الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم

صالح بن عبد الله الهذلول

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ ارتباط نعمة الأمن بالإيمان والاتباع 2/ كيفية الجهاد باللسان 3/ المنح في طيّ المحن المعيشة 4/ الآثار المتوقعة للعدوان الصليبي على العراق 5/ التأسف على أوضاع المسلمين هناك

اقتباس

إن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، والخوفَ لا يكون إلا في البعد عن هداه، وهذا القول ليس وهماً، ولا لطمأنة القلوب؛ إنما هو حقيقة عميقة منشؤها: إن اتباع الهدى معناه التوافق مع كل المخلوقات في الكون، والانسجام معها، وهي مسخّرة للإنسان إذا سبح اللهَ معها أن تخدمه وتقف معه.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

                                                      

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

أما بعد: فإن الأمن مطلب ينشده الجميع، ويسعى إليه الأفراد والدول، وهو ضد الخوف، هو من منن الله -تعالى- يمنحها من يشاء، ذكرها -جل وعز- في معرض ذِكر مننه على قريش، فقال -سبحانه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67]، وقال -سبحانه-: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش:3-4]، وقال: (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص:57].

 

كل الأماكن من حولهم حفّ بها الخوف من كل جانب، وأهلها غير آمنين، ولا مطمئنين، فلتحمد قريشٌ ربها على الأمن التام الذي لا ينعم به غيرهم، وعلى الرزق الوفير، وعلى الثمرات والبضائع والأطعمة التي جلبت إليهم من كل مكان؛ وليتبعوا هذا الرسول ليتواصل لهم الأمن والرغد، وإياهم وتكذيبهَ والبطر بنعمة الله؛ فيُبدلوا من بعد أمنهم خوفاً، ومن بعد عزهم ذلاً، ومن بعد غناهم فقراً!.

 

وتوعدهم بما فعل بالأمم السابقة قبلهم حين كذبوا وبطروا وأسرفوا، فقال -سبحانه-: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص:58].

 

ولكن نظرة قريش كانت -للأسف- سطحية قريبة، أوحت لها -وتوحي لمن بعدهم- أن اتباع هدى الله يُعرِّضهم للمخافة، ويفقدهم العون والنصير، ويوقعهم في المقاطعة أو يعرضهم لغزو واحتلال.

 

وهم لا ينكرون أنه الهدى؛ لكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس، وينسون الله، ينسون أنه وحده هو الحافظ -سبحانه-، وهو الحامي وحده، وأن قوى الأرض كلَّها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [آل عمران:160].

 

إن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، والخوفَ لا يكون إلا في البعد عن هداه، وهذا القول ليس وهماً، ولا لطمأنة القلوب؛ إنما هو حقيقة عميقة منشؤها: إن اتباع الهدى معناه التوافق مع كل المخلوقات في الكون، والانسجام معها، وهي مسخّرة للإنسان إذا سبح اللهَ معها أن تخدمه وتقف معه.

 

الكثيرون يخافون من اتباع شريعة الله والسير على هداه، ويشفقون من عداوة الكفار، ويخشون مكرهم، وتألب الخصوم عليهم، وفرضَ الحصار الاقتصادي، واتهامهم بالإرهاب، وما هي إلا أوهام كأوهام قريشٍ يوم قالت للرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)؛ فلما أسلمت واتبعت هدى الله سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في مدة قصيرة جداً.

 

الأمن إذن -عباد الله- مرتبط باتباع الهدى حقيقة، وينقص الأمن حين ينقص الإيمان؛ جزاءً وفاقاً، ولذا قال العلماء في قوله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، قالوا: إن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ مطلقاً، لا بشرك ولا بمعاص، حصل لهم الأمن التام والهداية التامة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بشرك لكنهم يعملون السيئات حصل لهم الهداية وأصل الأمن وإن لم يحصل لهم كمالها.

 

عباد الله: يجب على المسلمين أن يعتقدوا ويعلنوا صراحة وبقوة أن كل قوة غير قوة الله هزيلة، وكلَّ سلطان غير سلطان الله لا يُخاف، وإلا فليرض المسلمون بالترقب والتوجس والخوف والقلق الملازم.

 

كيف نخاف ونحن المسلمين الأعلون؟ ومَن ذا نخاف والله معنا؟ أي الفريقين أحق بالأمن؟ نحن أم اليهود والنصارى الذين أشركوا بالله من لم يجعل له سلطاناً ولا قوة؟.

 

اللهم وفقنا لما وفقت أولياءك، ولا تشمت بنا أعداءك، وسددنا في القول والعمل، وأمِّنَا من ذل الدنيا وخزيها.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: معاشر المسلمين: فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه. ورواه أبو داود وصححه الألباني.

 

الجهاد باللسان عباد الله يمكن أن يكون ذا حدين:

 

الأول: كلام صادق ناصح بليغ، ومن عاقل، في وقت مناسب. ودعاءٌ حارٌ دائماً أن ينصر الله الإسلام، وأهله، ويخذل الشرك وجنده.

 

الثاني: كف اللسان عما لا يحسنه. قال العلماء: "من عَدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه". وفي المسند من حديث الحسين -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه"، وقال أبو الدرداء: "من فقه الرجل قلة الكلام فيما لا يعنيه"، وقال -رضي الله عنه-: "تعلموا الصمت كما تتعلمون الكلام".

 

كفُّ اللسان -عباد الله- وخاصة في مثل هذه الظروف - يكون عن كل ما يضر من تخذيل أو طرح و إشاعة شُبَهٍ. 

 

كف اللسان عن تيئيس الناس وإحباطهم في المبالغة في ذكر قوة أمريكا. أمريكا ومِن ورائها اليهود التي جندت وسائل الإعلام لإشاعة الرعب في نفوس الناس بتصوير أن قوتهم لا تقهر وجنودهم لا يهزمون.

 

عباد الله: إن الشدائد ليست شراً محضاً، وفي ثناياها خفايا لا يعلمها إلا الله الحكيم العليم الرحيم.

 

ومما فيها: استخراج الدعاء من المسلمين، فالمسلم إذا مسته الضراء وتقطعت من يده الأسباب، لم يَرَ أمامه إلا الله، فيضرع إليه ويلجأ، رافعاً يديه، مفرِّغاً قلبه من كل شيء إلا من الله، وهذا الصنيع يحبه الله.

 

وثانياً: التمحيص، وبيان بعض أوجه النفاق، وربما كشف بعض المنافقين: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) [المائدة:52].

 

وثالثاً: معرفة أن القرار الوحيد النافذ عند من بيده ملكوت السماوات والأرض وكل شيء، (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن) [الرحمن:29].

 

ورابعاً: وجوب حسن الظن بالله، وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه: (حسن الظن بالله) واحداً وخمسين ومائة نصٍ ما بين آية وحديث، كلها تدعو إلى التفاؤل وتركِ اليأس والقنوط، والمثابرة على حسن الظن وحسن العمل، حتى إنك لتجد نصوص الوعد، أي التي تكون في الخير، أعظم من نصوص الوعيد، والوعيد يكون في الشر، وأدلة الرحمة أكثر من أدلة التهديد، وقد جعل الله لكل شيءٍ قدراً.

 

أيها المسلمون: في الصحيحين وغيرهما من حديث نافع عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا هي سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".

 

فإذا كان هذا في شأن هرة واحدة فقط، فما بالكم بالملايين من البشر الذين يعانون من حصار أكثر من عشر سنين، ومات منهم مئات الألوف؟ وآخر الأخبار عنهم أمس الأول قبل بداية الحرب عليهم أن كثيراً من نسائهم الحمَّل يراجعن المستشفيات لإجراء عمليات قيصرية قبل نشوب الحرب حتى لا يضعن حملهن من الخوف والهلع والفزع فيتسبب ذلك في مضاعفات صحية خطيرة عليهن وعلى أجنتهن! والله أرحم الراحمين!.

 

عباد الله: إن آثار الحرب وانعكاساتها لن تقف على حدود العراق، بحيث لا تتجاوزها؛ بل ستتعداها كثيراً، ومن تغدى بأخيك فسيتعشى بك، والقائمة عند الأمريكان ستون بلداً معظمها إسلامية، وقد صرح الرئيس الأمريكي أمس في خطابه القصير الذي أعلن فيه بدء الحرب ضد العراق، صرح قائلاً: "إن الحملة لن تكون محدودة، وقد تستغرق وقتاً أطول، وتقابل صعاباً لم تكن متوقعة".

 

إن الحرب صليبية دينية يقودها النصارى، ويؤزها اليهود أزاً؛ للقضاء على دين الإسلام الذي أضحى يتململ ويسري حتى دخل مقر وزارة الدفاع الأمريكية فاعتنق بعض جنودهم الإسلام.

 

معاشر المؤمنين: نحن لن نأسف على رحيل حزبٍ رفع شعار:

آمنــت بالبــعث رباً لا شـريك له *** وبالعــــروبة دينــــاً ما لــه ثان

 

لن نأسف على رحيل حزب أذاق شعبه المرَّ والمهانة وقهر الرجال وأوردهم كارثة بعد كارثة، يزعم أنه الوصي على العروبة وعزتها، فإذا بالمفتشين الدوليين يدخلون حتى قصور الرئاسة والمساجد والبيوت، وطائرات أعدائه تخترق حرمة وسيادة بلده شبه يومياً منذ اثنتي عشرة سنة مضت.

 

وإنما نأسف ونتألم على وضع المسلمين هناك، في ذلك البلد الذي يواجه الآن احتمال حرقه وتدمير كل بنية تحتيةٍ له بناها الشعب بأظفاره ودمه. فإلى الله المشتكى، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.

 

وخذوا العبرة إخواني، وفرُّوا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم...

 

اللهم...

 

 

 

المرفقات

آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات