عناصر الخطبة
1/ظاهرة تصدر الجهال في الفتوى 2/خطر الجهال على دين الناس 3/من صفات الرؤوس الجهال 4/التحذير من القول على الله بلا علم 5/نماذج من ورع السلف في الفتوى 6/من شروط المفتياقتباس
رؤوس جهال رغبوا في الأغراض الدنيوية العاجلة، فأخذوا بالأقوال المهجورة، والرخص المخالفة للدليل، التي لا يقول بها إلا من خلا قلبُه من تعظيم الله وإجلاله وتقواه، وعُمِر بحب الدنيا؛ قال بعض السلف: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
عباد الله: إن مما ابتلي المسلمون به في هذا الزمان تصدر أقوام للفتوى، ممن قصر في العلم باعهم، يخوضون في نوازل عامة، وقضايا هامة، بلا علم ولا روية، فيخبطون خبط عشواء، ويأتون بما يضاد الشريعة الغراء، من الإفتاء والقول على الله بغير علم، وتتبع الأقوال الشاذة التي لا يخفى على من له أدنى بصيرة مفاسدها الكبيرة على الدين.
رؤوس جهال، ضلوا وأضلوا، وزاد شررهم وعظم خطرهم في مواقع التواصل الاجتماعي ومنصاتها، وقنوات وفضائيات مشبوهة تفرح بباطلهم للإساءة للإسلام والمسلمين.
رؤوس جهال يأتون بزخرف قول؛ يقلب الحرام حلالاً أو الحلال حراماً، فأحلوا الربا الذي حاربه الله، وأحلوا بعض أنواع الخمر الذي حرمه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل ومنهم من أنكر السنة النبوية وأنكر ثوابت الدين!.
فتاوى تُحل ما علم تحريمه من الدين بالضرورة، من دون حجة ولا برهان، بل مجاراة للواقع، ومداهنة وإرضاءً للخلق، وحظوظ النفس، وصدق الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا"(رواه البخاري ومسلم).
رؤوس جهال تصدّروا وصدروا، أحدهم بيّن أهل العلم منكر أو غريب، ما له في مقام الفتوى حظ ولا نصيب، غرّهم سؤال من لا علم عنده لهم، ومسارُعة أجهل منهم إليهم.
رؤوس جهال رغبوا في الأغراض الدنيوية العاجلة، فأخذوا بالأقوال المهجورة، والرخص المخالفة للدليل، التي لا يقول بها إلا من خلا قلبُه من تعظيم الله وإجلاله وتقواه، وعُمِر بحب الدنيا؛ قال بعض السلف: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره".
ويوم يحصل ما في الصدور، ويُبعَثر ما في القبور، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون؛ (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)[النحل: 116].
إن القول على الله بلا علم كبيرة من كبائر الذنوب، قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش، ثم ثنّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلّث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به -سبحانه-، ثم ربّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم"(إعلام الموقعين).
القول على الله بلا علم، ذنبٌ عظيمٌ، قال -تعالى-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)[يونس: 59]، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كذب عليّ متعمداً؛ فليتبوّأ مقعده من النار".
فالقائل على الله بلا علم كاذب على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويجب عليه أن يتوقف، ولا يفتي إلا بما يعلم دليله من الكتاب والسنة، وإن خفي عليه الأمر فليكله إلى عالمه، وليقل: لا أعلم.
وقد كثر النقل عن السلف إذا سئل أحدهم عما لا يعلم أن يقول للسائل: لا أدري، نقل ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنهما- والقاسم بن محمد والشعبي وغيرهم.
وسُئل الإمام مالك بن أنس عن أربعين مسألة، فأجاب السائل عن أربع مسائل، وقال في البقية: لا أعلم، فقال السائل: جئتك من بعيد أسألك وأنت عالم المدينة، وتقول: لا أعلم؟! فقال مالك: اخرج وناد في الناس: إن مالكًا لا يعلم.
ولقد عدَّ المسلمون هذا الموقف مفخرة لمالك، ومنقبة من مناقبه، وهكذا شأن الخائف من الله إنما يفتي فيما يعلم، أما الذين يفتون بالجهل، ويظهرون أنفسهم أنهم علماء، ولا يخجلون أن يقولوا: لا أعلم، فهؤلاء ظالمون لأنفسهم، وظالمون لغيرهم؛ إذ أفتوا الناس بغير هدى، ويتحملون أوزارهم.
فليحذر المسلم أن يقول على الله بغير علم، من دليل من كتاب أو سنة، قال -تعالى-؛ (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء: 36]، فحسب الإنسان أن يقف عند ما يعلمه، وما لم يعلم فليبتعد عنه، يقول بعض السلف: "إن أحدكم ليفتي في مسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر"، فهكذا يكون الورع والخوف من الله، فلا تفتي إلا بما تعلم، وما خفي عنك عِلْمُهُ، فِكِلْهُ إلى عالمه، ولا تقل على الله بجهل، وضلال، ولا تحمل نفسك مالا تطيق.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإن الله قال لنبيه: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[ص: 86]"(إعلام الموقعين).
عباد الله: إنه لا يجوز لأي إنسان أن يفتي في الشريعة إلا إذا توفرت فيه مواصفات وشروط ذكرها العلماء؛ فمن ذلك: العلم، والصدق، وأن يكون مرضي السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله؛ ذلك أن الفتوى توقيع عن الله، وتوقيع عن الله ليس كتوقيع عن غيره من ملوك الدنيا.
قال الإمام أحمد: "لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة"، ويقول سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه"، ويقول الإمام مالك: "أخبرني رجل أنه دخل على ربيعه بن أبي عبد الرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم".
ألا فليتق الله هؤلاء القائلون على الله بغير علم، وليراعوا حرمة هذه الشريعة العظيمة، فإنهم غداً بين الله موقوفون؛ (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الحجر: 92، 93]، (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)[الأعراف: 6، 7].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد: فاتقوا الله -عباد الله- ولا تسألوا في دينكم إلا من يوثق بعلمه وورعه ممن يستند في فتاواه على الدليل؛ (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: 43]، وقال محمد بن سيرين -رحمه الله-: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"، فاحذروا وحذروا من الرؤوس الجُهال، ومدعي العلم الضُلال؛ (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 42].
عباد الله: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهم صَلِّ وسَلِّم على النبي المصطفى المختار، وعلى المهاجرين والأنصار وعلى جميع الآل والصحب الأخيار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين، اللهم وَفِّق ولي أمرنا وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم