عناصر الخطبة
1/ ضرورة الاعتبار بما في تاريخ الأولين من سنن 2/ المعتمد بن عباد 3/ يحيى بن خالد البرمكي 4/ اغترار قارون بماله 5/ ابن السقاء واغتراره بدينه 6/ العطايا هي محض منح ربانيةاقتباس
فلنا في سنين الأولين عبرة، وفي أخبار الماضين متعظ، ومن عجائب الزمان أن التاريخ يعيد نفسه، والوقائع والأحداث تتكرر وتتشابه، وهذا أمر أكده القرآن؛ فمواقف أعداء الرسل تكررت وتشابهت، قال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) ..
إخوة الإيمان: ما أشد الذل بعد العز، وما أحر الهوان بعد الرفعة، وما أمرَّ الصغار بعد الإجلال، وما أقسى السلب بعد العطاء، وصدق رب الأرض والسماء: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].
فتعالوا إلى حديث مع من اغتر بدنياه، وجعلها غايته ومناه، مع أناس عاشوا حياة العز ثم كان شأنهم ومآلهم إلى سفول، مع أقوام ذاقوا حلاوة الرفعة أزمانًا، ثم نسوا ذلك كله مع أول علقم ذل ذاقوه: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176].
فلنا في سنين الأولين عبرة، وفي أخبار الماضين متعظ، ومن عجائب الزمان أن التاريخ يعيد نفسه، والوقائع والأحداث تتكرر وتتشابه، وهذا أمر أكده القرآن، فمواقف أعداء الرسل تكررت وتشابهت، قال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات: 52 - 53].
أول صفحة نقترب منها في تاريخنا المنسي هي في غرب إفريقيا، وفي بلاد الأندلس تحديدًا، مع رجل اغتر بملكه وزهى بسلطانه، مع ملك إشبيليا، المعتمد بن عباد، أحد ملوك الطوائف ببلاد الأندلس "إسبانيا"، يوم أن كانت أرضًا إسلامية.
ملك ابن عباد أرض إشبيليا فملك معها الأموال الطائلة، والقصور الفارهة، وعاش عيشة باذخة، يتقاصر كل قلم عن وصفها. وحادثة واحدة تختصر لنا حجم البذخ والترف الذي عاشه المعتمد بن عباد وعائلته.
في قصره المنيف وعند نافذة من نوافذه، تقف زوجته وبناته فينظرن إلى نساء يحملن قرب السمن على ظهورهن يبعنه في السوق، وفي طريقهن يطأن طينًا معترضًا، فكن يرفعن ثيابهن بيد واليد الأخرى تحمل القرب.
فاشتهت زوجته وبناته أن يتضمخن بالطين كما تتضمخ هؤلاء النسوة، فأمر ابن عباد بالعنبر والعود، فمد في ساحة قصره، ثم رش بماء الورد عليه، وخلط حتى أصبح مثل ماء الطين، فجعلت زوجته وبناته يمشين على العنبر والكافور، وهكذا أشبعت رغبتهن التافهة، بأموال طائلة، وانتهت سكرة الشهوة، ولكن ما انتهت تبعاتها.
دار الزمان دورته، وما بين لحظة وانتباهتها بدل الله الأمر من حال إلى حال، فدب خلاف بين ملوك الطوائف سقط على إثره المعتمد عن ملكه وأخذ أسيرًا هو وعائلته، فإذا هم يعيشون لاجئين صاغرين، بعد أن كانوا ملوكًا عالين، أما ابن عباد فأودع في سجن أغمات -قرية في المغرب-، وأما عائلته فكانوا خارج السجن، ولكن عاشوا خدامًا، يتلقفون العطايا، بعد أن كان أمرهم مسموعًا، وقولهم مطاعًا، أضحت زوجته وبناته اللائي كن بالأمس يتخوضن في الكافور والعنبر لا يجدن ما يأكلن إلا من قوت قليل، يحصلنه من غزل الصوف، لا يسد إلا بعض حاجتهن.
بقى ابن عباد في ظلمات السجن مأسورًا، ذاق فيه خشونة الحصير، بعد أن كان يتقلب على بساط الحرير، تحول من حاكم يأمر وينهي إلى مأسور يرحمه الناس، ويعتبر به الغير، بقى المعتمد في أسره أشهرًا، لم يزرنه بناته ولا زوجه، حتى كان أول لقاء في يوم عيد، دخلن عليه في هذا اليوم، الذي يتجمل فيه الناس، فرأى ثيابهن رثة، وهيئتهن كسيرة، فصدعن قلبه وأحرقن فؤاده، فهاجت نفسه بهذه الأبيات:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا *** وكان عيـدك باللذات معمورًا
وكنـت تحسب أن العيد مسعدةٌ *** فساءك العيد في أغمات مأسورًا
ترى بناتك فـي الأطمـار جائعةً *** في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورًا
معـاشهنّ بعـد الـعزّ مـمتهنٌ *** يغزلن للنـاس لا يملكن قطميرًا
بـرزن نـحوك للـتسليم خاشعةً *** أبصارهـنّ حسيراتٍ مكاسيرَ
يطأن فـي الطين والأقـدام حافيةً *** كأنها لـم تطأ مسكًا وكافورًا
وكم حكمت على الأقوامِ في صلفٍ *** فردّك الـدهر منهيًا ومأمورًا
من بات بـعدك في ملكٍ يسرّ بـه *** فإنما بات فـي الأحلام مغرورًا
ومن الاغترار بالملك إلى الاغترار بالمنصب، وللمناصب بريقها وفتنتها، هذا يحيى بن خالد البرمكي، تقلد منصب وزير الخليفة، في دولة بني العباس، هذه الدولة التي كانت تحكم من المغرب إلى الهند، قلده الرشيد هارون منصب الوزارة، وفوّض إليه جميع أعماله، فأصبح يحيى بن خالد هو الخليفة بثوب الوزير.
ذكرت كتب التاريخ أن هارون الرشيد قال له: "قد قلدتك أمر الرعية، فاحكم بما ترى، واعزل من رأيت، واستعمل من رأيت، ودفع إليه خاتمه".
ولم يقتصر يحيى البرمكي على هذا المنصب فقط، بل عين أولاده الثلاثة في مناصب عليا في الدولة، فأصبح البرامكة هم المسيطرين على زمام القرار السياسي.
إخوة الإيمان: الدنيا مع الظلم لا تدوم، فقد كان يحيى ظلومًا، أكالاً للموال، تنام عينه لكن أعين المظلومين لم تنم.
سهام الليل لا تخطئ ولكن *** لها أمد وللأمد انقضاء
انقلب الزمان على هذه الأسرة، فأذلهم الله بعد عز، ووضعهم بعد رفعة، فحدث ما يعرف في التاريخ بـ"نكبة البرامكة"؛ غضب الرشيد عليهم، فنكّل بهم، وسجنهم، وقتل أحد أولادهم، وصادر كل أموالهم، وفي غياهب السجن يسأل خالد بن يحيى البرمكي والده: يا أبت: بعد العز صرنا في القيد والحبس!! فقال والده: "يا بني دعوة المظلوم سرت بليل، غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها". ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غدوا في نعمة *** ومنًّا والدهر ريان غَدَقْ
سكت الدهر زمانًا عنهمُ *** ثم أبكاهم دمًا حين نطقْ
ومن الاغترار بالمنصب إلى الاغترار بالمال، وحين نتذاكر الاغترار بالمال فإننا لا نجد مثالاً أبلغ وأوعظ من مثال ضربه القرآن لذلك الرجل الذي أعطاه ربه من المال شيئًا مهولاً، حتى إن مفاتيح خزائنه يعجز عن حملها الرجال الأقوياء.
بغى هذا الغني وبطر، وشمخ وفخر، ونسب هذا الثراء لنفسه وعبقريته: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78]، نسي أن ربه قد أهلك من قبله من القرون، وهو أشد منه قوة وأكثر جمعًا، نسي أن هذا المال غاد ورائح، وأن الذي أعطى قادر على أن يمنع، لم يشعر أن زيادة المال مع المعاصي والأعراض، إنما هو إمهال واستدراج لمن وهب المال.
وفي لحظة خاطفة، ولمحة سريعة عابرة أتاه أمر ربه، فخسف الله به الأرض، فما أغنى عنه ماله وما كسب، تجندل مع غروره في أسفل سافلين، وخسف معه أيضًا داره التي طالما زينها ونمقها وفاخر بها.
هذا نموذج سطره القرآن لمن اغتر بماله، وعقوبة الله لكل مغتر بماله ليس شرطًا أن تكون خسفًا، فقد يعاقبه الله بذهاب ماله وزواله، وكم سجل التاريخ والواقع لأناس عاشوا ثراءً ورفعة ثم عادوا فقراء يمدون أيديهم سائلين متمسكنين.
عباد الله: وأشنع أنواع الاغترار وأفظعها أن يغتر الإنسان بدينه، فيتعالى بعلمه، ويتباهى بفهمه، ويتفاخر بصلاحه، فهذا الغرور يحلق الدين ويذهب الإيمان، وصاحبه على خطر عظيم، إن لم يتدارك حاله.
هذا ابن السقاء رفعه الله بالقرآن، فجوده ومهر فيه، وأخذ شيئًا من الفقه، بيد أنه اغتر بما عنده من علم وفهم، فكان كثير المماراة والمجادلة، حكت لنا كتب التاريخ أن ابن السقاء حضر درس شيخه، فعارض شيخه في مسائل، وشغب عليه أمام الحاضرين، فعاتبه شيخه وأجلسه.
ودارت الأيام والليالي فذهب ابن السقاء إلى ديار الروم فأعجب بما عندهم وافتتن، فإذا قارئ القرآن يزيغ قلبه، وينحرف عن دينه بالكلية، فتنصر والعياذ بالله.
إذا قارئ القرآن يقول: إن الله ثالث ثلاثة! بعد أن كان يفرد الله بالعبادة، أصبح قارئ القرآن يقول: المسيح ابن الله!! بعد أن كان يردد: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1].
وبعد سنين عدة اتفق أن رأى أحد المسلمين ابن السقاء هناك فعرفه، فرأى رجلاً هزيلاً مريضًا جالسًا على دكة فسأل عن حاله، ثم سأله: هل القرآن باق معك؟! فقال ابن السقاء: ما أذكر منه إلا آية واحدة، هي: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر: 2].
فعياذًا بالله من الذلة بعد العزة، ومن الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهداية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: وفيما سبق من قصص عظة وعبرة ورسالة أن لا يغتر إنسان بملكه ولا منصبه ولا ماله ولا علمه.
وليعلم أن هذه العطايا منح من ربه، فإن شكرها وأدى حقها فله الجزاء الأوفى، وإن كفرها وبطر بعدها فعاقبته إلى خسار، جزاءً وفاقًا: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
ليعلم كل إنسان عاقل له قلب أن دنياه غدارة دوارة، الركون إليها جهل، والاغترار بها ضعف في البصيرة، وفي محكم التنزيل: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) [لقمان: 33].
لقد غرت هذه الدنيا أناسًا، فأضحكتهم بزخارفها قليلاً، وأبكتهم بأكدارها كثيرًا، نعيمها زائل، وفرحها راحل: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء: 77]، لذاتها منغصة بكدر، وسرورها مشوب بحزن، وبريقها مؤذن بزوال.
لكلّ شيءٍ إذا مـا تمّ نقصانُ *** فلا يغرَّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول *** منْ سرّه زمنٌ ساءتهُ أزمان
وهذه الدّار لا تبقي على أحد *** ولا يدوم على حالٍ لها شان
لقد نهى الله سبحانه رسوله وأحب الخلق إليه أن يمد عينيه إلى ما متع الله به أهل الكفر من زهرة الدنيا، وقال له واعدًا ومؤكدًا: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه : 131].
وكان نبينا وقدوتنا -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يحذر صحابته من الافتتان بالدنيا والاغترار بها، فأوصاهم قائلاً: "ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم". رواه مسلم.
مع أن الدنيا لم تفتح عليهم مثل ما نراه اليوم من انفتاحة مذهلة، فنحن إلى التذكير بهذا الخطاب والوصية النبوية أحوج وآكد.
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، نعوذ بك أن تشغلنا الفانية عن الباقية، نعوذ بك أن تلهينا الدنيا عن الدين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.
اهدنا للرشاد ووفقنا للعمل والاستعداد ليوم المعاد.
وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية، صاحب الحوض والشفاعة، كما أمركم ربكم فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم