الراسخون في العلم

صالح المغامسي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/وقفات وتأملات مع آيات من أوئل سورة آل عمران 2/مصيبة موت العلماء الراسخين 3/وفاة العلامة/عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين وثناء الناس عليه 4/بعض صفات وأخلاق العلامة/عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

اقتباس

أخبر جل وعلا أنه منَّ على نبيه الكريم بهذا الكتاب العظيم، فقال: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) [آل عمران: 7] أي القرآن. ثم بين عز وجل أن القرآن على قسمين: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران: 7]. فثمة آيات محكمات قطعية الدلالة، لا يرتاب أحد في مرادها ومعناها، فهي عمدة القرآن وأصله، وإليها يرجع عند الاختلاف. (وَأُخَرُ) أي آيات آخر: (مُتَشَابِهَاتٌ) أرادها الله -جل وعلا-، لا تعلم إلا بنظر دقيق، وتأمل أنيق، وعودة إلى الآيات المحكمات، بهن ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى) [الأعلى:2 - 5].

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اتبع أثره، واتبع منهجه، بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة، فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأكرم ما أسررتم، وأعظم ما ادخرتم.

 

تقوى الله، وصية لا يقبل الله غيرها، ولا يرحم الله إلا أهلها، قال جل ذكره وعز ثناؤه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131].

 

ثم اعلموا -عباد الله-: أنه صح عن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اقرؤوا الزهروين: البقرة وآل عمران".

 

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هاتين السورتين الكريمتين تأتيان يوم القيامة تحاجان عن أصحابهما.

 

وصدر سورة آل عمران من أعظم آيات القرآن أثرا في القلوب، وإن كان القرآن كله عظيم، قال الله -جل وعلا- فيها: (الم * اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) [آل عمران: 1- 3].

 

جاء بعد الحروف المقطعة من هذه السورة المباركة؛ إخبار العلي الكبير، أنه هو الله الذي لا إله إلا هو، لا معبود بحق إلا هو، وكل إله يعبد من دونه، فهو إله باطل.

 

ثم ذكر جل وعلا اسمين كريمين عظيمين من أسمائه الحسنى، هما: الحي والقيوم، دالان على صفتين عظيمتين من صفاته الجليلة، فحياة الله -جل وعلا- لم يسبقها عدم، ولا يلحقها زوال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26 - 27].

 

(وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص: 88].

 

أما "القيوم" فمعناه: أن الله -جل وعلا- هو القائم بنفسه، المستغني عن غيره، وافتقر كل خلقه إليه بلا استثناء، حتى إن حملة العرش، ومن يطوفون حوله، من ملائكته المقربين، كلهم ومن سواهم، فقراء كل الفقر إلى رحمته، وعظيم منته -تبارك اسمه وجل ثناؤه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15].

 

(اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ) [آل عمران: 2 - 4].

 

على أنه جل وعلا قد جعل في خلقه الفطرة التي تدل عليه، وترشد إليه، وهي النور الأول في قلوب العباد، إلا أنه جل وعلا ما أقام الحجة، ولا أوضح المحجة، إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فهنا تمدَّح جل وعلا بأنه نزل على النبي الأمي محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- هذا القرآن العظيم، وأخبر أن هذا القرآن ليس مخالفا لما سبقه من الكتب، بل هو مصدقا لها، جاء بما جاءت به الكتب، من الاتفاق على الأمور الثلاث العظام: توحيد الله، وإثبات النبوة، وإثبات البعث والنشور، والقيام بين يدي رب العالمين -جل جلاله-: (مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ).

 

فالتوراة والإنجيل كتابان عظيمان؛ أنزل الله الأول على موسى، والآخر على عيسى، فيهما من الآيات والعظات والعبر، ما نفع أهل زمانهما، وفي إنزاله الكتاب على نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ما جعل هذا القرآن مهيمنا على الكتب كلها: (وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) [آل عمران: 4].

 

الكفر -أيها المؤمنون- هو الذنب الذي لا يغفر؛ لأنه قرين الشرك في كلام رب العالمين -جل جلاله-.

 

ومادته في اللغة، تعني: التغطية والدس، ولهذا قال جل وعلا: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 9 - 10].

 

فالنفوس فطرت على معرفة ربها -جل وعلا-، فمن قبل نور الله الذي جاء به الرسل، وأنزله الله في الكتب، اجتمع في قلبه نور على نور، ومن غطى وكفر، وأبى أن يقبل، توعده الله -جل وعلا- بقوله: (إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) [إبراهيم: 47].

 

ثم قال تبارك اسمه، وجل ثناؤه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) [آل عمران: 5].

 

لأنه جل وعلا وسع كل شيء رحمة وعلما وسلطانا، فلا أحد إلا ويبلغه علم الله، ويمكن أن تسعه رحمة الله، وسلطان الله -جل وعلا- عليه قائم.

 

ومثل هذه الآية، ربيع عظيم لعباد الله المؤمنين، فالمؤمن إذا قرأ: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) يعلم أن الله يرى سجدته في ظلمات الليل، فيقبلها: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: 217 - 219].

 

ويرى صدقته، فيكتبها له: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) [الشورى: 25].

 

يرى صدقتك، ويقبل توبتك، يسمع تلاوتك وذكرك، وكل ذلك يرفعه لك، ويعينك عليه، ويقبله منك: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10].

 

كما أن من يعصى الله -جل وعلا- لا يعلم يوما أنه بمنأى عن علم الله، لكن الله -جل شأنه- حليم حيي، يستر، فإذا كان يوم القيامة وفَّى  كل صاحب عمل عمله، وإذا أراد الله ممن كانت ذنوبهم تحت المشيئات، إما أن يغفر لهم، وإما أن يعاقبهم، والأمر له وحده، كما قال تباركت أسماؤه: (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الإنفطار: 19].

 

ثم أخبر جل وعلا: أنه كما أن له العلم المطلق؛ فإن له جل وعلا القدرة التي لا منتهى لها: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء) [آل عمران: 6].

 

وفي خبر ابن مسعود -رضي الله عنه-: حدثنا الصادق المصدوق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".

 

اللهم إنا نسألك الثبات على دينك.

 

ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح في حديث عمرو بن العاص قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قلوب العباد كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، يصرفها كيف يشاء".

 

ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".

 

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء) [آل عمران: 6] دليل على عظمته، دليل على قدرته، فترى الرجل قد يكون لأبيه، وقد يكون لأعمامه، وقد يكون لأخواله، وقد لا يكون لأحد منهم، والخالق واحد، والله -جل وعلا- يقول: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) [لقمان: 11].

 

ومن تأمل بعين الاعتبار، ونظر ببصيرته، فيما يراه حوله من أحوال العباد، وأحوال الخلق كلهم، عرف أن لله -عز وجل- قدرة جليلة، وعظمة متناهية، فربنا -جل وعلا- لا يبلغ مدحته قول قائل، ولا يجزى بآلائه أحد.

 

ثم أخبر جل وعلا أنه منَّ على نبيه الكريم بهذا الكتاب العظيم، فقال: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) [آل عمران: 7] أي القرآن.

 

ثم بين عز وجل أن القرآن على قسمين: قال: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [آل عمران: 7].

 

فثمة آيات محكمات قطعية الدلالة، لا يرتاب أحد في مرادها ومعناها، فهي عمدة القرآن وأصله، وإليها يرجع عند الاختلاف.

 

(وَأُخَرُ) أي آيات آخر: (مُتَشَابِهَاتٌ) أرادها الله -جل وعلا-، لا تعلم إلا بنظر دقيق، وتأمل أنيق، وعودة إلى الآيات المحكمات، بهن تعرف تلك الآيات المتشابهات.

 

والتالون للقرآن، والمتأملون فيه على دربين: فريق يريد به الحق، يريد به الدلالة، يريد به الهداية، فهؤلاء يتبعون المحكم، ويؤمنون بالمتشابه، ويردون المتشابه إلى المحكم.

 

وقلوب -عياذا بالله- لا تريد من تأمل القرآن إلا الزيغ، ولا تريد من تأمل القرآن إلا الضلالة، يقع في عقولها أهواء ورغبات، ثم تأتي للقرآن فتحيد به يمنة وميسرة، تريد أن تجعل القرآن شاهدا لها، ودليلا على صحة ما تقول، وبرهانا على ما ذهبت إليه، وكل ذلك باطل، قال رب العالمين: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) [آل عمران: 7].

 

ثم أخبر جل وعلا: أن تأويله محال على أمثال هؤلاء أن يدركوه، أو أن يجدوه، فقال جل وعلا: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) على قول أحد العلماء: أن "الواو" للاستئناف، فإن كانت "الواو" عاطفة، فإنها تكره: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران: 7] وهو الأظهر -والعلم عند الله-.

 

فالراسخون في العلم من وجد في علمهم أربعة أشياء: التقوى فيما بينهم وبين الله، والتواضع فيما بينهم وبين الناس، والزهد فيما بينهم وبين الدنيا، والمجاهدة فيما بينهم وبين النفس.

 

ومثل هذه مطالب عزيزة لا يؤتاها كل أحد، قال الله -جل وعلا-: (لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 162].

 

وقال هنا في آل عمران: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [آل عمران: 7].

 

آمنا بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [آل عمران: 7].

 

لم آمنا به؟

 

(كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) المحكم والمتشابه أنزله الله على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) [آل عمران: 7].

 

ثم لما كان منهم الإيمان في قلوبهم، فزعوا إلى الله -جل وعلا-، خوفا أن يضلوا بعد الهداية، وأن يحرموا لذة الإيمان بعد أن وجوده، قال الله -جل وعلا- عنهم: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران: 8].

 

والمؤمن في حياته ومسيره إلى ربه، وإعماره وعمره، كل يوم ينقص يوم، حتى يلقى الله لا يخشى من شيء، أعظم من خشيته من يوم ينكث فيه عن دين الله -جل وعلا-، فلا يرقب يوم هو أسعد فيه من أن يختم له بخاتمة حسنة، وأن يتم الله له نوره، وأن يجمع الله له أمره، وأن يوفيه الله -جل وعلا- أجره، وأن لا يصرف الله -جل وعلا- قلبه عن طاعته، والله يقول: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء) [النــور: 35].

 

فلما عرف هؤلاء الراسخون عظيم الأمر، وجليل الخطب، لجؤوا إلى الله، يفزعون إليه: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا) [آل عمران: 8].

 

وهم مع علمهم، وجليل تأملهم في القرآن، يدركون أنهم مهما بلغوا من العلم، فقراء كل الفقر إلى رحمة ربهم -تبارك وتعالى-، فقالوا متضرعين إلى خالقهم، متوسلين إلى مولاهم: (وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].

 

فمن رحمه الله -جل وعلا- فقد نال السعادة في شقيها في الدنيا والآخرة: (وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].

 

ثم ذكروا أن الله يجمع الناس ليوم عظيم، هو يوم القيامة، يجمعهم الله -جل وعلا- فيه، فقالوا متوسلين إلى الله تلميحا لا تصريحا: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 9].

 

يخرج الناس من قبورهم يمسحون الموت عن أعينهم، كما يمسح أحدنا النوم عن عينه، وهم أحوج الناس إلى ثلاثة -أشياء-: إلى كسوة تسترهم، وقد خرجوا عراة، وإلى ماء يرتون به، وقد خرجوا عطاشا، وإلى ظل يسترتون به، وقد أظلتهم الشمس، والموفق من جمع الله -عز وجل- له هذه الثلاثة كلها.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 101 - 104].

 

اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

وبعد:

 

تبين لكل من يعقل: أن وجود الراسخون في العلم في الأمة، رحمة من الله -جل وعلا- بالأمة، كما أن فقدهم ووفاتهم مصيبة، وأي مصيبة، وإن كان دين الله ليس بقاؤه معلقا بحياة أحد: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) [آل عمران: 144].

 

فدين الله -جل وعلا- ليس بقاؤه معلقا بحياة أحد كائنا من كان، وإلا لذهب الدين يوم وفاة محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-، لكن فقد العلماء الربانين والراسخين من العلماء، يحدث في الأمة ظلمة، ويحدث في القلوب حسرة، ويجعل المؤمنين الصالحين يعملون جاهدين على أن يخلف الله -جل وعلا- الأمة عنهم خيرا.

 

وقبل أيام من جمعتنا هذه توفي أحد علماء الأمة الربانيين، وأحد الراسخين في العلم، ذلك نحسبه، ولا نزكي على الله أحد، هو شيخنا الإمام الجليل/ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين -غفر الله له ورحمه-.

 

ليس المقام -أيها المؤمنون- مقام ثناء وتأبين، فالمنبر جليل، لكن المقام مقام تتبع لحياة أئمة راسخين، وقد كان الشيخ -رحمه الله- واحدا من الأئمة الكبار، والعلماء الأبرار، بإجماع الناس.

 

في سلف الأمة، لما مات عطاء بن أبي رباح -رحمه الله-، وهو أحد كبار العلماء السلف، قال الناس يوم مات: "مات وهو أرضى الناس للناس".

 

كان عطاء، يدخل على الخلفاء، فيحبونه ويجلونه، ويدخل على العلماء، فيعرفون قدره، ويلتف حوله طلبة العلم، يأخذون عنه، ويحبه عامة المؤمنين، الصغار والكبار، الرجال والنساء، مع أن العلم، والنصح للناس، والقيام بواجب الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربما يحدث ذلك للشخص بعض العداوات، لكن الله أفاء على عطاء بما أفاء عليه، أيام حياته، فلما مات قال الناس: "مات عطاء وهو أرضى الناس للناس".

 

ولقد تذكرت هذا يوم أن مرض الشيخ ابن جبرين -رحمه الله-، ويوم أن مات، وحين دفن، وصلي قبل ذلك عليه.

 

ففي مرضه يزوره ولي أمر المسلمين، والعلماء الربانيون، وطلبة العلم، وعامة المؤمنين، وفي يوم موته يعلن الديوان الملكي النبأ، ويحضر الوفاة العلماء والأمراء، والمشايخ والكبار والصغار، من الناس عامة.

 

المؤمنون يعرفون أن للشيخ حق عظيم عليهم، فيؤتون لا لدينار ولا درهم، ولم يجمعهم لهو وعبث، إنما جمعوا تحت سقف مسجد، كل ذلك إجلالا، وقياما بالواجب، نحو رجل وعالم عظيم، يرون أنه قدم ما آتاه الله -جل وعلا- من علم؛ للناس.

 

أيها المؤمنون: نشر الدين والدعوة إليه، هو حياة الأنبياء، حكاه الله عن نوح، وحكاه الله عن الأنبياء والرسل من بعده، ولا نزكي على الله أحد، فقلما مدينة أو محافظة إلا ودخلها الشيخ -رحمه الله- يبين للناس دعوة ربه، وينشر ما آتاه الله من علم.

 

واليوم -أيها المبارك- حتى تتأسى أنت؛ ترى مات الشيخ، وذهبت مشقة الخطوات، ونصب الأسفار، وبقي ما انتفع الناس به من علم، من الوصية بتقوى الله وإجلاله، وامتثال أوامره ونواهيه -تعالى-، ونرجوا من الله أن يكون قد كتب للشيخ تلك الخطوات، ونصب تلك الأسفار، وأن يلقاها عنده: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89].

 

أيها المؤمنون: التواضع فضيلة عظمى، يرفع الله أهلها، وأثنى على المتحلين بها، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- كان عظيم الشأن، فيها سفرا وحضرا، مع القريب والبعيد، وهو صلى الله عليه وسلم يكون في بيته في مهنة أهله، وإذا جلس جلس صلى الله عليه وسلم حيث انتهى به المجلس، فإذا مدح قال: "إنما عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" وإذا جلس على طعام، قال: "أنا عبد وأجلس كما يجلس العبد" وإذا وقفوا حوله، قال: "لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا" ورث العلماء الربانيون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الخلق الجميل، وإذ كانت الأمة كلها ملوكا وعامة بحاجة إليه.

 

ورث الشيخ -رحمه الله- في جملة ما رث، هذا الفضل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالعلماء ورثة الأنبياء، فكان الشيخ رحمه الله ينهى طلبته وعامة الناس عن تعظيمه، والمبالغة بالسلام عليه، ويجيب دعوتهم، ويدخل بيوتهم، ويتنقل بين القرى والهجر المنقطعة قبل أن يتنقل بين المدن والمحافظات المعروفة، ولا يصنع هذا غالبا إلا المتواضعون، والسرائر أمرها إلى الله، لكن نسأل الله -جل وعلا- أن يكون الشيخ -رحمه الله- قد أفضى إلى ربه، وهو صادق العلانية، وصادق السريرة، والعباد شهود الله -جل وعلا- في أرضه.

 

أيها المؤمنون: الدعوة الحقة لا تكون إلا بمشكاة الوحيين بالكتاب والسنة، لا تكون بغيرهما ألبتة، قال الله -جل وعلا: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية: 6].

 

والشيخ -رحمه الله- نهل من العلم صغيره، ثم علم كبيره، ولم يحد يوما من الدهر -فيما نعلم- عن الدعوة إلى الله بغير مشكاة الوحيين: كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا جلس للتدريس جلس يعلم العلم الحق، والرحيق البين، وإذا قام للدعوة أو خطب أو وعظ اتكأ على مشكاة الوحيين من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما ينبغي على العلماء وطلبة العلم أن يلزموه، فلا دعوة إلى الله -تبارك وتعالى- إلا ما دعا إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

عباد الله: ألا صلوا وسلموا على خير من دعا إلى الله سرا وجهارا، ليلا ونهارا، ذي الوجه الأنور، والجبين الأزهر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

اللهم صل على محمد ما ذكرك الذاكرون الأبرار، وصل على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وارض اللهم على أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار، اللهم وارحمنا معهم بمنك وكرمك، يا عزيز يا غفار.

 

 

المرفقات

في العلم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات