الذنوب.. عقوباتها وكيفية الخلاص منها

محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ التحذير من صغائر الذنوب 2/ بعض الكبائر وعقوباتها 3/ ذنوبٌ عقوباتُها عاجلة 4/ آثار المعاصي 5/ كيفية الخلاص من الذنوب

اقتباس

وقد يتأخر تأثيرُ الذنب فيُنسَى، ثم ينقَضُّ -ولو بعد حين- كما ينقضُّ السهم، وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدَّغل، أو يكون ضرره في الدين. وإن أخر له في الآخرة فعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى.

 

 

 

 

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطَّول، لا إله إلا هو إليه المصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة معترف بالذنب والتقصير، سائل العفو والزلفى وحسن المآب يوم المصير. 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، خير بشير، وأشفق نذير. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، نِعْم الصحْبُ له، ونعم القدوة لمن طلب الفوز والنجاة في يوم عسير.

أما بعد: فقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم ومحقِّراتِ الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه"، وضرب لهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً: "كمثل قوم نزلوا بأرض فلاةٍ فحضر صنيع القوم- يعني إعداد طعامهم- فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالبعرة، حتى جمعوا سوادًا- يعني الحطب- وأجَّجوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها".

عباد الله! هذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- الصادق المصدوق، الحريص على هداية أمته ونجاتهم، يحذِّر الصحابة الذين هم خيار أمته صغائر الذنوب، ويبيِّن لهم عواقبها الوخيمة، بل ويحذر جميع الأمة على ألسن الصحابة المأمورين بالتبليغ عنه -صلى الله عليه وسلم- كما في هذا الحديث الجليل.

وفي أحاديثَ أُخَرَ بيَّن عقوباتِ ذنوب بعينها، وذكر ما أطلعه الله عليه من عذاب أصحابها في قبورهم، أو ما يحصل لهم يوم بعثهم ونشورهم، أو بعد أن يستقر بهم القرار.

فمن ذلك الأخذ من بيت المال بغير حق؛ ذكر الإمام أحمد من حديث أبي رافع -رضي الله عنه- قال: مرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبقيع- مقابر في المدينة- فقال: "أفٍّ لك! أفٍّ لك!" فظننت أنه يردني. قال: "لا، ولكن هذا قبر فلان بعثتُه ساعيًا إلى آل فلانٍ فَغَلَّ نمِرةً فدُرِّعَ الآن مثلها من نار".

روى الإمام أحمد –أيضا- عن أبي رافع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما عُرج بي مررتُ على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم. فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" يعني بالغيبة والبهت.

ومن ذلك شرب المسكرات، ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل ما أسكر حرام، وإن على الله عز وجل عهدًا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال" قيل: وما طينة الخبال؟ قال: "عصارة أهل النار". و"المسكر" هو الخمر الكبرى، وبابه الخمر الصغرى، وهو التنباك.

ومن ذلك تصوير ذوات الأرواح بالرسم أو بالنحت أو بالفتغراف، ففي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المصوِّرين يُعَذَّبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلَقتم". والراضي بالتصوير، وناصب الصور في المجالس ونحوها، كالفاعل في أصل الثواب والعقاب. ويُستثنى من التصوير الفتغرافي ما يلزم به الإنسان من حفيظة نفوس ونحوها مع كراهته للتصوير.

ومن ذلك "المظالم" في المال، والعرض، وهي ظلمات يوم القيامة، وسببٌ لنقصان الحسنات، وتحمل السيئات، وسخط رب البريات؛ في صحيح البخاري، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن كانت له عند أخيه مظلمة في مال أو عرض فليأته فليتحللها منه قبل أن يؤخذ وليس عنده دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته فأعطيها هذا، وإلا أخذ من سيئات هذا فطرحت عليه ثم طرح في النار".

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقِّه خُسِف به يوم القيامة إلى سبع أرضين"، وفي المسند، عن معاذ -رضي الله عنه- قال: أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تشرك بالله شيئًا، وإن قُتِلتَ أو حرقت، ولا تعقَّنَّ والديك وإن أمرَاك أن تخرج من مالك وأهلك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدًا، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرًا فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصيةَ! فإن المعصية تُحِلُّ سخط الله".

وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- عقوبات عاجلة لذنوب معينة- نسأل الله السلامة منها ومن كل ما يغضب الله-، روى ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين! حدثينا عن الزلزلة. فقالت: إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غار الله عز وجل في سمائه فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا أهدمها عليهم.

وروى ابن ماجة، من حديث عبدالله بن عمر، قال: كنت عاشر عشرة من المهاجرين عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجهه فقال: "يا معشر المهاجرين: خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن، ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا -والفاحشة: الزنا واللواط- ولا نقص قوم المكيال إلا ابتُلوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان؛ وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا؛ ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم" وفي معجم الطبراني عن ابن عباس: "ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضًا إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم تُرفع أعمالهم، ولم يُسمع دعاؤهم" الحديث.

وللمعاصي من الآثار القيبحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله. وقد ذكر بعض العلماء من عقوباتها ستًا وأربعين عقوبة، منها أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتخرج العبد من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام، وتسبب الرعب والخوف في قلب العاصي، وتؤثر نقصان العقل وفساده، وتمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، وهي سبب لهوان العبد على الله وسقوطه من عينه، وتطفئ نار الغيرة والحياء، وتسلط الأعداء. قال بختنصَّر لدانيال النبي: ما الذي سلطني على قومك؟ قال: عظم خطيئتك، وظلم قومي أنفسهم. ومنها أن العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى تهون عليه، وتصغر في قلبه، قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن القبلة بريد الجماع، والغناء بريد الزنا، والنظر بريد العشق، والمرض بريد الموت.

ومن عقوباتها أنها تجرٍّئ على العبد أهله وخدمه وجيرانه، حتى الحيوان البهيم، قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي. وتجرؤ عليه نفسه فتستأسد عليه، وتصعب عليه، فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له، بل تسُوقه إلى ما فيه هلاكه، شاء أم أبى؛ وتباعد عنه الملَك الموكل به، الذي هو وليه وأنصح الخلق له، وتدني منه عدوَّه وأغشَّ الخلق وأعظمَهم ضررًا له، وهو الشيطان؛ فإن العبد إذا عصى الله تباعد عنه الملك بقدر تلك المعصية، حتى إنه يتباعد بالكذبة الواحدة مسافة ميل من نتن ريحها، كما جاء ذلك في بعض الآثار، فكيف بما هو أكبر من ذلك وأفحَش؟.

وقال بعض السلف: إذا ركب الذكَر الذكر عجَّت الأرض إلى الله، وهربت الملائكة إلى ربها، وشكت إليه عظم ما رأت. وقال بعض السلف: إذا أصبح ابن آدم ابتدره الملَك والشيطان، فإن ذكر الله وكبره وحمده وهلله طرد الملَكُ الشيطانَ وتولاه، وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان.

ومنها أن العبد إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى، والإنابة إليه، والتضرع والانكسار بين يديه؛ ولا يطاوعه لسانه لذِكْره، وإنْ ذكَرَه بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه، ولم تنقد له، ولم تطاوعه.

وقد يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذَّر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيرًا من المحتضرين قيل لأحدهم: قل لا إله إلا الله. فجعل يهذي بالغناء والعزف، ثم قضى ولم يقلها. وقيل لبعض لاعبي القمار والعشَّاق العشق المحرم، فأجابوا بالجواب السيئ الذي استولى على مشاعرهم، ولم يقولوا لا إله إلا الله عند آخر نفَس. فكيف يوفَّق لحسن الخاتمة مَن أغفل قلبه عن ذكر الله، واتَّبَع هواه، وكان أمره فرطًا.

وقد يتأخر تأثيرُ الذنب فيُنسَى، ثم ينقَضُّ -ولو بعد حين- كما ينقضُّ السهم، وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدَّغل، أو يكون ضرره في الدين. وإن أخر له في الآخرة فعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى. ذكر عبدالله بن أحمد عن ابن سيرين أنه لما ركبه الدَّيْن اغتمَّ لذلك، فقال: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصَبْتُه منذ أربعين سنة. ونظر بعض العُبَّاد إلى صبي، فتأمل محاسنه، فأتي في منامه، وقيل له: لتجدن غبها بعد أربعين سنة!.

والمؤمن من لا يستصغر الذنب، قال بعض السلف، ويروى مرفوعًا: "لا تنظروا في صغر الذنوب، ولكن انظروا على من اجترأتم" وقال الفضيل بن عياض: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظُم عندك يصغر عند الله. وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار".

عباد الله! قد يلم المسلم ببعض الذنوب الصغائر أو الكبائر ثم يمنُّ الله عليه بالتوبة فيُقلع عن الذنب، ويندم على فعله، ويعزم على ألا يعود إليه، فينمحي عنه أثر الذنب حتى كأنه لم يذنب. وقد يكون بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، كما حصل لآدم عليه السلام، وذلك بحسب قوة التوبة وكمالها.

فاتقوا الله -عباد الله- واحرصوا على سلامة أنفسكم من صغائر الذنوب وكبائرها، ومن أذنب فليعجل التوبة ليعيش سعيدًا في هذه الحياة، ويفوز بالسلامة والحسنى بعد الممات، وتلك أحسن الغايات والأمنيات.

روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:"إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه". أعوذ بالله من الشطيان الرجيم: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82].

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد، من يعص الله ورسوله فقد غوَى، ومن غوى فلن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا.

أما بعد: فيا عباد الله! سأل رجل الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد! كيف نصنع بمجالسة قوم يخوِّفونا حتى تكاد قلوبنا تنقطع؟ فقال: والله! لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمنًا خير لك من أن تصحب أقوامًا يؤمِّنونك حتى تلحقك المخاوف.

وقد وصف الله أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن. ومن تأمل أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- وجدهم في غاية الجد في العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير، بل التفريط، والأمن!.

ذكر الإمام أحمد: أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- كان يمسك بلسانه، ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وأتى بطائر فأخذ يقلبه ثم قال: ما صِيد مِن صَيد، ولا قُطِعَتْ من شجرة، إلا بما ضُيِّع من التسبيح. وقرأ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "سورة الطور" إلى أن بلغ قوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ) [الطور:7]. فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه. وقال لابنه في سياق الموت: ويحك! ضع خدِّيَ على الأرض عساه، أن يرحمني. ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر لي! قالها ثلاثًا، ثم قضى. وقال له ابن عباس: مُصِّر بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفُعِلَ، وفعل فقال: "وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر".

فاتقوا الله عباد الله، وسيروا إلى الله بين الخوف والرجاء (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) [الإسرَاء:57].
إن أحسن الحديث ...

 

  

 

المرفقات

.. عقوباتها وكيفية الخلاص منها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات