آيات تتلى إلى يوم القيامة، وهكذا كل من حسّن ظنه بربه، فإنه سبحانه لا يخيّب ظنه، بل إنه -عز وجل- يرحمه ويغفر له ويوفقه إلى كل خير، ويصرف عنه كل شر وبلاء، وفي ذلك يقول الله -عز وجل- كما في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي"، وعلى ذلك فمن ظن بالله خيرًا حصل منه على الخير، ومن أساء ظنه بربه باء بالخسار والبوار، جزاءً وفاقًا.
وأخرج الحاكم بإسناد فيه مقال، عن جابر، أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: وا ذُنوباه! وا ذنوباه! مرتين أو ثلاثًا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قل: اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي"؛ فقالها الرجل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "عُد" فعاد، ثم قال: "عُد" فعاد، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "قم، فقد غفر الله لك".
وفي هذا يقول بعضهم:
يَا كَبِيرَ الذَّنْبِ عَفْــ *** ــوُ اللهِ مِنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرْ
أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ في *** جَانِبِ عفوِ اللهِ يَصْغُرْ
وقال آخر:
ولمـــَّا قَسَـا قَلْبِي وَضَـاقَتْ مَذَاهِبِي *** جَعَلْتُ الرَّجَا منِّي لعَفْوِكَ سُلَّمًا
تَعَـاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ *** بِعَفْوِكَ رَبِّي كانَ عفوُكَ أعْظَمَـا
فيا عبد الله، يا من أسرف على نفسه بالذنوب، إن أردت الخلاص فأمامك رحمة الله، فقد فتح الله لك أبواب فضله، تذنب كثيرًا، وتعصي سرًا وجهارًا، ليلاً ونهارًا، ثم إذا دعوت ربك ورجوته أن يغفر لك غفر لك على ما كان منك ولا يبالي، بل هو يفرح بتوبتك ورجوعك إلى رشدك بعد غيك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها المسلمون: إن كثيرًا من الناس، شيبهم وشبابهم، إذا عصى أحدهم ربه وأساء في جنبه سبحانه، واجتمعت عليه الذنوب والمعاصي، وتكاثرت منه الخطايا، فإنه ييأس من رحمة ربه سبحانه، فإذا أراد أن يتوب وفكَّر في ذلك جاءه الشيطان وقال له: إنك لست كفئاً للتوبة، ولست أهلاً للاستقامة، وجهك ليس وجهَ خير، وحالك لا تدلّ على خير، كيف تعصي الله بكل تلك المعاصي ثم تريده أن يغفر لك كل ما أسلفت؟! ثم يقول له: هيهات! إن ذلك أبعد من الشمس عن اللمس! فتمتع بدنياك، فالمغفرة عنك بعيدة، والرحمة عنك أبعد! ثم لا يزال يلقي عليه من الوساوس، وينفِّره من الخير، ويقنِّطه من رحمة الله؛ حتى ييأس فيترك الخير، وينكص عن الاستقامة.
وهذه -يا عباد الله- حيلة من حيل الشيطان ليصدَّ الناس عن الإيمان، ويهديهم إلى النيران، (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6]. فالله عز وجل واسع المغفرة، ورحمته وسعت كل شيء، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي" أخرجاه في الصحيحين، وفيهما أيضًا عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قُدِم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبيًا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟" قلنا: لا والله يا رسول الله، فقال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها".
فيا من قنَّطه الشيطان من رحمة ربه، هذا كلام الله، ومن أحسن من الله قيلاً؟! وهذا كلام رسول الله، وما ينطق عن الهوى. فما عليك إلا أن تستغفر ربك الغفور، وتندم على ما مضى منك، وتعزم على أن لا تعود، فعندها يفرح الرب الكريم، فيثيبك الأجرَ العظيم، والعطاء الكريم.
وإياك -يا عبد الله- أن تستكثر ذنوبك وتظن أن الله لا يغفرها لك، فإن جاءك الشيطان وكثّر ذنوبك في عينيك لئلا تتوب فتذكر أن الله قَبِل توبة رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، وأكمل المائة بأن قتل أحد العُبَّاد الصالحين، فما هو إلا أن استغفر الله وتاب إليه حتى تاب الله عليه، وأمر به إلى الجنة.
اللهم وفِّقْنا للتوبة النصوح، وتقبل منا يا أرحم الراحمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم